حاييم غوري: "خلخال ينتظر الكاحل"، قصائد



حاييم غوري

"خلخال ينتظر الكاحل"

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة



ولد حاييم غوري (Haim Gouri) في تل أبيب في العام 1923، وبهذا يكون قد نشأ وترعرع في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين فكان شاهدًا على ما جرى فيها من أحداث مصيريّة حتّى حصول النّكبة الفسطينيّة وقيام دولة إسرائيل. في العام 1941 إنضمّ چوري إلى كتائب الـ "پلماح" (وهي تعبير عبري مركّب من كلمتين، پْلُوچُوت ماحَتْس، أي الكتائب السّاحقة، أو الصّاعقة)، الّتي حاربت إبّان الانتداب البريطاني قبل قيام دولة إسرائيل، ولاحقًا انخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي حتّى تمّ تسريحه. درس حاييم غوري الأدب في الجامعة العبريّة في القدس، كما درس الأدب الفرنسي في جامعة السّوربون في پاريس. حاز جوائز أدبيّة مختلفة، منها جائزة "بيالك" للعام 1975، ثمّ جائزة إسرائيل للعام 1988.

أصداء من تلك الفترة، من الأجواء والأفكار الّتي كانت تجول في مخيّلة القيادات الصّهيونيّة عشيّة وأثناء الحرب، يمكن أن نعثر عليها في شهادة قدّمها حاييم غوري في محاضرة له في كليّة الأمن القومي، نشرت لاحقًا في مجلّة معرخوت 1998، عدد 359. فهو يروي في تلك الشّهادة عن محادثة جرت بينه وبين داڤيد بن-چوريون رئيس الحكومة الإسرائيلي الأوّل: "طلب يغئال ألون احتلال كل أرض-إسرائيل غربيّ نهر الأردن، لكنّ بن-چوريون عارض ذلك بحزم. في أوائل ربيع العام 1949 سألتُ بن-چوريون، لماذا لم تقم باحتلال كلّ أرض-إسرائيل. أجابني: "التّورُّط في الفضاء العربي المعادي كان سيضعنا أمام خيار لم نكن لنصمد فيه - إمّا أن نقوم بطرد مئات آلاف العرب، وإمّا أن نضمّهم إلينا. لقد كانوا سيهدمون الدّولة الفتيّة من الدّاخل. هذا الأمر كان سيجرّ معه تَورُّطًا وإشكاليّات مع الدّول العظمى، كما أنّ خزينة الدّولة كانت فارغة. لقد قمنا باحتلال مساحة أكبر بكثير ممّا كان مخصّصًا لنا في قرار التّقسيم، ونحن مقبلون على عمل كبير لجيلين أو ثلاثة أجيال. التّاريخ لم ينتهِ بعدُ".

معنى هذا الكلام، كما يرويه حاييم غوري، هو أنّ الحديث عن الدّيموغرافيا ليس بالأمر الجديد على الساحة السّياسيّة الإسرائيليّة، وإنّما كان في صلب القرارات الصّهيونيّة منذ بداية الصّراع في فلسطين. وبما أنّ التّاريخ "لم ينته بعد" كما ذكر بن-چوريون، بل على العكس من ذلك، إذ سرعان ما جاء حزيران في العام 67 ليتمّ احتلال "أرض إسرائيل" غربيّ نهر الأردن مثلما كان رغب في ذلك يچئال ألون الّذي شغل لاحقًا مناصب وزاريّة في حكومات إسرائيليّة متعدّدة. لقد شارك حاييم چوري، كما يروي في كتابه "حتّى بزوغ الفجر"، في حرب حزيران، فيقول: "في حرب الأيّام الستّة، في حزيران 1967، تمّ توحيد البلاد بين نهر الأردن والبحر. أنا أيضًا شاركت في المعركة". غير أنّ "توحيد البلاد" هذا، كما يصفه غوري، قد وضع إسرائيل أمام مأزق جديد قديم. فها نحن في العام 2005 وها هو الحديث عن الدّيموغرافيا الفلسطينيّة في إسرائيل يطفو مرّة أخرى على السّطح وبحدّة أكبر.

ولعلّ أوضح ما يعبّر عن عمق هذا الصّراع القائم على هذه الأرض، ما نجده في هذه الكلمات الّتي يتعرّض فيها حاييم چوري إلى علاقة المستوطنين اليهود في هذه البقعة من جهة، ومع الفلسطينيّين أهل هذه الأرض من الجهة الأخرى. إنّها علاقة انجذاب وتباعد في آن معًا. إنّه إنجذابٌ إلى ما يمثّله العربُ بوصفهم صورة قديمة عن الحياة في هذه الرّبوع. وهي صورة تعكس، في ذهن المستوطنين الأوائل، حياةً هي أقرب إلى صورة مُتَخيّلة عن بني إسرائيل القدماء. ولكن، من الجهة الأخرى، ثمّة تباعد بين الفريقين لأنّ أهل هذه البلاد يصرّون على عنادهم بالتّشبّث بأرضهم، ليس فقط كحقّ طبيعي وإنّما كحقّ وطني له أبعاد سياسيّة. يكتب چوري: "جئنا من المدن العبريّة، من المستوطنات والقرى والكيبوتسات، من السّطوح الحمراء وخزّانات المياه. لكنّنا انجذبنا، كما في السّحر، متوتّرين ومتأهّبين أحيانًا، إلى المدن العربيّة، الأزقّة والأسواق. في نظرنا، البلادُ كانت أيضًا قُرَى الطّوَابين ومضاربَ البدو. قبورُ الأولياء كانت نقاطًا هادية. والبلاد كانت أيضًا تِلاعًا وقنوات رومانيّة، قلاعًا صليبيّة ومباني مملوكيّة... من كلّ ذلك نشأت التّجربة العبريّة الجديدة الوارثة، الّتي عادت إلى البدايات والأيّام الخوالي. كانت البلادُ هي البَطَل الرّئيسي في قصّة هويّتنا الآخذة في التّشَكُّل، لذلك كان من الصّعب على الكثيرين الاقتناع والموافقة على تقسيمها.

قَبِلْنا نحنُ بالعَرب بوصفهم ينتمون إلى الأرض، الّتي هي فلذة أكبادنا، كمن يحفظ لنا مَشاهدَ التّوراة، لكن ليس ككيان قوميّ وسياسي يُزعجنا بمطالبه، أو كَنِدٍّ عنيد يطالب بأحقّيّته في الملك. مَرَرْنا بين ظهرانيهم بانجذاب سحري تعاظمتْ قوّتُه مع المخاطر. تَعَوّدْنا على الحياة في نظام من التّناقضات الصّعبة. ورغم الدّماء المسفوكة، لدينا ولديهم، أقسمنا دون انقطاع باسم أخوّة الشّعوب. لم يكن هذا شعارًا فارغًا وكاذبًا... لكنّي ولكوني شابًّا صغيرًا لم يخطر على بالي ما هو النّموذج السّياسي الّذي سيُتيح أخوّةً كهذه.... تواصلَ الصّراع واحتَدَّ. كَمَالُ البلاد صارَ أمنيةً فقط. قامت دولة إسرائيل على أساس تقسيم البلاد. وكما هو معروف، فقد قبل شعب إسرائيل الحلّ الوسط، حلّ التّقسيم، حتّى أنّه رقص في الشّوارع. أمّا العرب فقد رفضوا ذلك جملة وتفصيلاً." (من: حتّى بزوغ الفجر، 1950).

لقد ارتأيت أن أبدأ بهذه الملاحظات لتشكّل خلفيّة لتقديم هذه الاختيارات من قصائد الشّاعر العبري حاييم غوري والّتي نقدّمها هنا للقارئ العربي على العموم وللقارئ الفلسطيني بصورة خاصّة لما فيها من علاقة مباشرة بكيانه في هذه الأرض.

تتوزّع كتابات حاييم غوري على أنواع كتابيّة مختلفة، بدءًا من كتابة المقالة الصحفيّة، مرورًا بالرّواية وانتهاءً بالشّعر. إلاّ أنّه اشتهر شاعرًا أكثر منه كاتبًا لأنواع أدبيّة أخرى، حيث نشر حتّى الآن أربع عشرة مجموعة شعريّة إضافة للأعمال الأخرى. تُرجمت أعماله إلى لغات شتّى كالإنكليزيّة، الإسپانيّة، الفرنسيّة، الرّوسيّة وغيرها. نشرت أعماله الشّعريّة الكاملة في مجلّدين ضخمين في العام 1988، وهو لا يزال نشطًا على السّاحة الشّعريّة والفكريّة، ومن الملاحظ في السّنوات الأخيرة أنّه قد طرأ لديه تحوّل في المواقف السّياسيّة المعلنة، نحو الاعتدال والانفتاح، نتيجة للصّراع الدّامي الّذي تمرّ به البلاد، حيث صرّح غيّر مرّة معلنًا تعاطفَه مع نضال الشّعب الفلسطيني للانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي.

ولأنّ الشّعر بعامّة هو بمثابة الإسفنجة الّتي تمتصّ هموم النّفس الإنسانيّة الفرديّة والجمعيّة، فليس من المستغرب أن تجد جميع هذه الأحداث طريقها إلى شعره، حينًا بصورة موحية وحينًا بصورة مباشرة وتقريريّة تبرز قوّتها في مجرّد مراكمة الصّور التّوثيقيّة، كما لو كانت الكتابة مجرّد كاميرا تتنقّل في موقع المشهد ناقلة صورًا صامتة بعد أن هجرتها الحياة، كما هي الحال في المقطع الأخير من قصيدة "سوق الشّرق" المنشورة هنا في هذه المقتطفات.

