الجمعة، 3 يونيو 2011

المقامة اللُّوديڤيّة

سلمان مصالحة

المقامة اللُّوديڤيّة

حدّثني أبو نَهار المَغاري ذات صباح، عن غير نفرٍ من السّلف الصّالح دخل كلامُ بعضهم في كلام بعض، عن صاحبٍ ثقةٍ لا يهدأ له بال، ولا يقرّ على حال، قال، قال لي عائدٌ من بلاد الغال: اسمع هذه الحكاية عن رحلة التّرحال إلى ما وراء البحار، فلكلّ مقام مقال حتّى كادَ الأمر يلتبس على ذي البصيرة فَيَحار، إذْ ما فتئت اليدُ قصيرة والأكاذيب غفيرة.

قلتُ لهُ: يا صاحِ، هلْ لكَ أنْ تُسْفِرَ عَمّا بَطَنَ خلفَ ذا الوشاحِ من الكلام المسجوع، أو ما تكنّه بين الضّلوع؟ فما أنْ فرغتُ من السؤال حتّى استلَّ من فمه لسانًا صَيْرَفيًّا صارمًا ما مسَّ قطع، فأصابَ أرنبةَ أنفِه فَامْتَقَع، ثمّ نظرَ إليّ نظرَةً مِنْ خَلْفِ نَظّاراتِه ندمتُ إثرها على سُؤالِيهِ واحْتَجْتُ إلى جَلَدٍ في النّفس لِمُداراتِه. وبعدَ أنْ هدأ الغضبُ في نفسِهِ وسكنَ الهيجان، إستعاذَ من الشّيطان، وطفقَ يروي لي حكاية ذلك المهرجان، ضاحكًا باكيًا في آن.

بعد حسن الإستهلال بحمد ذي العزّة والجلال، قال: مع انعقاد دورة جديدة لأصوات المتوسّط الشّعريّة في مدينة لوديڤ في الجنوب الفرنسي، وهي أصواتٌ متنوّعة تنوّعَ الألسن والمشارب، لا بدّ من التّذكير بما يجري في المكان وبما يُكتَب عنه في صحافة (إقرأ منذ الآن: سخافة) العُربان. ففي العام الماضي شارك عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه في المهرجان وكان ما كان. لكنّني حين قرأتُ ما كُتب من مقالات أو ذُكر في مقابلات، سألتُ نفسي الأمّارة بالسّوء، هل كُنّا حقًّا معًا في نفس المكان، أم أنّ بعض الشّعراء العرب المشاركين مصابون بذلك الفصام الـمُزمن الّذي لا سبيل إلى مداواته. أم أنّ كلاًّ منهم كان حقًّا في مكانه يُغنّي على مهرجانه؟

المأساة يا صاح تكمن في أنّ البعض من الشّعراء العرب ينظرون إلى هذا الملتقى الشّعريّ، أو غيره، وكأنّه حلبة صراع ونزال، أو نزاع وقتال في بلاد الغال. وليست هذه الأقوال تُساق هُنا إلاّ عن البعض، لأنّ ثَمَّ آخرين، وليسوا نَفَرًا قليلين، لم يأبهوا بهذه التّرّهات، بل جاؤوا للشِّعر بعيدًا عن الشّبهات، وانتصروا للشِّعر في السّاحات فانتصرَ الشِّعْر بهم أمام النّاس. أمّا أولئك الّذين يوسوس في نفوسهم الوسواس، فقد جاؤوا للمهرجان قِلّة قليلة، وظلّوا سامدين في غيّهم ناشرين علانيةً هذه الخصلة العليلة.

وهكذا كان، فما أنْ عادَ هؤلاء النّفرُ من المهرجان إلى بلادِ العُربان حتّى أخذوا يُطبّلون ويزمّرون في الصّحافة الأبيّة، ويشيعونَ على الملأ بطولاتهم الڤيرطواليّة، مستنجدينَ بتعابير الصّمود والتّصدّي ممّا حمل في تضاعيفه لسان العرب، ناسينَ أو متناسين أنّ حبلَ الكذب قصير، وأنّ الحقَّ لَمْ يفتأْ لهُ في هذه الدّنيا نصير. فأينَ مقارعة الأعداء يا هؤلاء ممّا رأتْ عيناي وسمعتْ أذناي قبلَ عام، وأينَ أولئك الّذين جاؤوا يستنجدون سرًّا طالبين أمورًا لَنْ أفصحَ عنها الآن في هذا المكان، غيرَ أنّه يبدو أنّ رغبة المشاركة في المهرجان قد طغت على بعض العُربان حتّى عادوا يخلطون الحابل بالنّابل، وشعبان برمضان، ويكتبون للقرّاء في الأماكن البعيدة عن انتصاراتهم المجيدة.

وفي الختام، من رأى ومن سمع ما جرى في العام المُنصرم، ليُتابعْ ما يُكتب أو يُقال عن مهرجان هذا العام من جواهر الكلِم. فلكلّ مقامٍ مقال، أو زمرةٌ تروي الأباطيل، وخاصّة عمّنْ يأتي من إسرائيل. وهكذا، فهمتُ أخيرًا لماذا روى لي رفيقي الحكاية فضحكَ حينًا وحينًا بكى، فالطّبعُ عند البعض يغلبُ التّطبيع، رغمَ ما يُشاعُ في الصّحافة على مسامع الجميع.

وأدركَ صاحبي صباحُ العرب فقهقَهَ مليًّا حتّى انْتَحَب.
*
نشرت في: القدس العربي، 26 تموز 2000
______________
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

خريف أميركي - بوسطن (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع