العلوي في المجتمع -
إعلان وثيقة إصلاح هويّاتي:
منذ القدم، وعلى خلفية الاضطهاد الديني للأقليّات، للذاكرة الجمعية دور هامّ في بلورة هويّة هذه الأقليات. لا يمكن التغاضي عن فتاوى التكفير سيئة الصيت، وفي مقدّمها فتوى ابن تيمية:
سلمان مصالحة ||
قراءة أولية في الوثيقة العلوية
بعد أعوام من سفك الدماء السورية، أصدرت مجموعة من الشخصيات التمثيلية العلوية، دينية ودنيوية، وثيقة تشرح فيها رؤيتها لذاتها، لمحيطها، وتضع تصوّرًا لما يمكن أن تكون عليه الدولة السورية.
لا تتطرّق الوثيقة إلى بشّار الأسد ولا إلى النظام، لا من قريب أو بعيد. كما لا تشير إلى ما هو حاصل على الأرض السورية منذ خمسة أعوام. ومع أنّ المبادرين يذكرون أنّ الإعلان ”لا ينزع لابتدار إصلاح ديني سواء في معتقدات أو في طرائق“، إلاّ أنّ قراءة متمعّنة في الوثيقة تكشف لنا أبعادًا دينية وسياسية. ولهذا حريّ بنا أن ننظر فيها بعيون فاحصة.
يعلن المبادرون عن أنّهم مفوّضون من ضمائر الطائفة العلوية «لتدبير مصيرها»، بمشاركة «نخبة من الوازنين» فيها لتأسيس هيئة تشكّل «سلطة الضمير الجماعي للعلويين.». لقد عُنونت الوثيقة بـ ”إعلان وثيقة إصلاح هويّاتي“ ليشي بما يتضمّنه العنوان من محاولة لوضع النقاط على الحروف بخصوص مغالطات كانت قد ارتبطت بهويّة الطائفة العلوية.
من أبرز المغالطات التي يحاولون تصحيحها نسبة الطائفة العلوية إلى الشيعة بهدف تذويبها في هذا التيّار الإسلامي. لا ينفي المبادرون تسلسل ظهورهم التاريخي «في أواخر القرن العاشر للميلاد، من قلب سكان جزء دوله سنّيّة، صار فيما بعد هذا الجزء شيعيًّا، واستقرّ أخيرًا أهله في العلويّة». غير أنّهم يؤكّدون، وبصورة تتّسم بالصراحة والشجاعة، القطيعة الصريحة والتامّة مع التيارات الإسلامية الأخرى: «لسنا من الإسلام النقلي، قطب التطيُّف السنّي، ولا من العقلي، قطب التطيُّف الشيعي... إنّنا من الإسلام العرفاني، قطبًا ثالثًا له». ليس هذا فحسب، بل يؤكّدون إلغاء كلّ الفتاوى التي حاولت إلحاقهم بالشيعة بأيّ شكل من الأشكال.
لا ينفي أصحاب الوثيقة وجود عناصر غير إسلامية في هويّتهم الدينية، ولا يرون غضاضة في ذلك، بل يرون فيها شهادة على الانفتاح وعلى الغنى الروحي: «يعلن أصحاب العلوية أنّ استقاءها من باقي التوحيديات هو مصدر اكتمال لها... إنّ العلوية تغتني بالتوحيديات ما سوى الإسلام.»
علاوة على هذه القطيعة، ينحو المبادرون إلى العبور إلى مرحلة جديدة تقطع حبل الاتّصال برؤى سائدة لدى الكثير من الفرق الإسلامية باعتبار ذاتها الفرقة الناجية دون سواها: «ليس من العلوية في حقبتها الجديدة أن يؤمن أبناؤها بأنّهم وحدهم من قد يظفر بالنجاة... يقطع العلويون بأنّهم عافون عن فكرة الطوائف الناجية والشعوب المختارة ومؤمنون بفكرة وجود الأخيار والفُضلاء من كلّ الملل والنحل.»