مجموعته الشّعريّة الأولى الصّادرة في العام 1949،وربّما بتأثير من بودلير، تحمل عنوان "زهور النّار"، وهي تشتمل على قصائد تدور مضامينها في الغالب حول تجربته في هذه المرحلة وما جرى فيها من أحداث. ولمّا كان حاييم غوري، كما ذكرنا، قد انخرط في تلك الفترة في صفوف كتيبة الپلماح، فإنّ القصائد تلك تعكس تجربة جمعيّة أكثر منها تجربة فرديّة، أي أنّ الكلام فيها عن الـ "نحن" وليس الـ"أنا"، على غرار الكثير من شعر الشّعوب الّتي وجدت نفسها في صراعات كيانيّة. في أشعار حاييم غوري المتأخّرة هنالك عزوف عن الحديث الجمعي وجنوح إلى البوح الذّاتي.


القدس، مارس 2006


لقاء في مهرجان الشعر العالمي في القدس
***


قصيدة ذاتيّة

هذه مدينةٌ لا زالتْ يتصارعون عليها، تنتقلُ بي مِنْ يَدٍ لِيَدٍ.
وهذا هو ضَبابُ المعركة. تَتَضاربُ التّقارير.
البسمةُ لا تعرفُ هلْ تستمرُّ فِيّ أَمْ تَمَّحِي.
أستجمعُ القُوَى لكي أَعودَ إلينا
في حُمرةِ العمارات المُشتعلة.
سَمعتُ أنّهم يقولون هُنا كما في ذلك النّشيد -
بأََنّ الآمالَ لَمْ تُفْقَدْ*،
بأَنّها، بَلَى مَعْنيّةٌ بِنا.
كلامٌ جميلٌ، ولكن...


من مجموعة: قصائد متأخّرة


* إشارة إلى المقطع "لَمْ نفْقدْ بعدُ الأَمل" من نشيد "هتكڤا" (الأمل)، وهو النّشيد الوطني الإسرائيلي.


***


زيارة

سَمعتُ مِنْ أصدقاء
أَنّ ضَوْءَ تَمّوز
مَسْكُوبٌ عَلَى أَرْضِه.
وَحقًّا، انْفَجَرَتْ تيناتُهُ
بالبَرَكَة، شَلاّلاً عَلَى
رَأْسِي - عَسَلاً ثَقِيلاً
يَتَدَفّق.
وَعَلَى طُولِ الطّريق كانت الشّمسُ.

وَإذْ هَبَّ لاسْتِقْبالِي
كانَ شَعْرُهُ مَرْبُوطًا
فِي الوَراء -
لَهَبًا أَحْمَرَ.

وَلأنّهُ مَشَى في مُنْحَدَر السَّفْح
كانتْ خُطْوَتُهُ واسعةً مُنْسابَة.

فِي ذاتِ السّاعَة
جَاشَتْ عَلَى سَطْحِهِ
حفاظاتُ الأطفال، صَدريّاتٌ
وَشَراشِفُ واسعةٌ كالشّراع.

من مجموعة: سوسنة الرّيح


***

صمت البحر

صَمْتُ البَحْر.
سَتَمْضِي أنْت
وَلَنْ تَصِلَ. للأبَد.

صَمْتُ البَحْر.
الغَوّاصُونَ
عادُوا صِفْرَ اليَدَيْن.

إلَى خَطّ-الشّاطِئ
تَعُودُ سُفُنٌ مَهْزُومَة
وَضَوْءُ الشّمسِ في ظُهُورِها.

أنا
وَسَنَواتُ الضَّوْء
وَهَواجِسُ البَحْر.

سَنَرْتاحُ أَخِيرًا
ووجْهُنا
عُشبُ البَحْر.

من مجموعة: سوسنة الرّيح


***

أنشودة الرّفاق

على النّقَب حَطَّ ليلُ الخريف
يُشعلُ النّجومَ في هَدْأةٍ وَوُجُوم.
ها هي الرّيحُ تَمُرُّ في الأبواب
وعلى الدّرْب تخطو الغُيوم.

مَرَّ عامٌ، وَلَمْ نَكَدْ نشعر
كيفَ مَرّ الزّمانُ في الحقول.
مَرّ عامٌ، وظَلّ منّا القليل
ما أكثرَ مَنْ غابَ عنّا وَزَالْ.

لازمة:
لكنْ، الكُلُّ يَبْقَى في البَالْ
من وسيمٍ ذي جمال وبهاء.
لأنّ هذا الودادَ لَنْ
يَدَعَ القَلْبَ ينسى أبدًا.
سيرجعُ يومًا ويزهو من جديد،
ذلك الهَوَى الّذي قَدّسَتْهُ الدّماء.

أيّهذا الوداد الّذي حملناه بدون كلام
أيّهذا الرّماديّ الصَّمُوت العَنيد.
من ليالي الرُّعْب، تِلْكَ الطّوال،
بَقِيتَ أَنْتَ زاهِيَ الاشْتِعالْ.

أيّهذا الوداد الّذي، كما الفتيان جميعًا،
بِاسْمِكَ نمشي، ونمضي بابتسام.
الرّفاقُ الّذين قَضَوْا في ساحة الوغى
أَبْقَوْا لنا حَياتَكَ ذكرى.

لازمة:
لكنْ، الكلُّ يَبْقَى في البَالْ
من وسيمٍ ذي جمال وبهاء.
لأنّ هذا الودادَ لَنْ
يَدَعَ القَلْبَ ينسى أبدًا.
سيرجعُ يومًا ويزهو من جديد،
ذلك الهَوَى الّذي قَدّسَتْهُ الدّماء.


