الجمعة، 7 مارس 2014

مجنون يحكي وعاقل يسمع


لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا. هذا الكلام لا يصلح حتّى كنكتة، فما بالكم به بعد كلّ هذه الجرائم التي طالت الحجر والشجر وفوق كلّ ذلك البشر في هذا البلد العربي...

سلمان مصالحة || 

مجنون يحكي وعاقل يسمع


وُلدنا، شببنا وترعرعنا في هذه البقعة من الأرض على وقع خطاب عربيّ يُحيل كلّ ما هو حاصل عندنا من إخفاقات إلى مؤامرات يقوم الآخرون بحياكتها في الخفاء. لقد سمعنا تنويعات شتّى من مثل هذا الكلام طوال عقود. بهذا السياق، رُبّما كُنّا نحن أكثر شعوب العالم قبولاً بنظريّات المؤامرة هذه. والسؤال الذي لا مناص من طرحه هو: ما الذي يجعل العربيّ مهووسًا إلى هذا الحدّ بتلقُّف قصص المؤامرات، كما لو أنّها حقائق لا يرقى إليها الشكّ؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى الخوض في منظومات معرفية متعدّدة المجالات. بوسعنا أن نضع هنا إطارين للنّظر في هذه المسألة، إذ أنّ الاعتقاد بوجود مؤامرة يأتي من طرفين نقيضين في مجتمعاتنا، طرف الحاكم وطرف المحكوم. وأقول إنّهما طرفان نقيضان استنادًا إلى جوهر هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمعاتنا العربية.

ليس هنا المجال للغوص في الماضي، فنقصر الكلام عن الحاضر غير البعيد. فكما هو معلوم للقاصي والداني، لم يشهد العالم العربي في تاريخه المعاصر أيّ شكل من أشكال السّلطة النّابعة من إرادة حرّة للأفراد الذين يشكّلون هذه المجتمعات. لم يحصل شيء من هذا القبيل في الإمارات والسلطنات والممالك، ولم يحصل أيضًا لدى رافعي شعارات الإسلام ولا رافعي شعارات القوموية والثورية والاشتراكية وما شابه ذلك من بلاغات عربية بليدة هي أبعد ما تكون عن نهج هؤلاء في كلّ صقع من أصقاع تواجدهم.

ومناسبة الحديث في هذه المسألة الآن هي ما قرأنا من تصريحات أدلى بها نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، فقد ورد على لسانه في مقابلة مع التلفزيون السوري أنّ القيادة السورية "تعي مسبقًا حجم المؤامرة". ليس هذا فحسب، بل إنّه يضيف شرحًا مُسهبًا لهذه المؤامرة كما تراها هذه "القيادة السورية"، وذلك لكي يفهم المشاهدون ما يجري من حولهم، فيقول: "التغيير الذي أحدثوه في عدة أقطار عربية لم يكن هدفه إلا الوصول إلى سوريا لأنها الدولة المقاومة الوحيدة التي بقيت على الساحة العربية في وجه المخططات الإسرائيلية ومحاولات الهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية".

هكذا، إذن، تكشف لنا هذه الذهنية عن أنّ البوعزيزي التونسي الذي أضرم بنفسه النّار في تونس فكان الشرارة الأولى للانتفاضات العربية لم يكن سوى عميل في خدمة السي.آي.إيه. أو ربّما يعمل في الموساد الإسرائيلي. كما إنّ الملايين التي خرجت تتظاهر في الشوارع العربية ضدّ الأنظمة المستبدّة وتطالب بالعيش الكريم وبالحرية ليست سوى طبقة موظّفين تعمل في سلك المخابرات الأجنبيّة. بل وأكثر من ذلك، لم يكن هدف كلّ هؤلاء، بحسب ”منطق“ المستبدّين، نشود الحرية والكرامة الإنسانية في تونس، أو ليبيا، أو مصر، أو اليمن. كلّ هذه الملايين التي خرجت في الشوارع كان هدفها الأوّل والأخير هو ”الوصول إلى سوريا لأنّها الدولة المقاومة الوحيدة“.

لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا. هذا الكلام لا يصلح حتّى كنكتة، فما بالكم به بعد كلّ هذه الجرائم التي طالت الحجر والشجر وفوق كلّ ذلك البشر في هذا البلد العربي. فماذا يمكن القول عن أصحاب هذه الذهنية؟ مجنون يحكي وعاقل يسمع، كما نقول في لهجتنا الدّارجة. غير أنّ هذه الذهنيّة هي بالضّبط المنبع الّذي تفتّق عنه وصف السوريين الذين انتفضوا ضد الظّلم البعثي، القبليّ والطائفي، بمصطلحات مثل ”المندسّين“ وما شابه ذلك، حينما خرج هؤلاء بمظاهراتهم السلمية ناشدين الحرية في بداية الهبّة السوريّة. إذ أنّ كُلّ من يطلب أدنى حدود الحرية لبني البشر هو عميل ومندسّ في عرف هذه الذهنية البليدة.

لكن، أكثر ما يحزّ في النّفس هو مواقف ذلك الصّنف من أبناء جلدتنا الذين ما زالوا يعيشون في طور المراهقة العروبية، فيتلقّفون هذا الكلام دون أن يرفّ لهم جفن أو تدمع لهم عين على عشرات ومئات آلاف القتلى من الأطفال والنساء والرجال وملايين المهجّرين من أبناء أمّتهم، تلك الأمّة التي طالما تغنّوا بأمجادها الكاذبة.

لقد بانت الآن حقيقة هؤلاء، وهي حقيقة مرّة. لقد عرّت الحال السوريّة كلّ أصحاب الشعارات القومويّة الكاذبة الذين طالما مدّوا يد العون للاستبداد العربي باسطين له سجاجيد مُدبّجة بكلام موزون بأيديولوجيّة فاشيّة عربيّة عنصريّة تتخفّى وراء شعارات الممانعة والمقاومة والتصدّي. لقد بلغ كلّ هذا الصدأ الكلامي في الخطاب العربي مبلغًا حتّى كسد. لم يعد له مشترون في الأسواق العربية الشابّة.

وهكذا، فعلى كلّ عربيّ يملك ذرّة من كرامة أن يسير في شوارع هذا العالم مطأطئ الرأس خجلاً من نفسه، خجلاً من الحال التي آلت إليها أوضاعه. على كلّ عربيّ يملك ذرّة من إنسانية أن ينظر قليلاً إلى نفسه في المرآة، أن يجري حسابًا للنفس وأن يرى ماذا فعل لنفسه. فكلّ ما هو حاصل عندنا هو من صنعنا نحن.

يدانا أوكتا وفونا نفخ. لا حاجة إلى مؤامرات الآخرين، إذ إنّ المؤامرات تعشّش في ذهنيّاتنا.

*

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات