لعلّ في العودة إلى الرّوايات التي دوّنها وحفظها لنا السّلف ما قد يُضيء بعض هذه الجوانب وقد يجلو بعض أوجه الغرابة عن هذا السؤال.
سلمان مصالحة
هل تعلّم الرّسول اللّغة العبريّة؟
لقد كنت أشرت في
المقالة السابقة إلى الرواية التي ذكرت أنّ ورقة بن نوفل "كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية"، وإلى أنّ أهل الكتاب على العموم كانوا: "يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام". ففي ذلك ما يشير بالطّبع، بحسب هذه الرّوايات، إلى أنّ اللّغة العبريّة كانت تحيط ببدايات نشوء الإسلام في جزيرة العرب. والسؤال الّذي يعلو هو، هل تعلّم الرّسول اللّغة العبريّة في هذه البيئة المحيطة به، أو هل كان هنالك من علّمه لغة التوراة؟
لعلّ في العودة إلى الرّوايات التي دوّنها وحفظها لنا السّلف ما قد يُضيء بعض هذه الجوانب وقد يجلو بعض أوجه الغرابة عن هذا السؤال.
لنبدأ بقراءة الروايات التالية:
"عن أبي هريرة، قال: بينما نبيّ الله صلعم جالس وأصحابه، إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبيّ الله صلعم: هل تدرون ما هذا؟ فقالوا: اللّه ورسولُه أعلمُ. قال: هذا العَنان، هذه روايا الأرض، يسوقُه اللّه، تبارك وتعالى، إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: اللّه ورسولُه أعلمُ. قال: فإنّها الرّقيع سَقفٌ محفوظ وموجٌ مكفوفٌ..." (سنن الترمذي: ج 12، 134؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 23، 470؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 7؛ تفسير القرطبي: ج 1، 259؛ تفسير مجاهد: ج 2، 655؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 47؛ العلل المتناهية لابن الجوزي: ج 1، 27؛ مسند الشاميين للطبراني: ج 7، 454؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 288؛ تفسير الألوسي: ج 21، 82).
فماذا نفهم بعد قراءة هذا الحديث؟ الرّسول يجلس مع أصحابه في مكان ما، فيمرّ سحابٌ في السّماء من فوقهم، فيسأل الرّسول أصحابه: ما هذا؟ غير أنّهم لا يجيبون، مع أنّهم يعرفون بالطّبع أنّه سحاب، وبدل ذلك ينتظرون ما سيتفوّه به، فيقول لهم: "هذا العنان". ثمّ يسألهم من جديد عمّا فوقهم، أي عن السّماء، فينتظرون مرّة أخرى إجابته على السؤال،فيقول لهم: "إنّها الرّقيع".
ولو واصلنا الغوص في قراءة هذا التّراث فإنّنا نرى أنّ الإشارة إلى السّحاب بأنّه "العنان" تتكرّر في حديث آخر، حيث نقرأ حديث عائشة التي تقول: "سمعت رسول الله صلعم يقول: إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر ما قضي في السماء، فتسترقُ الشياطين السمعَ، فتسمعه فتُوحيه إلى الكُهّان، فيكذبون معها مئة كذبة من عند أنفسهم." (صحيح البخاري: ج 3، 1175؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 21، 15؛ تفسير البغوي: ج 4، 373؛ تفسير القرطبي: ج 7، 4؛ تفسير الألوسي: ج 9، 467).
