أرشيف: أيّام زمان -
ها هو مثال على أجواء التناحر والاقتتال بين التيارات الفلسطينية في يافا عام 1938 كما يعرضها صحفي عبري على قرّاء صحيفته.
شارع النزهة - يافا 1940 |
سلمان مصالحة ||
حروب الفلسطينيين الداخلية
بسبب قلّة الوثائق والمصادر العربية المتاحة للقارئ والتي تتطرّق للأحداث التي ضربت الشرق الأوسط في النصف الأوّل من القرن العشرين، نرى أنّه من الأهمية بمكان للقارى العربي عامّة، والفلسطيني على وجه الخصوص، الذهاب إلى المصادر العبرية وخاصّة الصحافة العبرية الصادرة في ذلك الأوان. في الكثير من الأحيان يقف القارئ في هذه الصحافة على الأجواء السائدة ليس فقط في الشارع اليهودي، بل يقف أيضًا على أجواء الشارع العربي، كما ويعثر على كثير من المعلومات التي لا يجدها في مصادر عربية.
بغضّ النظر عن مدى صدقيّة المعلومات المنشورة في الصحافة، والتي قد تكون بحاجة إلى تعزيز صدقيّتها من مصادر أخرى، إلّا أنّها تظلّ ذات فائدة قصوى للقارئ العربي لكونها ليست منحازة لأيّ من التيّارات العربية فهي موجّهة أصلًا للقارئ العبري ومنحازة إليه في فترة من التوتّر بين جمهورين متصارعين على الأرض عشية انهيار الإمبراطورية العثمانية ودخول الانتداب البريطاني وحتّى قيام إسرائيل.
ها هو مثال على أجواء التناحر والاقتتال بين التيارات الفلسطينية في يافا عام 1938 كما يعرضها صحفي عبري على قرّاء صحيفته.
نعتقد أنّ القارئ العربي في أمسّ الحاجة للوقوف على مثل هذه التقارير الصادمة.
***
ن. تاجر || بين جيراننا
تزوّدت بكوفية وعقال ونزلت إلى يافا. هذه المرّة لم أخَفْ كثيرًا، إذ قيل لي إنّ الخطر في يافا تضاءل، ولن يحدث لي أيّ سوء، وهكذا كان.
تجوّلت ساعة من الزمن في شوارع المدينة ولم يشكّ أحد بي. تفاجأت من مظاهر الخواء والملل. يافا في هذه الأيام ليست كما كانت عليه قبل سنتين. آنئذ كانت تعجّ بالبشر، أمّا اليوم فلا حركة فيها ولا زحام. حتّى في لحظة الخروج من المسجد، فقط الشيوخ والأطفال الصغار يخرجون منه. وحتّى أولئك أعدادهم قليلة.حوانيت كثيرة أُغلقت، وحوانيت أخرى مفتوحة، غير أنّها فارغة من السّلع، وحتّى من الأثاث. يوجد فيها فقط صُرَر، أوراق، صناديق محطّمة وقمامة. نادرًا ما تجد بائعًا متجوّلًا يبيع لسانًا، مُخًّا وعظام رأس. واحد يشتري، يأكل ويُسكّت جوعه، بينما عشرة ينظرون إليه بنظرات حاسدة. أطفال صغار يجوبون الشوارع ويجمعون أعقاب سجائر. وحتّى هذه ليست كثيرة، إذ إنّ صنف هؤلاء المُدخّنين قد طار من المدينة... النساء اللواتي يرتدين الملابس الفاخرة اختفين من الأفق. في الشوارع تشاهد قرويّات حافيات الأقدام وعلى رؤوسهن سلال ملأى، غاضبات ومُقطّبات الجبين لعدم وجود مشترين لمنتجاتهن.
أيضًا القرويّون الذين كانوا يرتدون قمبازًا مصنوعًا من الحرير لم يعودوا يُشاهدون. من ساحة ”أپاك“ (APC) وحتّى شارع النزهة لم أشاهد شخصًا واحدًا يبتسم. يا له من مشهد غريب! فالعربي بطبيعته يسير ببطء شابكًا يديه وراء ظهره. لقد تغيّر هذا المشهد من أقصاه إلى أقصاه. الجميع يُهرولون مسرعين بصورة أكثر شبهًا بالذُّعر.