من مجموعة: أنا حرب أهليّة


***



بضع كلمات في مديح أصدقائي

أشياء كثيرة كانت تنقصني، لكن لم ينقصني أصدقاء طيّبون.
منهم أولئك الّذين يواصلون السُّمنة أو الإنصلاع
أو يشيبون ويشيخون معي.
منهم سريعو الخطى وثقيلوـالشّعر
كما في الصُّوَر، كما في الرّسائل.

لا أتذكّرهم كلّهم
ولا أفكّر فيهم دائمًا.
أحيانًا أنساهُم طويلاً، أو لبعض الوقت.
لكنّي حين أعود إليهم
أَجِدُهم في مكانهم.

كان لي أصدقاء أَحَبُّوا الحياة
لكن لم يعرفوا دائمًا كيفَ.
هؤلاء كان لديهم وقتٌ للدّراسة
وأولئك لم يُكْمِلوا تقريبًا.

ركضوا وركضوا في الحقول أو في البيّارات والأحراج،
بين هَدَآت الصّمت وبين الضّجيج
وما أنْ توقّفوا لحظةً لصَوْغ طلبات
حتّى كانوا يُستَدْعَون ويُطالبون
فينصرفون، ينصرفون لأنّهم سارعوا إلى العَوْن أو التّدخُّل
في الأوضاع العصيبة.

كان لي أصدقاء يعرفون سُبُلَ بلوغ النّشوة، والابتسام والتّعاطي
مع الفتيات ومع النّساء الموجودات،
الوُلُوج إلى فراشهنّ وامْتِلاكِهِنّ بأَيْمانِهِم.

كان لي أصدقاء لم يعرفوا،
خجلوا أو لم يجرؤوا أو لم تسنحْ لهم الفرصة
فَظَلُّوا في الخارج، باقاتُ زهور بأيديهم.
زهورٌ أُخْرجتْ رويدًا رويدًا من يَدِهم الـمُنْبَسِطَة
وَوُضِعَتْ على وُجُوهِهم.

كان لي أصدقاء خبيرون بالإثارة، بالضحك،
برواية النّكات وإطلاق الأكاذيب،
في جَمْعيّة قَوّالي الحقيقة،
في ليالي الشّتاء تحت الخيام أو العرائش
وفي ليالي الصّيف تحت النُّجُوم.

كان لي أصدقاء غَريبُو الأَطْوار.
عندما كانوا يضحكون كانوا يُشاهَدُون ويُسْمَعون.
عندما غلبَ عليهم البُكاء أَماحُوا وُجوهَهُم،
ذَهَبُوا جانبًا.
كان لي أصدقاء خطيرون.

وكان لي أيضًا أصدقاء صُمٌّ.
عندما طُلِبَ مُتَطوّعٌ واحدٌ
جاؤوا عشرة، إذْ لَمْ يَسْمَعُوا جَيّدًا،
وعندما قالوا لهم عُودوا
ظَلُّوا لي خَيْمةَ قيادة، مثل "أُورْيَا".

وأيضًا كان لي أصدقاء بُكْمٌ،
في أحايينَ كثيرةٍ لم يعرفوا الكلام
فَطَلَبُوا منّي الكلام بَدَلاً منهم،
أنْ أقولَ بضعَ كلمات،
قالوا - لا بأس، لا بأس -
ورجعوا للوراء
واستندوا إلى الأشجار أو إلى الحيطان.

كثيرون من أصدقائي كانوا كذّابين.
عندما سَأَلتَهُمْ إنْ كانوا على ما يُرام،
أو إنْ كانَ ينقصُهم شيء،
كانوا يقولون - مئة بالمئة.
وكانتْ لهم عُيونٌ حَمْراء وذقنٌ بعمر أسبوعين
وبالكاد تحرّكوا.

وكان لي أصدقاء ألخيميائيّون،
أَفْلَحوا بقلب الماء خُمُورًا
والدّرْبِ غِناءً
والتّعَبِ حديدًا
والشّبابِ جُرْحًا مفتوحًا.
كان لي أصدقاء مجانين،
رجالُ فِكْر.

كان لي أصدقاء أغنياء،
كُلّ البلاد كانتْ بَيْتَهم
ناموا في كُروم الزّيتون أو في قاعات التّعليب المنسيّة
أو في المغاور الدّاخنة أو في القمم الّتي تلعبُ بها الرّيح
كما لو كانوا في فراشهم.
كانوا يعرفون، مثل يعقوب*، أن يحلموا أحلامًا تخرجُ من أَطْوارها


من مجموعة: أنا حرب أهلية

* إشارة إلى حلم يعقوب التّوراتي الّذي يعد فيه الرّبّ الأرض له ولنسله.


***

ذلك اللّقاء

ماذا نصنعُ بكُلّ ذكرياتنا.
يُفَضَّل أَنْ يَهْدَأْنَ ويَرْتَحْنَ باطمئنان.
لِصالِحِنا.

