مختارات تراثية:
أبو حيان التوحيدي || حول المصنوع والمطبوع
مَسْأَلَة: لم صَار الْعرُوضُ رديءَ الشّعْر قَلِيل المَاء، والمطبوع على خِلَافه؟
ألم تُبْن العرُوض على الطَّبْع؟ أليست هِيَ ميزَان الطَّبْع؟ فَمَا بالها تخون، وَقد رَأينَا بعض من يتذوق وَله طبع يخطئ وَيخرج من وزن إِلَى وزن وَمَا رَأينَا عروضيًّا لَهُ ذَلِك؟
الجَواب:
قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه - رَحمَه الله: إِن المطبوع من المولّدين يلْزم الْوَاحِد وَلَا يخرج عَنهُ مادام طبعه يُطِيع ذَلِك. وَلَكِن، سمعنَا للشعراء الجاهليين الْمُتَقَدِّمين أوزانًا لَا تقبلُهَا طباعُنا وَلَا تحسن فِي ذوقنا، وَهِي عِنْدهم مَقْبُولَة موزونة يستمرّون عَلَيْهَا كَمَا يستمرّون فِي غَيرهَا، كَقَوْل المرقش: “لِابْنَةِ عجلَانَ بالطفّ رسومُ * لم يتعفين والعهدُ قديمُ” - وَهِي قصيدة مختارة فِي المفضليات وَلها أَخَوَات لَا أُحبّ تَطْوِيل الْجَواب بإيرادها - كَانَت مَقْبُولَة الْوَزْن فِي طباع أُولَئِكَ الْقَوْم، وَهِي نافرة عَن طباعنا نظنها مَكْسُورَة. وَكَذَلِكَ قد يستعملون من الزخاف فِي الأوزان الَّتِي تستطيبها مَا يكون عِنْد المطبوعين منا مكسوراً، وَهِي صَحِيحَة.
وَالسَّبَب فِي جَمِيع ذَلِك أَن الْقَوْم كَانُوا يَجبُرون بنغمات يستعملونها مَوَاضِع من الشّعْر يستوي بهَا الْوَزْن. ولأننا نَحن لَا نَعْرِف تِلْكَ النغمات إِذا أنشدنا الشّعْر على السَّلامَة، لم يحسن فِي طباعنا. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنّا [إذا] عرفنَا فِي بعض الشّعْر تِلْكَ النغمة حسن عندنَا وطاب فِي ذوقنا كَقَوْل الشَّاعِر: إِن بِالشعبِ الَّذِي دون سلع * لقتيلاً دَمه مَا يُطلّ. فَإِن هَذَا الْوَزْن إِذا أُنْشد مفكك الْأَجْزَاء بالنغمة الَّتِي […] فَمَتَى ذهب عَنهُ ذَلِك لم يستقم فِي ذوقه وَلم يساعد عَلَيْهِ طبعه.
فَأَمّا من نقص ذوقُه فِي الْعرُوض فَإِنَّمَا ذَلِك للغلط الَّذِي يَقع لَهُ فِي بعض الزحافات الَّتِي يجيزها الْعرُوض، وَله مَذْهَب عِنْد الْعَرَب. فَيَقَع لصَاحب الذَّوْق الَّذِي لَا يعرف تِلْكَ النغمة الَّتِي تقوم بذلك الزحاف - أَنه جَائِز فِي كل مَوضِع فيغلط من هَهُنَا ويتهم أَيْضا طبعه حَتَّى يظنّ أَن المنكسر من الشّعْر أَيْضا هُوَ فِي معنى المزاحف وَأَنه كَمَا لم يمْتَنع المزحوف من الْجَوَاز كَذَلِك لَا وَهَذَا غلط قد عرف وَجهه وَمذهب صَاحبه فِيهِ.
وَأما وَاضع الْعرُوض فقد كَانَ ذَا علم بِالْوَزْنِ وَصَاحب ذوق وطبع فاستخرج صناعَة من الطباع الجيدة تستمر … وحياة نفسية وَهِي الْحَيَاة الإنسانية الَّتِي تكون بتحصيل الْعُلُوم والمعارف. وَهَذِه هِيَ الْحَيَاة الَّتِي تجتهد الأفاضل من النَّاس فِي تَحْصِيلهَا.
فَالْوَاجِب أَن يظنّ بالجاهل الَّذِي يحيا حَيَاة بدنية أَنه لَيْسَ بحيّ بتّة، أَعنِي أَنه لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا… فَأَمّا الْعَالم فَالْوَاجِب أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه هُوَ الْحَيّ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا أَن غَيره هُوَ الْمَيِّت.
