مختارات:
للتمثيل يدٌ في تربية الملكات وترقيق الشعور والإحساس. يعده الغربيون من العوامل في إنهاض الأمم، ويعده العامة من المسليات. وما هو إلا أُمثولات، ويراه فريق هزلاً، وما هو إلا عين الجد.
محمد كرد علي ||
التمثيل في الإسلام
للتمثيل يدٌ في تربية الملكات وترقيق الشعور والإحساس. يعده الغربيون من العوامل في إنهاض الأمم، ويعده العامة من المسليات. وما هو إلا أُمثولات، ويراه فريق هزلاً، وما هو إلا عين الجد.
وأيُّ نفس لا تتأثر بالفضيلة والرذيلة، والسعادة والشقاء، والماضي والحاضر، والمفجع والمطرب. وكأن الغرب خُصَّ بمزية التمثيل كما اختص بكثير من المزايا ولم ترج سوقه في الشرق في عصر من العصور إلا في مملكة الشمس المشرقة، بلاد يابان، فإن التمثيل فيها قديم، كما نقل أحد الفرنجة. وقد جاءت إلى بلاد الألمان ممثلة يابانية منذ بضع سنين اسمها سادايا كو من أعظم الممثلات اليابانيات فأدهشت القوم بتمثيلها.
وليس من حجة تاريخية يُستأنس بها على وجود التمثيل عند العرب، غير عبارة كنت قرأتها في بعض أسفار كمال بك الشهير، وأظن في مقدمة روايته جلال الدين خوارزمشاه، تشعر بأن عرب الأندلس عرفوا التمثيل واشتغلوا به قليلاً. وما أدري على أي شيء بنى هذه الحادثة التاريخية، على حين يكاد يكون في حكم الإجماع اتفاق الباحثين في مدنية المسلمين على أنهم ما عرفوا التمثيل على نحو ما كان عليه عند أمم الحضارة القديمة.
قال أحد فضلاء الألمان أن التمثيل لم يشتغل به العرب بداعي غلظ حجاب النساء عندهم والحظر عليهم في الخروج. والتمثيل لا يتم بدون مثول النساء فيه.
ذاكرت مرة أحد الأئمة في معنى التمثيل عند المسلمين، فقال: إنه من خصائص الجنس الآري وأن الجنس السامي، ومنه العرب، لا يعرف التمثيل ولا شغل نفسه به، لأن حالته لا تقتضي ذلك. ولعل الفرس ألّفوا كتاب ألف ليلة وليلة لأنّهم من جنس آري، وفي هذا الكتاب شيء من التمثيل. والعلوم والفنون تحدث في الأمم بحسب الدواعي والبواعث، وفي العربية شيء من الروايات وقطع تمثيلية ولكنها مبعثرة غير منظمة.
وسألت أحد الحكماء عن ذلك، فقال: ليس التمثيل طبيعيًّا في الأمم، والعرب يأنفون منه، لما عُرفوا به من الأخلاق، فيرون من سقوط المروءة أن يُمَثّل مجلس الأمير أو الوزير وإن كان لا يخلو من حكمة، فكيف بمجلس صبابة وغرام.
أما اليونان فقد ابتدعوا التمثيل لأن لهم خيالات وتصورات خُصّوا بها دون سائر الأمم. ونقل الأوربيون التمثيل عن اليونان لأنهم أرادوا أن يتشبهوا بهم حذو القذة بالقدة. وهناك أسباب أخرى زَهّدت المسلمين في التمثيل، ذلك لأنهم أُمّة لم تَنقُل عن غيرها إلا ما مسّت حاجتها إليه، وانطبق مع عاداتها. وليس العربُ أمّةَ خيال، بل أُمّة حسّ وحقيقة. هذا ما قاله العالمان المشار إليهما.
وأنت ترى أن التمثيل في بلادنا حديث النشأة. كانت بعثته الأولى سنة ١٣٨٢هـ في سورية، ومنها انتقل إلى مصر. وما برحت حاله تتقلب بين هبوط وصعود، وإن لم يعد ذلك صعودًا بالنسبة للأمم الراقية. وليس ذلك فيما أحسب إلا لانقطاع الرغبات في الآداب العربية، واقتصار القوم من التمثيل على الأغاني والمناظر، لا على المعنويّات والجواهر.
نقلاً عن: مجلة المقتبس، العدد 1، سنة 1906
ـــ
0 تعليقات:
إرسال تعليق