الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

رسالة إلى الرئيس الأسد

سلمان مصالحة | رسالة إلى الرئيس الأسد

(وإلى أدونيس أيضًا)
سيّدي الرئيس،
من الصعب أن أتوجّه إليك بهذا اللّقب، ولكن ولأنّك لا زلت حتّى هذه اللّحظة، من الناحية الرسميّة على الأقلّ، تحمل اللّقب وتجلس في المنصب فإنّ الأصول والرسميّات توجب التوجّه إليك بهذه الصفة. ولذا، أبدأ فأقول:

سيّدي الرئيس،
منذ أن اندلعت ألسنة النّيران في تونس، في جسد البوعزيزي، وتطاير شررها في أنحاء مختلفة من الأقطار العربيّة لم تفهم أنت، أو أنّ من أوصلك إلى الحكم بمسرحيّة دستوريّة لم يرد لك أن تفهم، أنّ هذا الجمر العربي الكامن تحت الرّماد والرّمال العربية طوال هذه العقود الطويلة من الاستبداد سيلتهب في بيتك أنت أيضًا.

لقد صرّحت أنت وفي أكثر من مناسبة، للصحافة الأجنبيّة طبعًا، أنّ سورية تختلف عن تونس وتختلف عن ليبيا وتختلف عن مصر. نعم، هكذا وبجرّة لسان في مقابلات صحفيّة ظهرت الحقيقة على السّطح، فأطاحت بكلّ هذه الأيديولوجيّة البعثيّة الكاذبة القائلة بـ ”أمّة واحدة ورسالة خالدة“.

إذن، مع نشوب النّار فيما لدى العرب من أقطار، تهاوى سريعًا ذلك الشّعار. إنّ هذا السّقوط المدوّي للشّعار، كما جاء على لسانك أنت، يكشف على الملأ كلّ ذلك الدّجل القوميّ الّذي أشاعه البعث طوال عقود طوال. طالما دغدغت هذه الشعارات البرّاقة، ولا زالت تدغدغ للأسف، عواطف مراهقي العروبة.

خلف هذه الشّعارات البعثيّة، قامت هذه الأيديولوجيّة الكاذبة، في العراق وفي سورية التي لا زلت فيها رئيسًا بصفة رسميّة، بإخفاء غياهب السّجون التي زُجّ فيها بكلّ من بحث عن حريّة، ثقافيّة أو سياسيّة من أبناء هذه الأصقاع العربيّة.

نعم، لم يكن هذا البعث سوى
أيديولوجيّة عنصريّة عربيّة. ولأنّه كذلك في الجوهر، فقد تحوّل سريعًا إلى أيديولوجيّة قبليّة. نعم، كذا كانت الحال في بلد الرافدين في عراق صدّام وكذا هي الحال الآن في بلاد الشّام. لقد تفاءل البعض من السّاذجين عندما أضحيت رئيسًا لكونك درست في الغرب وتعرّفت على حضارة الغرب، وتعرف استعمال الإنترنت والفيسبوك وما إلى ذلك من وسائل الاتّصال المعاصرة. لقد تفاءل البعض سذاجةً منهم ظانّين أنّك ربّما قد علقت بك رائحة من روائح الحريّة والانفتاح في العالم الغربي.

فيا لهم من ساذجين!
نعم، لقد كان كلّ هؤلاء ساذجين لأنّهم لم يعرفوا أنّك لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا. كلّ تلك السّنوات التي مرّت عليك في الغرب ذهبت أدراج الرّياح. إنّ أشدّ ما يثير الاكتئاب في النّفس هو هذه السّرعة التي تتلاشى فيها الشّعارات البرّاقة مع هبوب أوّل نسمة حريّة. لقد قالوا أيضًا عن ابن آخر قد وقع في الأسر أخيرًا إنّه تعلّم في الغرب وإنّه منفتح بخلاف والده. لكن، ما إن نشبت الانتفاضة في ليبيا حتّى رأينا كيف عاد سيف الإسلام القذّافي إلى طبعه الذي غلب على تطبّعه في الغرب. فبين ليلة وضحاها تحول النّاس المنتفضون إلى جرذان.

وهكذا أنت يا سيادة الرئيس.
نعم، لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا، بل أنت ابن أبيك. إذ، لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت رفضت ما قام به أبوك من عمليّة توريث للسّلطة بمهزلة دستوريّة. لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت أصررت على مواصلة عملك كطبيب عيون. لكنت أصررت على مواصلة تقديم العون للنّاس ليروا النّور على يديك. لكنّك لست كذلك. لم تنفع معك الدّراسة في الغرب المتحضّر، ولم يعلق بك أيّ شيء من حضارة الحريّة هذه.

لقد عدت إلى الطبع القبليّ
العربيّ الّذي لا يعلق به التطبُّع. هكذا أضحت ”سورية ليست تونس، وسورية ليست مصر...“ علامة على العودة إلى هذه الأصول القبليّة العربيّة. إنّ هذه الأصول هي أساس بلاء العرب. إنّ هذه الأصول هي التي تشدّ هذه المجموعات البشريّة إلى القيعان كلّما حاول البعض من أبناء هذه الأمّة الخروج منها.

نعم، سيّدي الرئيس،
إنّ هذه النّعرات القبليّة البدائيّة هي التي تقف سدًّا منيعًا أمام قيام دولة عصريّة. إنّ هذه النّعرات هي التي تمنع تكوّن شعب، بما يعنيه هذا المصطلح.

سيّدي الرئيس، كم هو مؤلم أن أقول لك: هذه هي حقيقتك. في الواقع، هذه هي حقيقتنا جميعًا.

والآن، وبعد كلّ هذه الجرائم
التي يرتكبها النّظام الّذي تقف أنت على رأسه، لا يمكن للحياة في الشّام أن تعود إلى سابق العهد. لا يمكن أن تهدأ الأمور والخواطر وكأنّ شيئًا لم يحصل. سيّدي الرئيس، لقد آن الأوان أن تفهم هذه الحقيقة المرّة، ولذا لم يعد بدّ من أن تحزم الحقائب. لم يعد بدّ من أن تترك النّاس لشأنهم.

إنّ الحنجرة التي استأصلها شبّيحتك تصرخ من تحت التّراب: ”ياللّه، ارحل يا بشّار!“

والعقل وليّ التّوفيق!
*
مقالة نشرت في: ”إيلاف“، 27 ديسمبر 2011

إقرأ أيضًا: "تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته"
***
For Hebrew, press here
***
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات