سخافات العربان

سلمان مصالحة

سخافات العربان

(كاريكاتير جديد)
بين فينة وأخرى نجد أنّه ما من مناص من الإشارة إلى بعض الكاريكاتيرات التي تحملها لنا الأخبار عن سلوكيّات العربان. والكاريكاتير هذه المرّة يأتينا من تلك الناحية التي تُعرف بالخليج.

وهذا الخليج كما هو معروف منطقة غنيّة بالنّفط والغاز، وبالإضافة إلى ذلك فهو يعجّ بالأمراء، بالشيوخ وأصحاب السموّ من كلّ ما هبّ ودبّ، ومن كلّ من شبّ وحاز وفاز. كما إنّه تكثر فيه الأحاجي والألغاز. أحاجي الوسواس وألغاز الخنّاس.

والأحجية هذه المرّة لها علاقة بصاحب سموّ فريد. لها علاقة بشيخ ليس كسائر الشيوخ. إنّه صاحب السموّ الشيخ حمد آل نهيان من سلالة أصيلة من ملّة العربان. ولمّا كان الشيخ حمد لا يعرف كيف يصرف كلّ تلك الأموال التي تأتيه من نفط أو من غاز، فقد عقد العزم أن يكتب اسمه في الصحراء ليخلّد ذكرًا له.

ولكي لا يشكّ أحد في هذا التخليد، فقد آلى على نفسه أن يحفر الاسم في الجزيرة بحروف كبيرة تمتدّ مئات الأمتار لدرجة أنّه يمكن رؤية اسمه الحميد من الفضاء. وهكذا كان.

لا ندري كم من الوقت والمال استثمر سموّه في هذا المشروع الذي يُعلي من شأنه ومن شأن أبناء جلدته من العربان. ولعلّه سيسجّل هذا فتحًا علميًّا عربيًّا فريدًا في كتاب چنيس، مثلما عوّدنا العربان في هذا الأوان. فمرّة يسجّلون أكبر صحن حمّص، ومرّة يسجّلون أكبر صحن كنافة. مرّة يسجّلون أكبر تبّولة ومرّة أكبر فقّوسة. وها هم ما شاء الله يسجّلون أكبر اسم محفور في الصحراء.

غير أنّ ثمّة أمرًا لا مناص من الإشارة إليه في هذا الكاريكاتير العرباني الجديد. لاحظوا مدى الاعتزاز بالانتماء لدى هؤلاء العربان. لو تغاضينا بعض الشيء عن المدى الأكبر من السخف الكامن في هذا المشروع أصلاً، فإنّنا أمام ظاهرة فريدة بلا أدنى شكّ. إذ يظهر على الملأ ومن الفضاء مدى عقدة النّقص لدى هذا النوع من العربان. فحتّى الاسم، اسمه لم يكتبه بحروف لغته، لغة العربان. بل بحروف لغة الإفرنج والرومان.

وعلى ما يبدو، فهذه هي الحال مع هذه الملّة. فلا يُملّ من تقليعاتها الغريبة العجيبة، ولا من عقليّاتها الرتيبة. كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت أيضًا في: "شفاف الشرق الأوسط"
____________________

مقالة في رثاء الرجولة العربيّة


سلمان مصالحة ||

مقالة في رثاء الرجولة العربيّة


الأحداث التي تضرب ما يسمّى في هذا العصر “العالم العربي” ليست جديدة على هذه البقعة من الأرض. في ما مضى من قرون خوالٍ كان العرب يستخدمون مصطلح “فتنة” لوصف حال كهذه الحال. هكذا، وعلى سبيل المثال، عندما احتدم الصراع على السلطة إبّان خلافة الأمين والمأمون، فقد عرف ذلك الصراع والتقتيل بـ”فتنة الأمين والمأمون”. ولو شئنا أن نصف الحال العربيّة اليوم مستعيرين هذا الاسم، فيمكننا أن نقول، إنّ الفتن القبليّة العربيّة والطائفيّة على جميع تفرّعاتها هي البنية الحضاريّة العربيّة لكلّ هذه الجموع البشرية منذ ما سحق من أزمان. فكذا كان بدءًا من قيس ويمن، بين الأوس والخزرج، بين بكر وتغلب أو بين عبس وذبيان، مرورًا إلى قتل وسحل الخلفاء من راشدين، أمويين وعبّاسيين وانتهاءً إلى آخر ما آل إليه المصير في هذا الأوان.

