من الأرشيف (1998)
والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة
سلمان مصالحة ||
راحت القدس
قد يظهر بعض النّفر من العرب على شاشات الفضائيّات وقد يسرح ويمرح متغنّيًا بالقدس وبما تمثّله في وجدان العرب والمسلمين. لكنّ الحقيقة تظلّ واضحة جليّة، وهي بخلاف ذلك تمامًا. فالعرب، على مللهم ونحلهم لم يهتمّوا بهذه المدينة أبدًا لا في غابر الزّمان ولا في هذا الأوان. فالجميع يتذكّر تلك الحملة الإعلاميّة الّتي نظّمتها محطّة الـ M.B.C. وخلال يوم بثّ فضائي كامل لم تستطع المحطّة أن تجمع غير بعض الملايين من العربان من المحيط إلى الخليج. هذا الفتات الإعلامي العربي يتقزّم أمام تبرّع ثريّ يهودي واحد الّذي يتبرّع أكثر من الأمّة العربيّة مجتمعة. كلّ ذلك يعني شيئًا واحدًا وهو أنّ القضيّة تبقى قضيّة إطلاق شعارات لا تستند إلى واقع.
والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة، مثل بغداد؛ أو الشّام، أو القاهرة، حتّى في فلسطين ذاتها لم يعرها أهلها اهتمامًا يُذكر. ولا زلت أتذكّر حينما وصلت إلى القدس قادمًا من الجليل في بداية السبعينيّات، أي ثلاث سنين ونيّف بعد احتلال القسم الشرقي منها، كيف كانت هذه المدينة الّتي يتغنّى بها البعض. لقد رأيت الإهمال يعشّش في كلّ حارة فيها، وفي المدينة القديمة وحول الأسوار التّاريخيّة.
أمّا الآن، أيّها السّادة فقد تغيّر الوضع وتبدّل الزّمان، وعلى ما يبدو فلن تعود إلى سابق عهدها. وإذا تساءل أحد من النّاس من المسؤول عن ذلك فإنّي أقول، إنّه بالإضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي الّذي عمل طوال سنين على تكريس الاحتلال في القدس وضمّها على أرض الواقع، فالمسؤول الأهم في نظري هو هذه الأمّة المغلوب على أمرها من قبل حكّامها، ولا نستثني من ذلك الفلسطينيين على زعاماتهم طوال السّنين.
الضّجّة المفتعلة الّتي يقوم بها الإعلام العربي والفلسطيني بعامّة بين الفينة والأخرى عن مصادرات الأراضي في القدس المحتلّة، ما هي إلاّ ”سحابة صيف عن قريب تقشّع“. كلّ هذا الضّجيج لا يُفضي إلى شيء، وهو يأتي فقط للتّرويح عن النّفس. هكذا تعلّمنا خلال فتح النّفق، وهو لا زال مفتوحًا، لعلمكم، وهكذا حصل في جبل أبو غنيم، وهكذا سيحصل مستقبلاً في أماكن أخرى. منذ العام 67 وإسرائيل هي الّتي تسيطر على القدس المحتلّة، ومنذ العام 67 وإسرائيل، على حكوماتها المتعاقبة من أحزاب عمل أو ليكود وسائر تقليعاتها الأخرى تعمل كلّ ما في وسعها لتغيير الميزان الديمچرافي، وتبديل الخطّ الطوبوچرافي للمدينة المحتلّة، والحقيقة الّتي يجب أن تُقال هي أنّها قد أفلحت في كلّ ذلك. وطوال هذه العقود الماضية لم تكن ردود فعل العرب والمسلمين إلاّ من قبيل دفع الضّرائب الكلاميّة، مطنطنة عن أهميّة القدس العربيّة وما إلى ذلك من كلام فارغ لا يستند إلى قاعدة شعبيّة. لم يكن إعلان المبادئ في أوسلو وما أعقبها من اتّفاقات تفريط إلاّ ليضع المسمار الأخير في تابوت المدينة العربيّة. إنّ من وقّع على تأجيل بحث قضيّة القدس، إضافة إلى تعليق القضايا الملحّة الأخرى إلى أجل غير مسمّى، بعد هذه العقود الطّويلة من الاحتلال يحصد الآن مغبّة ذلك. دهاقنة السّلطة مشغولون بفتح كازينو على تخوم مخيم لاجئين في أريحا أوّلاً. دهاقنة السّلطة الفلسطينيّة مشغولون بإجراء محاكم صوريّة لأفراد شرطة ومن ثمّ إعدامهم خلال ساعات، دون أن يُسمع صوت واحد شجاع ضدّ هذه الممارسات. وهكذا تمضي إسرائيل قدمًا في عقد الاتّفاقات مع السّلطة الفلسطينيّة حول تسليمها فتات سلطة في هذا الموقع أو ذاك مبقية قضيّة القدس واللاّجئين والمستوطنات خارج كلّ هذه الاتّفاقات. وحين تُكبّل السّلطة الفلسطينيّة نفسها بأغلال البنود المنصوصة، تبقى القدس وسائر القضايا خارج هذه اللّعبة - الفضيحة.