لكنّ الصّامتين سَيأْتُون،
والمطرودون وصانعو المهجر سَيأْتُون.
والمُتَذمّرون المُزمنون سَيأْتُون
ومُضيّعو الفرص السّانحة هم أيضًا سَيأْتُون.
وكلّ مهجورٍ سَيُزَار وكُلّ مرفوضٍ سَيُتَذَكَّر.
أنا الشّاهدُ، وا أَسَفَاه. أنا، وليس أيّ شخص آخر.

وهؤلاء المخفيّون أيضًا، الّذين يليقُ بهم الصّمت،
سيخرجون من المخابئ ومن أقباء الغَياهِب.
كَسُفراء كان يا ما كان.
والموتى سيصعدون للأعالي في أسْحار عين دور*
من بلد الموتى.
هم أيضًا سيعودون إليّ،
وسيكونون معي، للجَمَال ولشهقةِ اللّيَال!

وهؤلاء وأولئك سَيَرُون ويُرَوْن وكلٌّ سيعرفُُ أخاه،
وسَيَشُدّون على الأيدي وسيتعانقون، كما لو أنّهم في لقاء بعد غياب طويل،
وبحبور كبير وانتحاب كبير، سيتذكّرون ويُُذَكّرون.

وبعد ذلك سيأتي المؤلمون،
وكما هو مُتَوقَّع سيبتسمون.
أولئك الّذين يُكرّرون كالببغاوات ما طلبتُ أن يلفّه النّسيان.
وسينضمّ إليهم أيضًا شُهودُ السُُّلطان.

هؤلاء يُقرّبون يَوْمَهُم وأولئك يَقْضُون ليلاً،
في ذلك اليوم الّذي ليسَ بنهارٍ وليسَ بليل.

وفي ذلك اليوم، كلّ أبطالي شُجعاني والمخاطرين بي
سَيَشِعّون عزًّا ومجدًا.
وفي ذلك اليوم، كلّ خائفيَّ والخاسرين، ومُخطئيَّ المنسحبين
سيبرزون من حلكةِ ساحة الهدف،
للإمساك، كذكرى الضّيم، بموقعهم عندي.
للمشاركَة، لِمَ لا، بسيرة حياتي.

والّذين تمزّقوا إربًا إربًا، كَسِيرِي قلبي،
سيقتربون هم أيضًا، إذْ لِمَ لا يَحْظون بنصيب.
إذ ها هُوَذَا الرّجلُ ذاهبٌ، على ما يبدو،
مُبْتَعدٌ بعيدًا عن هنا.

وهذه تَكادُ تكونُ الفرصةَ الأخيرةَ للانطباع، للتّلاقي،
للتّعارُف قليلاً فيما بيننا،
لإيضاح بَعْض ما التبسَ، قبل الظّلام المُخيِّم.

من مجموعة: أنا حرب أهليّة


* أسحار عين دور - إشارة إلى ما ورد في التّوراة في سفر صموئيل الأوّل، إصحاح 28، 7-8: "فسأل شاؤول من الرّبّ فلم يُجبه الرّبّ لا بالأحلام ولا بالأوزيم ولا بالأنبياء. فقال شاؤول لعبيده فتّشوا لي على امرأة صاحبة جانٍّ فأذهبُ إليها وأسألها. فقال له عبيده هو ذا امرأة صاحبة جانّ في عين دور".


***

في حارة روزنفيلد

وذلك البيت الأزرق الغامق بجانب البحر.
ووجهُ تلك النّادلة الّتي اعتادت على خلع فستانها.
ليست پروفيسيوناليّة، بتاتًا لا، حاشا وكلاّ!
فقط هاوية في الغرفة الصّغيرة.
كان ذا من زمان، في أيّام الإنكليز.
كتبت إذّاكَ قصائد سيّئة عن حُبّ،
مُختلفٍ جدًّا.
مُتأثّرةً قليلاً بـ "نجوم السّماء".
شيئًا ما بعيدًا ومجهولاً،
كما لو كان ذا لقاءً مُتَخيَّلاً، غريبًا ومُفْتَرضًا.
وتلك النّادلة، الپولونيّة.
اعتقدتْ أنّ الحبّ شيءٌ مختلفٌ جدًّا
عن تلك القصائد،
شيءٌ يُحَبَّذُ فعلُه،
وَأنّه لا يمكن تعلُّم العَوْمَ بالمراسلَة.

وتلك البيرة، الّتي ذاع صيتُها
والسّاقي الّذي يغفو في الظلّ الدّافئ،
ذلك الّذي عرفَ طرومپلدور "منذ چاليپولي"*.
كذا كان يقول. لِمَ لا، مسموح الحكي.

وفي النّافذة، ها هو البحر ساعة الأصيل.
هناك أنا أيضًا، أنظرُ للضّياع في الشّمس التّالية،
كما لو كانَ حنيني يتواصل.