كما أنّ مفردة الرّقيع الدالّة على السّماء، أو السماء العليا، تظهر في حديث آخر يروي فيه الرسول عن مناجاة اللّه لموسى، ويذكر ما يعد الله الزّهّاد: "عن الضحاك عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلعم: إنّ الله تعالى ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام، وصايا كلها... فكان فيما ناجاه أن قال له: يا موسى، إنّه لم يتصنّع لي المُتصنّعون بمثل الزهد في الدنيا... ولم يتعبّد لي المتعبّدون بمثل البُكاء خيفتي. قال موسى: يا إله البريّة كلها... ماذا أعددتَ لهم وماذا أجزيتهم؟ قال: أمّا الزاهدون في الدنيا فأبيحهم جنّتي يتبوّؤون فيها حيث شاءوا... وأمّا البكّاؤون من خيفتي، فأولئك لهم الرقيع الأعلى لايُشارَكون فيه." (كتاب الرد على خلق القرآن لأبي بكر النجاد: 36-37). وعندما حكم سعد بن معاذ على بني قريظة بالقتل، قال له الرسول: "لقد حكمتَ بحكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة." (مغازي الواقدي: ج 1، 512؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 75). والأرقعة هي جمع رقيع، وقد ذكر النّووي: "ويقال الرقيع: اسم لسماء الدنيا." (تهذيب الأسماء للنووي: ج 3، 432؛ أنظر أيضًا: فتح الباري لابن حجر: ج 11، 454). وها هي مفردة الرّقيع تعود فتظهر مرّة أخرى في حديث أحمد بن الفتح الّذي يروي أنه رأى بشر بن الحارث في المنام وتحدّث إليه، وبعد أن سأله عن معروف الكرخي إجابه بشر: "إنّ معروفًا لم يعبد الله شوقًا إلى جنّته ولا خوفًا من ناره، وإنّما عبده شوقًا إليه، فرفعه اللهُ إلى الرّقيع الأعْلَى" (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 10، 223-224).
***
إذن، بعد الّذي أسلفنا
من روايات، دعونا نتوقّف، عند هاتين المفردتين اللّتين تردان في هذه الأحاديث والأخبار، وهما: مفردة "عنان" بمعنى السّحاب، ومفردة "رقيع" بمعنى السّماء. والسؤال الّذي يفرض ذاته ولا مناص من طرحه هنا هو، من أين جاء الرّسول بهاتين المفردتين اللّتين تفيدان هذين المعنيين؟
مهما بذلنا من جهد فلن نستطيع العثور على هاتين المفردتين بهاتين الدّلالتين، لا في الشّعر الجاهلي ولا في القرآن. فلو كانت هاتان المفردتان عربيّتين تفيدان هذين المعنيين، أي السحاب والسّماء، لكان من المفروض على الأقلّ أن نعثر على شواهد لهما في الشّعر الجاهلي. نقول ذلك لأنّهما مفردتان تتعلّقان بالطّبيعة، ونحنُ نعلم حقّ العلم أنّ الشّعر الجاهلي هو شعر يعجّ بمفردات الطّبيعة، بمشاهدها وأوصافها. غير أنّ الحقيقة هي أنّنا لن نستطيع العثور على هاتين المفردتين لأنّهما مفردتان عبريّتان، وقد وردتا في التّوراة، وباللّغة العبريّة، وبهذين المعنيين بالضّبط.
أوّلاً: العنان
الترجمات العربيّة للتّوراة لن تفيدنا بشيء في هذا البحث. فعلى سبيل المثال، نقرأ في الفصل التاسع من سفر التّكوين: "وَضَعْتُ قَوْسِي فِي (السَّحَابِ) فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاقٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ." (تكوين 9: 13، ترجمة فاندايك). وإذا واصلنا القراءة، فها هو الإله ينزل في السّحاب ليهدي بني إسرائيل في طريقهم: "وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ (سَحَابٍ) لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ" (خروج 13: 21، ترجمة فاندايك). وفوق كلّ ذلك، نجد أنّ يهوه ذاته يقول لموسى إنّه سيأتي إليه في السّحاب: "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَا أَنَا آتٍ إِلَيْكَ فِي ظَلاَمِ (السَّحَابِ) لِيَسْمَعَ الشَّعْبُ حِينَمَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ فَيُؤْمِنُوا بِكَ أَيْضاً إِلَى الأَبَدِ." (خروج 19: 9، ترجمة فاندايك).
إنّ مفردة "السّحاب" هذه، التي تتكرّر في هذه النّصوص بحسب الترجمات العربيّة المختلفة للتّوراة، هي الترجمة العربيّة لكلمة "عنان" العبريّة. وكلمة "عنان" هذه هي المفردة الّتي ترد في الأصل العبري للتّوراة (وبالحرف العبري: ענן). وهكذا، لو أنّا أثبتنا الأصل العبري لهذه المفردة في النّصوص المقتبسة آنفًا، فإنّ هذه النّصوص التّوراتية ستُقرأ، بترجمتي، على هذا النّحو:
(1) "جَعَلْتُ قَوْسِي في (العَنان)، لِتَكُونَ آيَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الأرْضِ." (تكوين 9: 13).