نقلاً عن: أبو حيان التوحيدي، الهوامل والشوامل
***
أبو حيان التوحيدي || حول المصنوع والمطبوع
مَسْأَلَة: لم صَار الْعرُوضُ رديءَ الشّعْر قَلِيل المَاء، والمطبوع على خِلَافه؟
ألم تُبْن العرُوض على الطَّبْع؟ أليست هِيَ ميزَان الطَّبْع؟ فَمَا بالها تخون، وَقد رَأينَا بعض من يتذوق وَله طبع يخطئ وَيخرج من وزن إِلَى وزن وَمَا رَأينَا عروضيًّا لَهُ ذَلِك؟
الجَواب:
قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه - رَحمَه الله: إِن المطبوع من المولّدين يلْزم الْوَاحِد وَلَا يخرج عَنهُ مادام طبعه يُطِيع ذَلِك. وَلَكِن، سمعنَا للشعراء الجاهليين الْمُتَقَدِّمين أوزانًا لَا تقبلُهَا طباعُنا وَلَا تحسن فِي ذوقنا، وَهِي عِنْدهم مَقْبُولَة موزونة يستمرّون عَلَيْهَا كَمَا يستمرّون فِي غَيرهَا، كَقَوْل المرقش: “لِابْنَةِ عجلَانَ بالطفّ رسومُ * لم يتعفين والعهدُ قديمُ” - وَهِي قصيدة مختارة فِي المفضليات وَلها أَخَوَات لَا أُحبّ تَطْوِيل الْجَواب بإيرادها - كَانَت مَقْبُولَة الْوَزْن فِي طباع أُولَئِكَ الْقَوْم، وَهِي نافرة عَن طباعنا نظنها مَكْسُورَة. وَكَذَلِكَ قد يستعملون من الزخاف فِي الأوزان الَّتِي تستطيبها مَا يكون عِنْد المطبوعين منا مكسوراً، وَهِي صَحِيحَة.
وَالسَّبَب فِي جَمِيع ذَلِك أَن الْقَوْم كَانُوا يَجبُرون بنغمات يستعملونها مَوَاضِع من الشّعْر يستوي بهَا الْوَزْن. ولأننا نَحن لَا نَعْرِف تِلْكَ النغمات إِذا أنشدنا الشّعْر على السَّلامَة، لم يحسن فِي طباعنا. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنّا [إذا] عرفنَا فِي بعض الشّعْر تِلْكَ النغمة حسن عندنَا وطاب فِي ذوقنا كَقَوْل الشَّاعِر: إِن بِالشعبِ الَّذِي دون سلع * لقتيلاً دَمه مَا يُطلّ. فَإِن هَذَا الْوَزْن إِذا أُنْشد مفكك الْأَجْزَاء بالنغمة الَّتِي […] فَمَتَى ذهب عَنهُ ذَلِك لم يستقم فِي ذوقه وَلم يساعد عَلَيْهِ طبعه.
فَأَمّا من نقص ذوقُه فِي الْعرُوض فَإِنَّمَا ذَلِك للغلط الَّذِي يَقع لَهُ فِي بعض الزحافات الَّتِي يجيزها الْعرُوض، وَله مَذْهَب عِنْد الْعَرَب. فَيَقَع لصَاحب الذَّوْق الَّذِي لَا يعرف تِلْكَ النغمة الَّتِي تقوم بذلك الزحاف - أَنه جَائِز فِي كل مَوضِع فيغلط من هَهُنَا ويتهم أَيْضا طبعه حَتَّى يظنّ أَن المنكسر من الشّعْر أَيْضا هُوَ فِي معنى المزاحف وَأَنه كَمَا لم يمْتَنع المزحوف من الْجَوَاز كَذَلِك لَا وَهَذَا غلط قد عرف وَجهه وَمذهب صَاحبه فِيهِ.
وَأما وَاضع الْعرُوض فقد كَانَ ذَا علم بِالْوَزْنِ وَصَاحب ذوق وطبع فاستخرج صناعَة من الطباع الجيدة تستمر … وحياة نفسية وَهِي الْحَيَاة الإنسانية الَّتِي تكون بتحصيل الْعُلُوم والمعارف. وَهَذِه هِيَ الْحَيَاة الَّتِي تجتهد الأفاضل من النَّاس فِي تَحْصِيلهَا.
فَالْوَاجِب أَن يظنّ بالجاهل الَّذِي يحيا حَيَاة بدنية أَنه لَيْسَ بحيّ بتّة، أَعنِي أَنه لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا… فَأَمّا الْعَالم فَالْوَاجِب أَن يُقَال فِيهِ: إِنَّه هُوَ الْحَيّ بِالْحَقِيقَةِ كَمَا أَن غَيره هُوَ الْمَيِّت.
نقلاً عن: أبو حيان التوحيدي، الهوامل والشوامل
***
0 تعليقات:
إرسال تعليق