من مجموعة: أنا حرب أهليّة

* طرومپدور - هو يوسف طرومپدور، ولد في روسيا سنة 1880 وخدم في الجيش الرّوسي وشارك في الحرب الروسية اليابانية. كان الضابط اليهودي الأوّل في جيش القيصر الرّوسي. في العام 1912 هاجر إلى فلسطين، وفي العام 1915 اضطر إلى مغادرة البلاد فذهب إلى الإسكندريّة، وهناك أنشأ مع زئيڤ جابوتنسكي "الكتيبة العبريّة"، فأُرسل من قبل البريطانيين إلى چاليبولي. عاد إلى روسيا في 1917، وبعد عامين رجع إلى فلسطين وقتل في الجليل الأعلى عند الاستيلاء على تل-حاي. حركة "بيتار" مسمّاة باسمه: بريت ترومبلدور، أي: عهد ترومبلدور.


***

خطأ

الذُّبابَة تُطْرَدُ من الجبين الأبيض
ولا شُموعَ قبلَ هُبوطِ المساء.

ساعةٌ من الزّمن تُعطي شقيقتها
أصواتًا تُحاكي أصواتًا سُمعتْ أمس.

الذُّبابَة تُطردُ من الجبين الأبيض
والرّيشةُ ترتعدُ مع اكتمال التّجربة.

لنْ يُنسى الحديدُ في هدأةِ الصّدأ
كما يتبقّى مجالٌ واسعٌ للتّخمينات.

لا يتمُّ تبكير المؤجَّل،
ولا يُبعَثُ الحفّارون سُدى.

علامةُ التّفويضِ لِـغَيْر المُتَوقَّع مُسْبقًا،
علامةُ التّفويض للبسمات المكبوتة.


من مجموعة: سوسنة الرّيح


***

پورتريه

(أ)
الجبينُ المُلتَفِت للنّاس،
لَمْ يَشِ به.
لكنْ، في خَطّ التّجاعيد
وما أسفل، في زوايا الفَم،
بوُسْعِ حَلاّلِ الرُّمُوز
أنْ يفهَمَ شَذَراتٍ من حكايته.

شَعْرُهُ يتردّدُ بين الفضّة والأبيض،
الطّريقُ الّتي ظلّتْ وراءَ ظهره
أكثر من تلك الّتي في رجليه.

جَسَدُهُ آخذٌ في التّنازُل للعِلَل،
بعدَ حربِ دِفاعٍ مُتَواصلة،
عَنْ مناطقَ كاملة.

(ب)

زمنُ الضّباب. كذا السّعال،
كالآهة، يكسرُ نصفَ جِسْمه.

في شبكةِ الشّرايين.
ما وراء سنّ الكُهولة،
يجري دمَهُ كما لو كان تَلخيصًا.

(مياهُ الدّلتا بطيئةٌ، رماديّةٌ،
غَيْرَ بعيدٍ البَحْرُ).

مُلتفعًا بملاءة فلانيل، طويلة،
يقفُ
كما لو كانَ امتدادًا للكُتُب.

يحاولُ، رغمَ كُلّ شيء، أن يَحلّ
بقايا مُستَغْرَبَةً كانَ أبقاها،
بلا مناصٍ،
إلى آخره، وللّنهاية.

لكنّ الفُسحات كُلّها آخذةٌ بالامتلاء
في الظّلام وفي اللّيل الرّطب.


من مجموعة: سوسنة الرّيح


***

أنا والهدوء

سمعتُ عن الهُدوء.
لم ألْتَقِ بهِ بَعْدُ.

هو للبلادِ الّتي
لا أعرفُ اسْمَهَا.

هو مرتبطٌ بمدينة
لمْ أمرَّ في شارِعِها.

هو يسكنُ بيتًا -
لمْ أتّكئْ على نوافذه.

يبدو لي أنّ الهُدُوء
هو لِـمَا بَعْدُ.

وأنا في ما قَبْلُ.
كَمَا الجُوع.


من مجموعة: سوسنة الرّيح


***


إلى برن

عَمّا قليل يغربُ، وراءَ الأفقِ، القمرُ.
رجلٌ صامتٌ يخطو في اللّيل.

الكلابُ الرّماديّة، المجدوعة الأذن، على مَهَلٍ تقوم:
صوتُ أشواك تتكسّر في اللّيل.

الكلابُ الرّماديّة، المجدوعة الأذن، ستصرخ في الظّلام -
ليس صديقًا سيأتي هذا اللّيل.

عَمّا قليل سيسقط الحجر، يخرجُ منه العصفور المجنون.
ضحك بعيدٌ لـحُكَماء المفهومِ ضمنًا.

لا عبادةُ الرّب، ولا الكدُّ، ولا عملُ المعروف.
شخصٌ ما سيموتُ اللّيلةَ في ريعانه.