يجدر بنا أن نُذكّر القارئ العربي الفطن بجميع تلك الخطابات الرنّانة والتّعابير الّتي كانت تُكال على إسرائيل من لدن وسائل الإعلام الفلسطينيّة والعربيّة في الستّينات والسّبعينات. لا بدّ أنّ القارئ العربيّ الفطن يتذكّر أنّ إسرائيل كانت تُدعى في الإعلام العربي بأسماء مثل: "دولة العصابات"، أو "الكيان المزعوم" وما إلي ذلك من بلاغة عربيّة خرّبت بيوت العرب. إنّ ما يظهر على أرض الواقع الآن هو العكس تمامًا، فها هي السّلطة الفلسطينيّة قد حوّلت فلسطين نفسها إلى "كيان مزعوم" ، كما أنّها تتصرّف على الأرض كما لو كانت دولة عصابات. وهكذا ضُربت عرض الحائط تقارير الفساد الّتي صدرت عن مجلس تشريعي، وهكذا صارت "حكومة عرفات" بقدرة قادر أكبر عددًا من حكومات الدّول العظمى.
وهكذا وبعد هذه السّنوات الطّويلة صارت القدس، بهمّة العربان، قضيّة أماكن مقدّسة ليس إلاّ. وعلى ما يبدو فإنّ ما ستبقيه إسرائيل للفلسطينيّين والعرب والمسلمين هو تلك التلّة الّتي يقوم عليها الحرم القدسيّ الشّريف، لكن ليس إلى الأبد، بل فقط في هذه المرحلة التّاريخيّة. إنّ تحويل الخلاف إلى مسألة تتعلّق بالهيمنة على الأماكن الإسلاميّة المقدّسة في المدينة هو محاولة إسرائيليّة لسحب البساط من تحت أرجل المطلب الفلسطينيّ والعربيّ بشأن السّيادة السياسيّة في المدينة. بذلك تحوّلت القدس إلى مجرّد مدينة فيها أماكن مقدّسة إسلاميّة، ويتحوّل المطلب إلى المطالبة بحريّة الوصول إلى الأماكن المقدّسة لإقامة الصّلوات، وهذا بالضّبط ما تريده إسرائيل. فإسرائيل لا تنفيّ قدسيّة الأماكن الإسلاميّة، مع أنّ ثمّ تيّارات يمينيّة دينيّة يهوديّة تحلم بإقامة الهيكل الثّالث على أنقاض هذه الأماكن، ولكنّها مع ذلك تريد أن تبقى السّيطرة السّياسيّة على المدينة في أيديها إلى أبد الأبيد. وخلال هذه العقود الماضية من الاحتلال قامت إسرائيل بخلق وضع جديد في القدس العربيّة المحتلّة، حيث قامت بضمّ القدس ومناطق كبيرة تابعة للقرى االفلسطينيّة المحيطة بها وأجرت عليها القانون الإسرائيلي. وخلال هذه العقود أقامت الحارات الاستيطانيّة في منطقة القدس العربيّة المحتلّة الأمر الّذي غيّر من الميزان الديموچرافي في القدس المحتلّة. والآن وبعد سنين أصبح عدد السكّان اليهود في القدس المحتلّة أكبر من عدد السكّان العرب. وبعد وقت ليس بالطّويل لن يبقى هناك ما يُتفاوض عليه بشأن القدس. وخلال كلّ هذه العقود، لم يفطن العرب إلى ما يجري على أرض الواقع.
وإسرائيل لا تمضي قدمًا في ذلك إلاّ لعلمها أنّ العالم الغربيّ على جميع دوله وشعوبه يدعمها، أو على الأقلّ لا يعترض على هذا المخطّط. يجب ألاّ يغيب عن الأنظار أنّ العالم الغربيّ كما ذكرت أكثر من مرّة في الماضي لن يقوم بالضّغط على إسرائيل بأيّ حال من الأحوال لأسباب تاريخيّة تتعلّق بالعلاقة الجوهريّة العميقة الّتي تربط الغرب المسيحي بإسرائيل الممثّلة لليهوديّة الّتي هي الجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين الّذين يشكّلون خطرًا على العالم الغربي المسيحي. نقطة.
يُطلق العربان شعارات عن كون القدس في الوجدان. أينَ تلك النّصوص الأدبيّة الّتي تُقيم القدس في الوجدان؟ الحقيقة أنّها معدومة تقريبًا. يجب أن نكفّ عن إطلاق مثل هذه الشّعارات. يجب أن نقول كلمتنا بصراحة، ودون مواربة، إنّ ما فعلته إسرائيل خلال عقود من احتلال المدينة يضاهي كلّ تلك القرون العربيّة الطويلة الّتي حكم فيها العرب والمسلمون هذه المدينة. هذه هي الحقيقة المرّة، ومن لا يرى هذه الحقيقة فقد ضلّ طريقه ولن يرى النّور في نهاية النّفق.
*
نشرت في: ”القدس العربي“، 23 سبتمبر 1998
----
0 تعليقات:
إرسال تعليق