وما على القارئ إلاّ أن يتفكّر قليلاً في ما جرى في العراق من تقتيل طائفيّ وقبلي على مرّ الزّمان، وما يجري الآن فيه ويجري في سائر بلاد العربان. فقد يكون للقارئ العربيّ الكريم في كلّ ذلك أسوة سيّئة يجدر به مداراتها. كما قد يتساءل القارئ، كيف ذا حوّل الـ”بعثان”، وهما حزبان رنّانان طنّانان بأيديولوجية واحدة، بلادهما إلى مزارع قبليّة وطائفيّة تحكم قتلاً وسحلاً وتستعبد العباد، بينما تملأ الفضاء الإعلامي بشعارات القومية والوطنية والحرية والاشتراكية وما إلى ذلك من تعابير ثورية؟

وقد لا يجد القارئ بدًّا، على سبيل المثال، من النّظر إلى بلد صغير كلبنان. وهو بلد طالما أُشبعنا شعارات عن كونه بلدًا فريدًا وحيدًا متقدّمًا على سائر البلدان من بغداد لتطوان. فهل هذا بلد حقًّا، أم أنّه مزارع طائفيّة وقبليّة؟ فلكلّ طائفة من تشكيلته البشرية الغريبة العجيبة كبشها وزعيمها في السرّاء والضرّاء، وجميع هؤلاء يتوارثون هذه الزّعامات القبلية والطائفية منذ أن ظهروا على مسرح التاريخ. أوليس في ذلك ما يجعل المرء يتفكّر قليلاً فيما ينطق به العرب على الملأ، مقارنة بما هو حاصل على الأرض في واقع الحال.

ولهذا السّبب، ولشدّة ما ينتاب المرء من وصب على ما آلت إليه أحوال العرب، يحاول في بعض الأحيان أن يهرب إلى عالم الأدب الّذي يُخفّف عنه من وطء هذه الكلاكل ومن كثرة هذه القلاقل. ولمّا كانت الحال على هذا المنوال فقد وجدتني أعود إلى أخبار من عاش ورأى رأي العين ما حصل من فتن في قديم الزّمان.

ومن بين هؤلاء الذين كانوا شهودًا على بعض تلك الفتن قديمًا، نذكر راشد بن إسحاق الكاتب. فلمّا رأى أبو حكيمة، وهذه كنيته التي اشتهر بها، كلّ ما جرى من فتنة بين الأمين والمأمون فقد تفجّع على تلك الحال شعرًا، وقال: “وما ضَرّ قومًا يَسفكون دماءَهم - صَفا المُلكُ للمأمون أو لمُحمّدِ/ لهم كلّ يومٍ وقعةٌ صَيْلَميةٌ - تَروحُ عليهم بالمنايا وتغتدي”.

غير أنّ صيت أبي حكيمة هذا قد ذاع في ذلك الأوان لأسباب وأغراض شعرية أخرى بعيدة كلّ البعد عن هذه الأسباب. ولعلّ من المفيد أن ُنخفّف قليلاً من أثقال كلّ هذه الأحمال التي تجثم على صدر العربيّ في هذا الزمان، فنورد له بعضًا من شعر الشّاعر لما فيه من كلام مسبوك ومن حسّ مرهف ومن صدق في المشاعر.

فقد ذكر لنا السّلف الصالح، كابن المعتزّ في الطبقات، أنّ أبا حكيمة هو من جملة نفر، أو هو أحد جماعة: “كانوا يصفون أنفسهم بضدّ ما هم عليه، حتى اشتهروا بذلك. منهم: أبو نواس، كان يكثر ذكر اللواط ويتحلى به، وهو أزنى من قرد. وأبو حكيمة: كان يصف نفسه بالعنة والعجز عن النكاح وكان يقال: إنه يقصّرُ عنه التيس.”

وقد أورد ابن المعتز خبرًا طريفًا أنّ أحمد بن أبي طاهر أنشد أبا حكيمة بيتين في هذا الباب فقال أبو حكيمة: “والله إنه لا شريك لي في هذا الفن، وإني قد تفردت به من دون الخلق، وأنا أعطي الله عهدًا يأخذني به إن أنا قلت شيئًا بعدها في هذا المعنى”. وها هو الثعالبي يذكر لنا في ثمار القلوب سبب طرق أبي حكيمة هذا الباب في شعره، فقد ذكر لنا أنّ أبا حكيمة: “كان يكتب لإسحاق بن إبراهيم المصعبي، فاتّهمه بغلام له، فأخذ في هذا الفن من الشعر تنزيها لنفسه عن التهمة.”