من مجموعة: سوسنة الرّيح


***


إقتفاء أثر

إنّه يمشي ورائي.
إن أَيْمَنْتُ أَيْمَنَ. وإنْ أَشْمَلتُ أَشْمَلَ.
إذا غذذتُ الخطوَ غَذَّ الخطوَ مثلي.
وحينَ ألتفتُ لأراه، لأعرفَ إنْ كانَ لا يزالُ،
سيكون هناك، لا تقلقوا،
سيكونُ هناك، راءٍ لا يُرَى،
كما لدى هِتْشْكُوك.
سيواصل على هذه الحال، شبيه بذاته، لا يتعب،
كما في حلم اللّيل، أو في فيلم كوابيس -
يهتمّ بألاّ أُفارق عينيه،
يدخلُ في تفاصيل التّفاصيل.
لا، ليس ذا جنون مُلاحَقَة، أعرفُ.
إنّه خبير بي، يعرفني عن ظهر قلب،
ينجذبُ ورائي؛
خبيرٌ مِثْل مُتَحَرٍّ عجوز،
طويلُ البال كقاتلٍ مأجور.


من مجموعة: قصائد متأخّرة


***

للبيع

لم يكذبْ.
فقطْ، لم يقلْ كُلّ الحقيقة عن الفراغ.
لم يحكِ عن ذاك المشي، في اللّيل،
عن الشّخص الّذي عادَ من هناك،
في نور السّحَر الّذي عادةً ما يُباركُ العائدين.
لم يحكِ عنِ الباب المُغلَق،
عن الأشواكِ الّتي بَسَقَتْ، عن النّوافذ الـمُسْدَلة السّتائر،
عن اللاّفتة - »للبيع!«


من مجموعة: قصائد متأخّرة


***

حكاية حمامة

هذا ما جرى لي مع حمامة
حطّتْ على كتفي من مَحَلٍّ أرفع،
خفيفةً جدًّا،
من سُطوح مدينة الخير والرّحمة.

صَمَتْنَا معًا
ساعةً من الدّهر بيننا الرّيحُُُ.
وددتُ أن أقول لها:
ساذجةٌ، يا لكِ من حمامةٍ ساذجة،
وجدتِ لكِ مكانًا ترتاحين فيه.

هذا ما جرى لي مع حمامة
هَبَطَتْ حَتّى كَتِفِي،
هلالاً، شَارقًا.

حَتّى لاثَمَتْها شَفَتاي
وَعَادَتْ ريشتُها حَمْراءَ.


من مجموعة: سوسنة الرّيح


***

عن المطر

ها هو وابلٌ من مطرٍ صَلَّيْتَ لأجله
منذ تشرين.
وها هي الرّعودُ فوقَكَ.
وكما لو استجابَ لابتهالك عادَ واستفاقَ الرّعدُ البعيد
وَتذكّرَ وهو على وشكِ أن يكونَ أيضًا مُلْكَك.

أورشليم من حجارةٍ ثقيلة،
من زيتون ومن حُلْكَة*.

وأنتَ تعلمُ، وتشهدُ، في ساعةٍ متأخّرة من اللّيل،
أنّكَ صَمْتٌ طويلٌ لا غَيْر،
أَنّكَ ماءٌ كثيرٌ،
أَنّ أمامَكَ تمرُّ الأشياءُ الّتي لا يَرْقى إليها شَكّ،
الّتي كانت منذُ الأَزَل، الّتي لن تموتَ فيك.


من مجموعة: قصائد متأخّرة

* إشارة إلى أغنية عبريّة شهيرة شاعت بعد حرب حزيران ٧٦ واحتلال القدس العربيّة. تقول كلمات الأغنية: "أورشليم من ذهب، ومن نُحاسٍ ومنْ نور...".


***

أصوات

ها هي الأصواتُ، حمدًا للّه،
غالبيّة الأصوات الأخرى، المحبوبة،
الماضية، وتلكَ الّتي سَتَبْقَى:
ضحكة امرأة، حَمْحَمَة حصانٍ في الطّريق،
نباح كلاب.
وثَمَّ هناكَ،
صوتُ أجراس، لم يَجْرِ عليه أَيّ تغيير،
يهبطُ ثقيلاً وفَرِحًا كما كان من زمان
على السُّطوح المُقَرْمَدَة.
وثَمَّ هناكَ، مع ساعات الزَّوال،
صَلِيلُ أَقداحٍ إذْ تلتقي،
هَديلُ الكمنجات والأغاني:
"إنْتَظرْتُكِ على أحرِّ من الجَمْر.
عَزَفَ الغجريُّ وانْتَحَبَت الأوتار".
وَثَمَّ هناكَ، صوتُ أُمّ
تُنادي ابْنَها أنْ يَعُود
وصوتُ الولدِ الّذي يَرُدّ بأنّه عائدٌ تَوًّا.
إنّه لأمرٌ جميلٌ أن تَعُودَ إلى مَنْ يَنْتَظرُكَ.
وَثَمَّ هناك، في غُرَفٍ مُوصَدَة،
أصواتُ الحُبِّ الحالِك.


من مجموعة: قصائد متأخّرة


***

هؤلاء الشّيوعيّون

وثَمَّ أشياء أخرى في الظّلام.
حتّى يكونَ الشّخصُ لصَمْتِه
بين سائرِ المُنْهَكين الّذين بقوا على قيد الحياة، بالصّدفة.
هناكَ سَيَرتاحُ، بالثّياب والنّعال.
هناكَ سَيَرتاحُ، كما النّهاية السّعيدة.