منذ القدم، وعلى خلفية الاضطهاد الديني للأقليّات، للذاكرة الجمعية دور هامّ في بلورة هويّة هذه الأقليات. لا يمكن التغاضي عن فتاوى التكفير سيئة الصيت، وفي مقدّمها فتوى ابن تيمية: «هؤلاء القوم المسمّون بالنصيرية، هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية، أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين...». إنّ فتاوى كهذه لا يمكن إلاّ أن تؤدّي إلى التفاف عصبوي، كما لا يمكن إلاّ أن تعزّز نزعات طائفية مقابلة. رغم ذلك، فها هم أصحاب هذه الوثيقة يجنحون إلى التصالح مع الذات معلنين أنّ الاضطهاد الديني في الماضي لم يعد جزءًا من هويّتهم، بل هو عنصر من ذاكرتهم. كما يسقطون نسبة هذه الفتوى إلى السنّة بعامّة، مصرّحين بأنّها «تمثّل من أفتى بها وحسب، وليس أهل السنّة.»
على خلفية الشرخ السوري الكبير، يطالب أصحاب الوثيقة بإجراء مراجعة للحال السورية من جذورها، حيث يذكّر هؤلاء بأنّ الكيان السوري، بحدوده وجنسيته وعلمه، منذ رحيل العثمانيين والفرنسيين لم يكن في يوم من الأيام من صنع أهله. لهذا، يجب العودة ومراجعة الأسس التي انبنى عليها بغية الوصول إلى صياغة جديدة تتشارك فيها كلّ أطياف المجتمع.
يحاول أصحاب الوثيقة وضع بعض المبادئ لتصوّر الحياة المشتركة في سورية المستقبل، فهم يدعون إلى العيش سوية على أرضية «قيم الإخوة الإنسانية والمساواة بالمواطنة والحرية». ولذلك فهم يدعون إلى نظام علماني يفصل الدين عن الدولة. أمّا الدين فهو مجرّد مصدر معنوي وقيمة ثقافية، ولا يمكن أن يشكّل مصدرًا مباشرًا للدستور الذي يتأسس عليه الكيان. كما يجب أن تتساوى دستوريا مكانة جميع الديانات، الإسلامية، المسيحية وغيرها في هذه القيم المعنوية.
إنّ هذه الوثيقة ذات أبعاد اجتماعية، دينية وسياسية، كما إنّها قد تُشكّل مدخلاً جدّيًّا لإجراء مراجعة وحساب للنفس تقوم به كافّة أطياف المجتمع السوري، وذلك بغية وقف النزيف في هذا البلد. ولكن، ولأجل بلوغ هذه الغاية ثمّة حاجة إلى استصدار وثائق من قِبَل أطراف أخرى، وخاصة من الطرف السنّي، تستجيب لدعوى المواطنة والقيم والإنسانية وتعلن فيها، أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، إلغاء فتاوى التكفير بحقّ سائر مكوّنات المجتمع الأخرى. إنّ اتّخاذ خطوة كهذه ستشكّل دلالة على صدق النوايا في إجراء حساب نفس تاريخي.
أمّا إن لم تُتّخذ خطوات كهذه، فذلك يعني أنّ الاصطفافات الطائفية والإثنية ذاهبة إلى التجذير، وستتشكّل على الأرض حدود فاصلة بين كيانات جديدة، سياسية واجتماعية، طائفية وإثنية.
خلاصة القول، إمّا علمانية دستورية تامّة تفصل الدين والطائفة عن الدولة، وإمّا التفكّك كلّيًّا ومواصلة النزيف الطائفي وصولاً إلى التقسيم الفعلي للكيان السوري.
*
الحياة، 11 أپريل 2016
لقراءة الوثيقة، انقر هنا
0 تعليقات:
إرسال تعليق