مهما يكن من أمر وأيًّا كانت الأسباب، فقد ترك لنا أبو حكيمة شعرًا جميلاً في باب المراثي، وهي المراثي التي أفردها لأيره. ولقد حقّ لسكّان بلاد العرب أن يقرؤوه على الملأ وأن يدرسوه في هذا الأوان بالذّات، لما فيه من ترويح عن نفوسهم. فها هو أبو حكيمة يبثّ شكواه شعرًا في على الملأ: “أَيحسُدُني إبْليسُ داءينِ أصْبحَا - برَأسي وجِسْمِي دُمّلاً وَزُكاما؟/ فَلَيتَهُما كانَا به، وأَزيدُهُ - زَمانَةَ أَيْرٍ لا يُطيقُ قِيامَا/ إذا انتَبَهَتْ للنّيْكِ أَزْبابُ مَعْشَرٍ - تَوَسَّدَ إحْدَى خِصْيتيهِ ونَامَا”. وها هو يشير إلى ذلك الميت بين رجليه لا يجد له كفنًا: "يُكفّنُ الناسُ موتاهم إذا هلكوا - وبين رِجلَيَّ مَيْتٌ ما له كَفنُ.”

وبخلاف ما اعتاد عليه العرب في جاهليّتهم من الوقوف والتباكي على الأطلال، فقد نحا أبو حكيمة منحى آخر على غرار أبي نواس. وإذا كان الحسن بن هانئ قد عبّر عن استهزائه بتقاليد العرب قائلاً: “قل لمن يبكي على رسم درسْ - واقفًا، ما ضرّ لو كان جلسْ؟”، وبدل ذلك عاج يسأل عن الحانات: “عاج الشقيّ على رسم يسائله - وعجت أسأل عن خمّارة البلد”، فإنّ أبا حكيمة يقف باكيًا مسائلاً رسوم أيره الدارس: "لا يُوحشنّك فَقْدُ الحَيّ إن رَحلُوا، - دعْهم! لكلّ فقيدٍ منهمُو بَدَلُ/ ولا تقفْ بين أطلالٍ تُسائلُها - فلنْ يردّ جوابَ السائل الطّللُ/ ولتَبكِ عَينُك أيرًا لا حراكَ به - لا اللّمْسُ يُنْشطهُ يَومًا ولا القُبَلُ". كما نراه في مكان آخر يبدع تشبيهًا لأيره في معاناته هذه: "ينام على كفّ الفتاة وتارةً - له حركاتٌ مما تُحسُّ بها الكفُّ/ كما يرفع الفرخُ ابنُ يومَيْن رأسَه - إلى أبويه، ثمّ يُدركهُ الضّعفُ".

والشيء بالشيء يُذكر: لقد أشيع في وسائل الإعلام، ولا أدري مدى صحّة هذا الخبر، أنّ زعيم قبيلة “قذّاف الدّم” (لاحظوا المعنى السّلمي في هذا الاسم)، قد وزّع على الجنود من أتباعه أقراص الڤياغرا الشهيرة بمفعلوها الجنسي. لقد كنت أشرت في مكان آخر إلى أنّ للأسماء تأثيرًا كبيرًا على مصير وسيرة حياة الأفراد والجماعات. وعلى ما يبدو فإنّ من يتسمّى بـ”قذّاف الدّم”، قد كُتب مصيره في هذا الاسم.

كما أتذكّر الآن أنّي قرأت خبرًا قبل مدّة مفاده أن أكثر من ستّين بالمائة من الرجال في الأردن يعانون من العجز الجنسي. والحقيقة أنّي أميل إلى تصديق هذا الخبر، مع أنّنا لا نكاد نرى شعرًا أردنيًّا في هذا الباب، رغم ما يُقال من أنّ الشّعر تعبير عن مكنونات النفس البشرية. وهكذا، فلدى قراءة الخبر عن حال رجال الأردن تذكّرت حديثًا جرى لي مع سائق تاكسي أردني قبل أعوام.