(2) "وَكَانَ يهوه يَسِيرُ قُدَّامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ (عَنان) لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ." (خروج 13: 21).
(3) "فَقَالَ يهوه لِمُوسَى: هَا أنَذَا جَاءٍ إِلَيْكَ فِي رَبَابِ (العنان) لأجْلِ أنْ يَسْمَعَ الشَّعْبُ تَكْلِيمِيكَ وَأيْضًا لأَجْلِ أنْ يُؤْمِنُوا بِكَ إِلَى الأَبَدِ." (خروج 19: 9).
وهكذا، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أنّ مفردة الـ"عنان"، التي وردت في الحديث النبوي المذكور آنفًا إشارة إلى السّحاب، هي في الحقيقة مفردة عبريّة توراتيّة تفيد هذا المعنى بالضّبط.
ثانيًا: الرّقيع
ولو ذهبنا لننظر في مفردة "الرّقيع" الواردة في الأحاديث النبويّة وغيرها بمعنى السّماء، فالحال هي أيضًا كذلك بشأنها. فلا نستطيع العثور على كلمة رقيع بمعنى السّماء في الموروث الأدبي العربي القديم. ومرّة أخرى، هذه المفردة هي أيضًا مفردة عبريّة تشير إلى السّماء، كما ترد المفردة في التّوراة وباللّغة العبريّة. ومن أجل بيان ذلك نعود مرّة أخرى إلى الترجمات العربية للتوراة، حيث نقرأ في الفصل الأوّل من سفر التّكوين: "وَقَالَ اللهُ: لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ. فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذَلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً." (تكوين 1: 6-8، ترجمة فاندايك).
من خلال قراءة هذه الترجمة للنّصّ التّوراتي يتّضح لنا ثانية أنّ الترجمة العربية للتوراة هي ترجمة غير دقيقة. فلا أدري من أين جاءت هذه الترجمات بمفردة "الجَلَد" الّتي تظهر فيها لتفيد المعنى القائم في نصّ التّوراة باللّغة العبريّة؟ فلو عدنا، مرّة أخرى، إلى الأصل العبري للتّوراة وتعقّبنا مفردة "الجلد" الّتي تستخدمها هذه الترجمات العربيّة، لاكتشفنا على الفور أنّها ترجمة غير دقيقة للمفردة العبريّة "رقيع" الّتي تظهر في الأصل العبري للتوراة (وبالحرف العبري: רקיע). وهكذا، بوسعنا الآن أن نقرأ النّصّ التّوراتي، بترجمتي، على النّحو التّالي: "وَقَالَ اللّهُ، لِيَكُنْ رَقِيع فِي الماء، وَلِيَكُنْ فَارِقًا بَيْنَ مَاءٍ وَمَاءٍ. وَعَملَ اللّهُ الرّقِيع، وَفَرَقَ بَيْنَ الماءِ الّذِي تَحْتَ الرّقيع وبين الماء الّذي فوقَ الرّقيع، وكَانَ كذلك. وَدَعَا اللّهُ الرّقيعَ سَماءً..." (تكوين 1: 6-8). وبكلمات أخرى، يتّضح أنّ تسمية السّماء بالرّقيع، هي تسمية توراتيّة وباللّغة العبريّة، وهي اللّغة التي كان يكتبها ورقة بن نوفل وغيره، كما ورد في الروايات الإسلامية التي أشرنا إليها سابقًا.
بالاستناد إلى هذه الرّوايات الإسلاميّة، نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه، وهو أنّه على ما يبدو فإنّ الرّسول كان قد تعلّم مفردات اللّغة العبريّة التّوراتيّة وبهذه المعاني بالضّبط، كما إنّه قد قام بدوره بتعليم مفردات هذه اللّغة لأصحابه، كما يتّضح من سياق الأحاديث. وهكذا ينجلي لنا مرّة أخرى أنّ معرفة اللغة العبريّة ضروريّة لمعرفة الإسلام على حقيقته، إذ أنّ هذه المعرفة ستفتح أمامنا الكثير من الأبواب الّتي ظلّت موصدة طويلاً، وستمكنّنا من إلقاء أضواء جديدة على تطوّر الكثير من المفاهيم الإسلامية التي رافقت الإسلام على مرّ الزّمن.
