من الأرشيف (يوليو 2005):
وهكذا أيضًا، يمكننا أن نمضي على هدي اكسينوفانس فنقول: إنّه إذا كان الإنسان عنيفًا فإنّ إلهه يرتسم عنيفًا على شاكلته، وإذا كان الإنسان محبًّا فإنّ إلهه يرتسم محبًّا إلى أبعد الحدود لا يفرّق بين بني البشر، وإذا كان قبليّ النّزعة يأتي إلهه قبليًّا على شاكلته...
سلمان مصالحة ||
مرثية اكسينوفانس
قبل أن يظهر العرب في ساحة التّاريخ وفي مسرح الحضارة البشريّة الّتي تُعاني من مخلّفاتهم في هذا العصر، كان ثمّة نفرٌ من أهل العرفان المحض يضعون الأسس المعرفيّة والأخلاقيّة الّتي لولاها لما عرف بنو البشر للحياة معنى. وبالإضافة إلى الغوص في مسائل الرّوح والنّفس والوجود في هذا الكون فقد أشرع هؤلاء زورق العقل وحرّروه من كلّ قيد، فطفق يجوب في بحر المعارف ويفتح مغاليق الآفاق ليكشف كلّ ما التبس من أسرار الكون المادّي والرّوحي. ففي بلاد الإغريق وفي القرن السّادس وعلى وجه التّحديد في العام 570 ق.م.، أي قبل ألف عام بالضّبط على عام الفيل الّذي يؤرّخ به العربان، ولد في كولوفون في آسيا الصّغرى الشّاعر والفيلسوف الإغريقي إكسينوفانس. ومع توسّع الفرس غربًا انتقل أكسينوفانس إلى صقليّة، ومن صقليّة إلى ماجنا غريقيا حيث اشتهر بوصفه فيلسوفًا مؤسّسًا لمدرسة فلسفيّة. لقد خلّف لنا إكسينوفانس فلسفته في مقطوعات شعريّة متفرّقة وصلت إلينا، ولا زال إشعاعها الفكري بهيًّا إلى يومنا هذا.
لقد ثار إكسينوفانس على عقائد الإغريق، كما عكسها هوميروس وهيسيود، والّتي أغدقت على الآلهة مزايا بشريّة، بما فيها المزايا غير الأخلاقيّة كالسرقات والغشّ وما إلى ذلك. لقد سخر الفيلسوف من أنّ بني البشر يجعلون لآلهتهم لباسًا وكلامًا يتكلّمون به ويجعلون لها أجسادًا على شاكلتهم. وهكذا يقول إنّ أهل الحبشة يصوّرون إلههم وكأنّه ذو أنف أفطس وأسمر اللّون، وأهل تراقيا يصوّرونه أزرق العينين ذا شعر أحمر. ويستمرّ اكسينوفانس في كلامه هذا ليصل إلى القول: "لو كان للثّيران والخيول والأسود أيادٍ، وكانت تعرفُ فنّ الرّسم بأياديها وتبدعُ لوحات فنّيّة كما يفعل بنو البشر، لكانت الخيولُ رسمت آلهتها على هيأة خيول، والثّيران على هيأة ثيران، ولصوّرت أجسادها على شاكلتها باختلاف أنواعها". وهو يريد القول إنّ هذه الآلهة هي من صنع الإنسان، أمّا الحقيقة المطلقة فهي تسع كلّ شيء وترى كلّ شيء وتعقل كلّ شيء، وليس في وسع الإنسان أن يصل إلى منتهاها، إنّما هو يمضي في عمليّة اكتشاف للحقائق الكونيّة على مرّ الزّمن والتّاريخ.
لقد وصل اكسينوفانس إلى الوعي بأنّ ثمّة إلهًا أوحد فوق كلّ هذه الآلهة. إنّه الحقيقة الكبرى والمفهوم المجرّد الطّاهر القائم في الكون بأسره، لا يبرح من مكان لمكان. إنّه ليس شخصًا بعينه أو صورة بعينها، وإنّما هو مبدأ كونيّ مجرّد لم يكشف لنا كلّ شيء منذ البدء، وإنّما يصل بنو البشر إلى هذا الكشف على مرّ العصور والدّهور. أي أنّ معرفة الكون واكتشاف مكنوناته هي مهمّة ملقاة على عاتق بني البشر ذوي البصر والبصيرة، أي هي مهمّة العقل البشري في نهاية المطاف. وإله اكسينوفان الأوحد هذا لا يتّصف بالأنانيّة، وليس مهتمًّا بأن يقدّم له بنو البشر القرابين، ولا بأن يقيموا له الشّعائر، إذ إنّه مبدأ مجرّد مُنزّهٌ عن كلّ هذه الأمور السّخيفة. إنّه ليس "إله الجنود" وليس جبّارًا ولا ما يحزنون. إله اكسينوفانس لا يأمر بني البشر بأن يقتلوا أبناء جنسهم على غرار إله آخر ذاع صيته في فترة لاحقة. وما مقولة اكسينوفانس إنّه لو كانت الخيول والثّيران تعرف فنّ الرّسم لرسمت آلهتها على هيأة ثيران وخيول، إلاّ لأنّه يريد أن يقول إنّ الإله يتطوّر بتطوّر الإنسان. فهناك آلهة الشّمس والقمر والشّجر، وهناك آلهة البحر والسّماء، وهناك آلهة الحبّ والجمال على مرّ الأجيال، فبقدر ما يتطوّر الإنسان علمًا وأخلاقًا يتطوّر معه الإله علمًا وأخلاقًا، فتكون معرفة الإنسان هي معرفة الإله.
وهكذا أيضًا، يمكننا أن نمضي على هدي اكسينوفانس فنقول: إنّه إذا كان الإنسان عنيفًا فإنّ إلهه يرتسم عنيفًا على شاكلته، وإذا كان الإنسان محبًّا فإنّ إلهه يرتسم محبًّا إلى أبعد الحدود لا يفرّق بين بني البشر، وإذا كان قبليّ النّزعة يأتي إلهه قبليًّا على شاكلته. وإن كان الإنسان ترعرع على الكراهية والبغضاء فإنّ إلهه يكون أشدّ كراهية وبغضاء منه، فيصير التّقرُّب إلى إلهه يمرّ عبر بوّابة سفك الدّماء. فمثلما يكون البشر، كذا تكون صورة آلهتهم. هكذا كان منذ بدء الحياة البشريّة وهكذا يكون إلى الأبد.
أليس من حقّنا، بعد كلّ ما ذكرنا عن اكسينوفانس، أن نقول: تَقدّس سرُّه وطاب ثراه ومثواه؟
***
نشر: إيلاف، 21 يوليو 2005
0 تعليقات:
إرسال تعليق