كالعادة، مع هذا الصنف من السائقين، فقد تجاذب معي أطراف الحديث بينما كان يقلّني في شوارع عمّان. وبينا نحن كذلك سألته عن شيء لفت انتباهي في البلد، وهو عدم رؤية رجال أردنيّين تنفرج أساريرهم. فلم أشاهد رجلاً يبتسم أو يضحك في هذا البلد، فسألت السائق: لماذا هذه الحال؟ فكان ردّه بما معناه: “إنّ الابتسام أو الضحك ليست من سمات الرّجال لدينا، ولذلك فهم متجهّمون دائمًا”. ولكنّي الآن وجدت تفسيرًا آخر لهذا التّجهّم. إذ ها هو البحث الأردني الآنف الذكر يفسّر لنا الآن أسباب هذا العبوس. فعلى ما يبدو، إنّ كلّ سمات الرجال هذه التي تحدّث عنها السائق، ليست سوى ذلك القناع الذي يُخفي من وراءه ذلك العجز الجنسي.

وعلى هذا المنوال، يمكننا القول بما يلي: كلّما رأيت عربيًّا يتظاهر بالرّجولة بإبراز شاربيه، فما عليك إلاّ أن تنسب أسباب هذا التّظاهر إلى عجز خفيّ في مكان آخر. إذ أنّ هذا التظاهر بالرّجولة هو القناع الذي يخفي وراءه أمورًا يصعب الإفصاح عنها في مجتمع قبليّ وذكوري في آن معًا. وفي هذا السّياق، يتذكّر الجميع بلا شكّ كيف قام رئيس طغمة البعث الحاكمة في الشّام ووصف الآخرين بـ”أنصاف الرجال”.

وهكذا، فمثلما هي الحال مع الأفراد، كذا هي الحال مع الأنظمة العربيّة. فكلّما ارتفعت شعارات الممانعة والمقاومة على الملأ، كلّما كان ذلك دليلاً على عجزها الحقيقي في دعاوى هذه الرجولة. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت أيضًا في: "شفاف الشرق الأوسط"
_________________________

آچي مشعول | قصيدتان

آچي مشعول | قصيدتان

النّسر

على الطّريق وَجدتُ
جُثّة نَسْر.

مَخالبُهُ انْقَبَضتْ على بقايا هواء
حاولتْ أن تَتشبّثَ بشيءٍ ما.

من ريشاته المُتحرّكة في الرّيح نَتَفتُ ثلاثًا -
لعبةً للقطّ الجديد.
***

كلب ينبح

كلبٌ ينبحُ في اللّيل
نُباحًا حادًّا يتكوّر ويطولُ،
يُمسي نَحيبًا.
النّحيبُ يمتدُّ إلى القَمر.
الكلبُ النّاحبُ إلى هناك
لا يعرف.
والإنسان الذي ينصتُ له
لا يعرف.
الجسدُ الذي يُطلقُ النّحيب
يعرف.
النّحيب يعرف.

***
ترجمة من العبرية: سلمان مصالحة

لقراءة مجموعة أخرى من قصائدها بترجمة للعربية، انقر هنا

***
For Hebrew, press here
_______________

تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته



لا يستطيع القارئ أن يعثر في رسالة أدونيس الاستجدائيّة هذه على أيّ صيغة تشفع له أمام هول ما يجري في الشّام. كما ليس في رسالته أيّ موقف أخلاقي ممّا تعرضه الشاشات، وما يتسرّب إلى اليوتيوب من صور المجازر التي يرتكبها هذا النّظام البعثي الفاشي.

خيوط دخان


ذاكرة - كذا كان:


سلمان مصالحة ||

خيوط دخان


البحث عن المكان هو بحث عن ساكن المكان، صائتًا كان أم صامتًا، رائدًا كان أم جامدًا. الصّامت صائتٌ من حيث هو يُخبر عن حاله بصمته، والرّائد يبحثُ عن أصوات جمدت أصداؤها في حجر، في أثرٍ باقٍ رغم تبدُّل السّنين والأعوام. هكذا كان وهكذا سيكون إلى يوم يبعثون ما دامت عجلات هذه الآلة الغريبة تدور وتدور. ما هي هذه الآلة التي شاعت تسميتها بالذّاكرة؟ هل هي من صنف الآلات التي يجب تشحيمها بين فينة وأُخرى؟ ماذا يعلق بها، وماذا يتناثر من بين دواليبها فتذروه الرّياح ليحطّ في أركان خافية عن الذّهن والعيان؟ ها هي هذه الأسئلة تراودك وأنت قابع في مكتبك بعيدًا بعيدًا عن سنوات تصنيع ذاكرتك الأُولى. وحين تنظر إلى خيوط الدّخان المتسامية في فضاء الغرفة، تحاول جاهدًا أن تُمسك بطرف خيط منها الآن في هذه اللّحظة، مثلما كنتَ تمسك بطرف خيط طيّارة ورقيّة في ساعة عصر مرحة من ساعات ذاكرة بعيدة هناك في الشّمال القريب البعيد في آن. هل تُقاس المسافات بالأمتار، بالأميال وبالفراسخ، أم أنّها تُقاس بوحدات أُخرى لم تنكشف بعد أسرارها؟