والعقل ولي التوفيق
***
إقرأ أيضًا: "إلوهيم" في الإسلام
من روايات، دعونا نتوقّف، عند هاتين المفردتين اللّتين تردان في هذه الأحاديث والأخبار، وهما: مفردة "عنان" بمعنى السّحاب، ومفردة "رقيع" بمعنى السّماء. والسؤال الّذي يفرض ذاته ولا مناص من طرحه هنا هو، من أين جاء الرّسول بهاتين المفردتين اللّتين تفيدان هذين المعنيين؟
مهما بذلنا من جهد فلن نستطيع العثور على هاتين المفردتين بهاتين الدّلالتين، لا في الشّعر الجاهلي ولا في القرآن. فلو كانت هاتان المفردتان عربيّتين تفيدان هذين المعنيين، أي السحاب والسّماء، لكان من المفروض على الأقلّ أن نعثر على شواهد لهما في الشّعر الجاهلي. نقول ذلك لأنّهما مفردتان تتعلّقان بالطّبيعة، ونحنُ نعلم حقّ العلم أنّ الشّعر الجاهلي هو شعر يعجّ بمفردات الطّبيعة، بمشاهدها وأوصافها. غير أنّ الحقيقة هي أنّنا لن نستطيع العثور على هاتين المفردتين لأنّهما مفردتان عبريّتان، وقد وردتا في التّوراة، وباللّغة العبريّة، وبهذين المعنيين بالضّبط.
أوّلاً: العنان
الترجمات العربيّة للتّوراة لن تفيدنا بشيء في هذا البحث. فعلى سبيل المثال، نقرأ في الفصل التاسع من سفر التّكوين: "وَضَعْتُ قَوْسِي فِي (السَّحَابِ) فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاقٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الأَرْضِ." (تكوين 9: 13، ترجمة فاندايك). وإذا واصلنا القراءة، فها هو الإله ينزل في السّحاب ليهدي بني إسرائيل في طريقهم: "وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ (سَحَابٍ) لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ" (خروج 13: 21، ترجمة فاندايك). وفوق كلّ ذلك، نجد أنّ يهوه ذاته يقول لموسى إنّه سيأتي إليه في السّحاب: "فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَا أَنَا آتٍ إِلَيْكَ فِي ظَلاَمِ (السَّحَابِ) لِيَسْمَعَ الشَّعْبُ حِينَمَا أَتَكَلَّمُ مَعَكَ فَيُؤْمِنُوا بِكَ أَيْضاً إِلَى الأَبَدِ." (خروج 19: 9، ترجمة فاندايك).
إنّ مفردة "السّحاب" هذه، التي تتكرّر في هذه النّصوص بحسب الترجمات العربيّة المختلفة للتّوراة، هي الترجمة العربيّة لكلمة "عنان" العبريّة. وكلمة "عنان" هذه هي المفردة الّتي ترد في الأصل العبري للتّوراة (وبالحرف العبري: ענן). وهكذا، لو أنّا أثبتنا الأصل العبري لهذه المفردة في النّصوص المقتبسة آنفًا، فإنّ هذه النّصوص التّوراتية ستُقرأ، بترجمتي، على هذا النّحو:
(1) "جَعَلْتُ قَوْسِي في (العَنان)، لِتَكُونَ آيَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الأرْضِ." (تكوين 9: 13).
(2) "وَكَانَ يهوه يَسِيرُ قُدَّامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ (عَنان) لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ." (خروج 13: 21).
(3) "فَقَالَ يهوه لِمُوسَى: هَا أنَذَا جَاءٍ إِلَيْكَ فِي رَبَابِ (العنان) لأجْلِ أنْ يَسْمَعَ الشَّعْبُ تَكْلِيمِيكَ وَأيْضًا لأَجْلِ أنْ يُؤْمِنُوا بِكَ إِلَى الأَبَدِ." (خروج 19: 9).
وهكذا، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أنّ مفردة الـ"عنان"، التي وردت في الحديث النبوي المذكور آنفًا إشارة إلى السّحاب، هي في الحقيقة مفردة عبريّة توراتيّة تفيد هذا المعنى بالضّبط.