هؤلاء الّذين وصلوا إلى مكانٍ لم يُهدّد بعدُ حياتَهم
طلبوا ماءً وسيكارةً، رَمَقًا لِنُفُوسهم.
بالكادِ تَكَلّمنا هناك.

غالبيّةُ الوُعود ذَهَبَتْ هَباءً، بقيت من ورائنا
كما بقايا عَتادٍ تشيرُ إلى طريق الهزيمة.

والموتى. ساروا على طريق الموتى،
إذْ، ماذا سيفعلون في موتهم.
فوقَ التّلّة تَهُبُّ ريحُ الموتى،
الرّاضين بعدالة قضيّتهم.

عرفنا منذُ زمنٍ، لَنْ تُعطى لنا بُشْرَى مهما كانت.
ليسَ الآنَ، ليس في الأيّام الأخرى.
ما أسوأَ ما كان في تلك؟ فَكّرْنا عندَ أقدام الجبل.

فقط الأغاني الّتي غنّيناها، الّتي لا أحلى ولا أجمل منها،
استمرّت بدوننا تُداوي أَسَى العالَم.


من مجموعة: قصائد متأخّرة معرض الشّرق


***


الشّيخ عزّ الدّين* سقط في يعبد، بنيران الإنكليز.
دُفن في بلد الشّيخ، قُرْبَ نيشر، على مشارف حيفا.
الآنَ، لَدَى العرب تل-حاي خاصّ بهم، قال بن-چوريون.
كُنتُ وَلَدًا مُسَيَّسًا.
قَرَأْتُ "داڤار".

راحتْ أيضًا بلد-الشّيخ. بقيت نيشر،
قُرْبَ الإسمنت، قُرب المَحْجَر.

الشّيخ عزّ الدّين مدفونٌ قُربَ نيشر
وَلا سَلامَ لِتُرابِه.
زعيمُ الـ قَسّاميّة مدفونٌ في قاع الكرمل، قُربَ نيشر
وسَكاكينُ تَنْمو مِنْ قَبْرِه.

**

أنا مليءٌ بالموتَى.
أنا مليءٌ بموتَى محفوطين داخلي.
أنا مليءٌ بأسماء منقوشة في الحجر
وأَيْمانٍ وهمساتٍٍ ونُذُور.

أنا مليءٌ بآراء مُسْبقَة
بـ لاخَيَارات وأبطال،
وَهُمْ صَناديدُ كالأُسُود، كما يُقال،
وَهُمْ أَخَفُّ من نُسُور.
أنا أقفُ كنشيدٍ وَطَنِيّ،
حَتّى ينتهي.
أجلسُ، أُراقبُ نقطةً في المكان.
مَشْبوهًا كما الباقين.

**
أنا مليءٌ بِقُرًى مهجورة، حاجيّات متروكة،
بِنعالٍ فاغرة، مِزَقِ ألحفة صوفيّة، صُرَرٍ مثقوبة.
ببقايا تبنٍ، أَرْسان ظلّتْ تنتظرُ حَتّى عيّتْ،
محاريث من خشب، مناجل، غرابل، أرغفةٍ جَفّتْ.
أنا مليء بكَعْكاتِ غائطٍ وروث ماعز، شبريّات صنعة فنّانين.
أنا مليءٌ بِخُرُوجٍ مُطرّزةٍ فاخرةٍ لا مُمْتَطِيَ لها.
بِمَغاور دخان، حَذوات صَدِئَتْ، طُرُقٍ دَرَسَتْ،
بِشِعابٍ تُفْضي إلى حقولٍ هي العكسُ تمامًا.
بِطوابينَ باردةٍ. بِآبار أَوْجَعُوها بالحجارة.
بأنْسِجَة مُلوّنة، صاجات، جمرات باردة.
أنا مليءٌ بِصَمْتِ الحيطان، نوافذ اللاّضَوْء. بِنحاسٍ وَجِفَان.
أَرَى أباريقَ فارغةً، ظُلُمات الآبار.
أرَى حَطّاتٍ، مناديلَ، شالات وملاءات،
هُنا طَرْحَةٌ أُخرى، هنا بُرْقعٌ آخر.
أَلْتَقِي كلابًا مَجْدوعةَ الآذان، بلا أسماء، ظَلّتْ تحرس،
خَلْخال ينتظرُ حَتَّى اليَوْمَ كَاحِلَهُ.


مقاطع من معرض الشّرق: أنا حرب أهليّة

* عزّ الدّين - إشارة إلى الشّيح المجاهد عزّ الدّين القسّام.
* "داڤار" - صحيفة نقابة العمّال العامّة، صدرت في العام 1923، ومع قيام إسرائيل كانت صحيفة شبه رسميّة لحزب العمّال الحاكم. توقّفت عن الصّدور في العام 1996.


ـــــــــــــــــ


نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 30، 2006

חיים גורי, "אצעדה המבקשת את קרסולה", מבחר שירים, תרגם והקדים מבוא: סלמאן מצאלחה, "משארף" 30, 2006.


Haim Gouri, "Selected Poems", translated with an introduction by Salman Masalha, Masharef, 30, 2006.



مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!