حين تدلف هذه التّساؤلات إلى الذّهن من مخابئها وتحملك على المضيّ معها قدمًا، ترى مِنْ عجبٍ أنّك لا تمضي قدمًا، بل تأخذك الهواجس في رحلة إلى وراء. وهذا الوراء البعيد يصير قريبًا حتّى يُشَبَّهَ لك أنّك تملك أنْ تمدَّ يدك فتمسك به. يا لها من آلة غريبة! إنّها تختزل الزّمان والمكان برمشة عين.

المسافات ليست جغرافيا ولا حركة أفلاك ومجرّات. المسافات شيء آخر لا علاقة له بالجبال والوديان والبحار. المسافات هي تلك العتمة الّتي تحجب عن العينين تضاريس الشّيء. لا حاجة أن يكون هذا الشّيء بعيدًا مئات الكيلومترات والسّاعات لكي تشعر كما لو أنّه يقع وراء سبعة بحور. قد يكون هذا جارًا لا تعرف عنه سوى طلعته العابرة حينما تلتقيه في الدّرج. تحيّة منك أو منه تُلقَى لمجرّد الحفاظ على آداب الجيرة، ثمّ يمضي كلّ في حال سبيله إلى حيث تقوده رجلاه. المسافات هي تلك العتمة الّتي لا يملك الفردُ أن يرى عبرها غير الأوهام. والأوهام غيب والغيب بعيد.

ها هي خيوط الدّخان المتسامية من سيچارتك تلتفّ حول رأسك المُثقَل بذكريات أُولى من مكان أوّل، لا أوّل له ولا آخر. إنّها هي هي البحيرة الّتي ارتاحت على مرمى النّظر في التّلال الّتي رأيت فيها النّور. والنّور هذا كنت تراه يخرجُ من ذلك السّتار المُسدَل خلفها نَصيفًا شفّافًا، حتّى يتشكّلَ كرةً كبيرةً من ذهب تتهادى فوق البحيرة. كان الشّيوخُ الكبار يُشيرون بأصابعهم نحو الكرة السّائرة على مهل في عرض السّماء ويقولون للصّغار إنّ اسمَها القمرُ. ثُمّ يدورون رافعين رؤوسهم نحو الغرب حتّى تقع أبصارهم على نجم مشعّ في الأُفق الغربيّ حيث اختفت وراءه الشّمس معلنةً نهاية يوم آخر. في تلك اللّحظات كنت تدير برأسك المُثقَل بأوهام هذا الكون المترامي الأطراف، وها أنت الآن في مكتبك، وها هي ذات الأوهام لم تتغيّر. لقد تغيّرتَ أنت فقنعت بأنّها خالدة معك، وصرت ترى فيها جَمالاً ومتعةً ونشوة. نعم، الوهم حلم فكيف تكون الحياة بلا أوهام!

في سنوات الطّفولة تكون الأوهامُ والأحلامُ كبيرة، ومع دوران الأفلاك ومرور الأعوام تأخذ تلك الأوهام بالانكماش. وهذا هو الخطر الدّاهم الّذي يُحْدق بكلّ من اتّخذ الحروف والكلمات سميرًا له في وحدته. الكلمات منبع دافق للأوهام، عينٌ ساهرة لا ينضب أبدًا دمعها. إذا جفّت الكلمات تُركت على قارعة الطّريق فلا تصل مع الرّيح إلى الأرواح. وها أنت والكلمات نديمان مدمنان على المسير في رحلة انتحاب على ما كان، وعلى ما لن يكون إلاّ في لحظة من هذه اللّحظات المحمولة على مركبة غريبة إلى تخوم الغيب الحاضر فيك أبدًا.