ثانيًا: الرّقيع
ولو ذهبنا لننظر في مفردة "الرّقيع" الواردة في الأحاديث النبويّة وغيرها بمعنى السّماء، فالحال هي أيضًا كذلك بشأنها. فلا نستطيع العثور على كلمة رقيع بمعنى السّماء في الموروث الأدبي العربي القديم. ومرّة أخرى، هذه المفردة هي أيضًا مفردة عبريّة تشير إلى السّماء، كما ترد المفردة في التّوراة وباللّغة العبريّة. ومن أجل بيان ذلك نعود مرّة أخرى إلى الترجمات العربية للتوراة، حيث نقرأ في الفصل الأوّل من سفر التّكوين: "وَقَالَ اللهُ: لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ. فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذَلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً." (تكوين 1: 6-8، ترجمة فاندايك).
من خلال قراءة هذه الترجمة للنّصّ التّوراتي يتّضح لنا ثانية أنّ الترجمة العربية للتوراة هي ترجمة غير دقيقة. فلا أدري من أين جاءت هذه الترجمات بمفردة "الجَلَد" الّتي تظهر فيها لتفيد المعنى القائم في نصّ التّوراة باللّغة العبريّة؟ فلو عدنا، مرّة أخرى، إلى الأصل العبري للتّوراة وتعقّبنا مفردة "الجلد" الّتي تستخدمها هذه الترجمات العربيّة، لاكتشفنا على الفور أنّها ترجمة غير دقيقة للمفردة العبريّة "رقيع" الّتي تظهر في الأصل العبري للتوراة (وبالحرف العبري: רקיע). وهكذا، بوسعنا الآن أن نقرأ النّصّ التّوراتي، بترجمتي، على النّحو التّالي: "وَقَالَ اللّهُ، لِيَكُنْ رَقِيع فِي الماء، وَلِيَكُنْ فَارِقًا بَيْنَ مَاءٍ وَمَاءٍ. وَعَملَ اللّهُ الرّقِيع، وَفَرَقَ بَيْنَ الماءِ الّذِي تَحْتَ الرّقيع وبين الماء الّذي فوقَ الرّقيع، وكَانَ كذلك. وَدَعَا اللّهُ الرّقيعَ سَماءً..." (تكوين 1: 6-8). وبكلمات أخرى، يتّضح أنّ تسمية السّماء بالرّقيع، هي تسمية توراتيّة وباللّغة العبريّة، وهي اللّغة التي كان يكتبها ورقة بن نوفل وغيره، كما ورد في الروايات الإسلامية التي أشرنا إليها سابقًا.
بالاستناد إلى هذه الرّوايات الإسلاميّة، نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه، وهو أنّه على ما يبدو فإنّ الرّسول كان قد تعلّم مفردات اللّغة العبريّة التّوراتيّة وبهذه المعاني بالضّبط، كما إنّه قد قام بدوره بتعليم مفردات هذه اللّغة لأصحابه، كما يتّضح من سياق الأحاديث. وهكذا ينجلي لنا مرّة أخرى أنّ معرفة اللغة العبريّة ضروريّة لمعرفة الإسلام على حقيقته، إذ أنّ هذه المعرفة ستفتح أمامنا الكثير من الأبواب الّتي ظلّت موصدة طويلاً، وستمكنّنا من إلقاء أضواء جديدة على تطوّر الكثير من المفاهيم الإسلامية التي رافقت الإسلام على مرّ الزّمن.
والعقل ولي التوفيق
***
إقرأ أيضًا: "إلوهيم" في الإسلام
اخطأت .. فالقرآن الكريم عربي خالص الكلمات والجمل والعبارات .. انا انزلناه قرآناً عربياً مبين .. اما استدلالك بانه لا يوجد للفظين مقابل في الشعر الجاهلي .. فذلك معروف وبديهي - وليس حجة ولا دليل - لان الشعر العربي بكل بساطة لم يكتب منه إلا القليل اليسير ولم ينقل منه ويكتب إلا اقل القليل .. فلا جدوى من محاولة ربط ما لا يرتبط لمجرد نقل لكلمات وعبرات لا تستند الى صلب الموضوع
ردحذف