تعتلي دفّة المركب، الزّورق الشّراعي الّذي حفظته في رُكن من أركان ذاكرتك، وتنتظر هبوب الرّياح الّتي تقودك إلى حيث تشتهي أنتَ، لا ما يشتهي لك غيرُكَ. وبين تلاشي دوائر الدّخان في فضاء الغرفة وتشكّل دوائر أُخرى تتعقّبها في حركات متغنّجة، تهبّ عليك بعض نسائم عليلة من أُفق خفيّ فتنبسط أشرعتك ويتحرّك الزّورق في بحر هادئ الموج نحو جزيرة بعيدة لا تزال روائحها تعبق في ذاكرتك.

في سنوات السّتين من القرن المنصرم قادتك رجلاك، أو بالأَحرى قادتك مركبة على عجلات، إلى قرية الرّامة الجليليّة. لم يكن في قريتك، المغار، مدرسة ثانويّة، فكان عليك وعلى أمثالك، ممّن كُتبَ له أن يفكّ الحرف، البحث عن مفاتيح فكّ الحروف في مدرسة ثانويّة في بلد قريب أو بعيد. كان هناك من ذهب بعيدًا، وكان هناك من ذهب قريبًا.

أنت ذهبت قريبًا، أوّلاً إلى عيلبون، تلك القرية الوادعة المقابلة للمغار جنوبًا، وبعد عام آخر إلى الرّامة الّتي اختفت وراء الجبل في الشّمال الغربيّ. في سنوات طفولتك الأُولى كنت تصعد الجبل مع رفاق لك تغيرون على تينة هنا، أو لوزة هناك، أو تقتطفون قطفًا عنبًا قبل موسم نضوجه، فتتلذّذون على مذاقه. أحيانًا كنتم تعتانون ببعض الملح لتخفيف حموضة ذلك الحصرم. كانت البحيرة في الجنوب الشّرقيّ تمتدّ أمام أعينكم فتسرحون وتمرحون وتحلمون بالوصول إليها في يوم من الأيّام.

هل للشّقاوات نكهة خاصّة في ما يتشكّل من ذاكرة على مرّ الزّمن؟ لا شكّ في أنّ كثيرًا من ذاكرة الطّفولة يتشكّل من تلك المشاهد الّتي تختفي وتظهر كما لو كانت شريطًا مسجّلاً على جهاز خفيّ يعمل من تلقاء نفسه في لحظات غريبة. تنتقش الشّقاوات في الذّاكرة كما لو كانت نقشت في حجر يبقى أثرًا تستطيع العودة إليه فتنتشله من هذه البئر فتُلقيه في بركة هادئة لتبدأ دوائر الماء تتسارع أمام ناظريك. تشعر الآن بنوع من الإرتياح لأنّ هذه النّقوش لم تختفِ من ذاكرتك، رغم دورات كثيرة من غروب الشّمس وشروقها.

تقول لنفسك، فكم بالحري إذا كانت هذه الذّكريات قد نُقشت في ذهنك من مرحلة ثانويّة حيث بدأ نبات خفيّ يعلو بشرتك الّتي اعتدت على كونها غضّة. حاولتَ، قطعةً من الزّمن، أن تغضّ الطّرف عمّا يتنامى سرًّا دون أن يستأذنك، ولكن سرعان ما تكتشف سرًّا آخر من أسرار الحياة كنت ظننت أنّه لك وحدك.

ها هي خيوط الدّخان الصّاعدة إلى حيث تتلاشى بعد أن تتقاذفها نسمة خفيفة تهبّ من شرفة مفتوحة على حديقة وادعة في شارع وادع في القدس الغربيّة من شتاء العام 2003. الهدوء هذا يذكّرك بهدوء القرية الّتي نشأت وترعرعت فيها. لقد هجر هذا الهدوء القرية وجاء معك إلى المدينة. لقد ارتبطتَ بالهدوء مثلما ارتبط بك، فذهب معك أنّى رحلتَ وأنّى حللتَ.

السّاحة الّتي انبسطت أمام بناية المدرسة الثّانويّة في الرّامة كانت مسرحًا لبعض المرح. كان الطّلاّب القادمون من قرى مختلفة يختلطون فيما بينهم، أو يسارعون فيتجمهرون حول بائع المناقيش الّذي كان يعرف ساعة الإستراحة فيأتي بسيّارته محمّلاً بهذه العجينة بعد أن تكون لفحتها النّار مع الزّيت والزّعتر. كذا كان يفعل الطّلاّب، بينما الطّالبات القلائل اللّواتي وصلن إلى المدرسة الثّانويّة في تلك الأعوام فلم يكنّ ينزلن إلى السّاحة، بل كنّ يبقين فوق في الشّرفة الّتي كانت ممرًّا يوصل بين غرف التّدريس. كنّ يتمشّين ذهابًا وإيابًا وبين الفينة والفينة يُلقين نظرة خاطفة على الهرج والمرج في السّاحة.

النّظرات والبسمات الخاطفة الّتي كانت تُلقى من فوق كان يتلقّفها البعض، أو جميع من ينتبه إليها وكانوا كثرًا، كما لو كانت حُبًّا خاطفًا، أو هكذا خُيّل لهؤلاء المتوهّمين الهائمين. أمّا أنت فلم تكن بأحسن حالاً من هؤلاء الحالمين. وها أنت لا زلت حالمًا هائمًا على وجهك في رحاب ذاكرة تتراكم أمام عينيك كالسّراب. كلّما حاولت الاقتراب من شاطئها قادتك رجلاك إلى بقعة أُخرى، فلا يستكنّ هبوب الرّيح ولا تستريح.

خيوط الدّخان تتعالى في فضاء الغرفة الآن وترسم لوحة من زمان ومكان بعيدين. في الطّرف الشّرقي من السّاحة كان درج يصعد ثمّ يتّجه يمينًا نحو جناح جديد أُضيف إلى البناية. كان هذا الجناح مؤلّفًا من غرفتين-صفّين في بناء موقّت لتسارع أعداد المنتسبين للدّراسة الثّانويّة. كنتَ تجلس هناك في طرف الغرفة وتنتظر درس الأدب العربيّ الّذي كان يمليه عليكم الأُستاذ شكيب جهشان. كانت الحشرجات في صوته، وكان السّعال بفعل الدّخان. لم تكن السّيچارة تفارق أصابعه حتّى في أثناء إملاء الدّرس. أمّا الطّلاّب الّذين يدّخنون فكانوا يدلفون في الإستراحات إلى المراحيض لاقتناص سيچارة هنا وسيچارة هناك.

في دروس العربيّة وصل إلى أسماعك أنّ الورد واللّيث والأسد واحدٌ رغم أنّ أصولها مختلفة، كأن تقول محمودًا ومحمّدًا وحميدًا، أو حسنًا وحسينًا من أصل واحد. ورويدًا رويدًا بدأت تعشق هذه اللّغة وأدبها. وكم سُررتَ حين عرفت أنّ المتنبّي ذكر البحيرة إيّاها الّتي حلمت طفلاً بالوصول إليها:

وَرٌد إذا وَرَدَ البُحيرةَ شاربًا
وَرَدَ الفُراتَ زئيرُهُ والنّيلا

فحفظت البيت عن ظهر قلب، وكنت كلّما رأيت البحيرة ذكّرتك هذه بالشّعر العربيّ فأنشدتَ بيت المتنبّي لنفسك. ولمّا كانت البحيرة تختفي عن الأنظار، كنت تنشد بيت الشّعر فتتشكّل البحيرة أمام ناظريك من جديد. وكم كنتَ تُسحرُ عندما كان الأُستاذ شكيب يحاول تمثيل جرس الألفاظ الدّالة على المعنى في صوته الأجشّ حين يُنشدُ في فضاء الصّفّ بيتًا آخر للبحتري. كان يخطو بضع خطوات نحو شبّاك الغرفة، ينفخ دخان سيچارته في الهواء الطّلق ثمّ يعود بطيئًا إلى مركز الصّفّ فيُنشدُ مؤكّدًا مشدّدًا على كلّ حرف:

يُقَضْقضُ عُصلاً في أَسرّتها الرّدى
كَقَضْقضةِ المقرورِ أَرْعدَهُ البَرْدُ

فكانت القافات والرّاءات تملأ الصّفّ فتنجلي الصّورة أمام الطّلاّب دون حاجة إلى إطالة في الشّرح أو إطناب.

حُبّ اللّغة العربيّة والشّعر العربيّ دفعك إلى محاولات الإدلاء بدلوك، ومحاولة نظم أبيات هجائيّة فيها نوع من الدّعابة. كنت تقرأها على زملائك فيتلقّفونها ويحفظونها ويردّدونها في السّاحة ساعة الاستراحة. الطّالب الّذي كان يحظى ببعض الأبيات الهجائيّة من جعبتك يصير ذائع الصّيت بين طلاّب المدرسة، فتنتقل الأبيات بين الصّفوف كالنّار في الهشيم، فتتعالى الضّحكات ويكثر المرح والمزاح. فحين كَنّيتَ أحد الفسّائين بأبي الرّياحين سمع الزّملاء الشّعر وتناقلوه حتّى ذاع اسمه في المدرسة فصار يتجنّب الظّهور في السّاحة. كان هنالك من ينكبُّ بعد أن أصابته سهام الهجاء مهمومًا حزينًا، ثم يحاول الإفلات من هذه الشِّباك محاولاً نظم ردّ، غير أنّ القريحة واللّغة لم تكونا تسعفانه، فيتعاظم الضّحك منه وعليه.

نصيب المعلّمين من هذه الأبيات المنظومة لم يتأخّر عن الشّيوع في السّاحة على ألسنة الطّلاّب. لقد انضمّ الأُستاذ نبيه القاسم بقامته النّحيفة إلى سلك التّدريس معلّما للّغة العربيّة، فتعرّفت عليه مدرّسًا وتعرّف عليك دارسًا، وسرعان ما تعرّف عليه سائر الطّلاّب بعد أن حبوتَه ببيتين من نظمك:

أهلاً نَبيهُ، بأرْضِ رامَةَ نَوَّرَتْ
مِنكَ اللّيَالِي السُّودُ نُورَ المَشرِقِ
يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الأنامِ بِلَحْمِهِ
وَيَظَلُّ مَهْزُولاً بِأرْجُلِ لَقْلَقِ

ولمّا لم تكن من الممتازين في الرّياضيّات والهندسة، بل كنتَ متوسّطًا، فقد استعنت بالنّظم لتخفيف وقع هذه الدّروس عليك. أُستاذ الرْياضيّات، الأستاذ نافذ حنّا، كان دمثًا خلوقًا مبعثرًا على غرار كلّ المدرّسين لهذه المادّة، فالقوانين والمعادلات وخباياها تذهب بهم كلّ مذهب. فلم تتمالك في أن تقول:

عَجبًا لِنافِذَ، مَا تَراهُ وَاجِمًا
دَوْمًا يُغَنِّي للغَوَانِي النَّاعِمَهْ
وَإذَا تَوَانَى فِي غِناءٍ مَرَّةً
فَلأنَّهُ ذَكَرَ الزَّوايَا القَائِمَهْ

وكان أن وصلت الأبيات مسامع المعلّمين، بمن فيهم الأُستاذ نبيه والأستاذ نافذ. وكنت تخشى من عقاب شديد سيُنزل بك لهذه الشّقاوات المنظومة والشّائعة على الألسن في المدرسة. غير أنّ العقاب لم يأت، بل فهمت أنّ المعلّمين يتقبّلونها بروح من الدّعابة، فراقت نفسك لذلك وحفظت لهم هذه الرّوح على مرّ الزّمن.

والآن حين تتفحّص هذه الذّاكرة مع خيوط الدّخان تفطن إلى أنّك لم تنظم في تلك الأيّام الغابرة شعرًا في الأُستاذ شكيب جهشان. هل أنت نادمٌ على هذه الغفلة بعد أن فارق هذه الدّار إلى دار قرار؟ رُبّما. لكنّك، ولكي لا تنسى ولكي لا ينسى زملاء قد يقرأون هذا الكلام في مكان ما عن تلك الأعوام، تُحاول الآن أن تتمّ العهد وتفي بالوعد:

قِفْ للمُعلّمِ وَارْسمِ الإكْلِيلا
فِي هَالَةٍ مِلْءَ الدُخَانِ جَمِيلا
لَوْ كُنْتَ تَنْقُشُ ذِكْرَهُ فِي رُقْعَةٍ
لَنَقَشْتَهُ، مِنْ أَفْعَلٍ، تَفْضِيلا

وحين تفرغ من هذه الكلمات، تنظر إلى الطّاولة، فترى أنّ السّيچارة قد خبت في المنفضة، وتلاشت خيوط الدّخان من فضاء الغرفة. لقد حملتها نسمة خفيفة إلى الفضاء الأرحب خارج البيت، خارج الشّعر.
*
نشر النصّ في: مجلة “مشارف”، عدد 20 ، حيفا 2003، ص 222-227
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!