يافا في هذه الأيام تُعطيك الانطباع بأنّها مدينة مهجورة عانت قبل أيّام معدودة من قصف جوّي. أحيانًا تصادف شابًّا مرتديًا لباسًا نصف-أوروبي ونصف-بدوي. لا تستطيع التكهّن بشأن ماهيّته - هل هو شرطي سرّي أو رجل عصابات. بسبب التشكّك بأمره - الجميع يسأله كيف الحال.
على مقربة من السجن افتُتح في هذه الأيام العصيبة مقهى جديد، وعلى بابه لافتة بارزة: ”فنجانان من القهوة بنصف قرش“! تشجّعتُ وولجت إلى المقهى الذي كان مليئًا في الداخل. لم أكد أجلس حتّى سمعت اسم فخري النشاشيبي يُطلَق في الفضاء. الصوت صوت شخص معروف بعض الشيء. لم ينتبه إليّ وتحدّث إلى أصدقائه. لقد صرخ:
- والله، أقول لكم. إذا استمرّ الوضع في يافا على ما هو عليه أسبوعًا آخر، فإنّكم ستشاهدون هنا أيضًا مظاهرات داعمة للخائن الذي باع ذمّته وضميره لليهود والإنكليز. من يكون فخري هذا؟ إنّه عميل للإنكليز. من هم حرّاسه؟ ألا تعرفون؟ والله، حرّاس يهود. عربيّ حرّاسه صهيونيون. إنّها فضيحة. هل كان الصهيونيّون سيجازفون بحياتهم لحراسته لولا كانوا يعلمون أنّه ”زلمتهم“؟
- كفى هذه السخافات والترّهات! أجابه عجوز جالس بجانبه، أوّل أمس ذكرتَ هذه الأمور، أمس كرّرتها، واليوم تعيد الكرّة! وأنت عميل لمن؟ لعارف عبد الرازق؟ كم يدفعون لك في اليوم؟...
- أنتم رجال هذا الوضيع الذي باع ذمّته ووطنه للأجانب. نهايته قريبة ومصيره بائس. سترون ذلك.
- إنّكم ستغتالونه، أليس كذلك؟ لكن، أنتم أيضًا ستسقطون كالكلاب في الشوارع. المفتي جالس له هناك في قصر فاخر ويضحك عليكم وعلينا. إنّه يحصل من إيطاليا وألمانيا على عشرات آلاف الليرات، ويعطيكم، أنتم عبيده الوضيعون والجبناء، فقط 20 أو 30 ليرة. لقد وجد له هذا المحتال أناسًا أغبياء مثلك ويستغني على حسابكم! فخري هو ”فخر“، يعمل ليس لأجل الحصول على جوائز، الحاجّ بتاعك، ليس فخرًا. إنّه شيخ يعيش على حساب الأمّة والأوقاف. ألا تخجلون؟
- اخجلوا أنتم! أيّها الجبناء الذين تستسلمون للإنكليز واليهود. في الغد ستخرج بناتكم للشوارع بلا حجاب وبلا نقاب...
- سكّر فمك يا وقح! إنّكم تُربّون جيلًا من الطفيليّات ومن مصّاصي دماء الأمّة. في سورية والعراق، في السعودية واليمن، في مصر ولبنان هنالك زعماء ذوو نفوس نقيّة يحذرون المساس بأموال الأمّة. لقد حصلت ثورات في سورية، في لبنان وفي مصر غير أنّ الزعماء ذوي الضمائر النقيّة، قد ساروا في شوارع المدينة على رأس المسيرات. الحاجّ أمين هرب بجبن وتركنا وترك ممتلكاتنا عرضة للّصوص عديمي الضمير. شيخ يأمر عصابته المجرمة أن تقتل أشقّاءه! أيّ عرف يقبل ذلك؟
- الحرب هي الحرب!
- في الهند أيضًا حدثت ثورات. هل سمعت أنّ كانتي (غاندي) أمر أتباعه بقتل الهنود؟
- على كلّ حال، فخري بتاعك، لا يصل بوطنيّته لأقدام الحاج أمين بتاعنا.
- بالاحتيال على الناس... بالتأكيد بالتأكيد. فخري هو إنسان مستقيم.
- لكن، موتوا بغيظكم، وفخري بتاعكم لن يذهب إلى مؤتمر لندن، فقط المفتي سيذهب للمشاركة. من يقف وراء المفتي، ومن يقف وراء فخري؟ وراء المفتي تقف الحكومات العربية ويقف الملوك العرب،. بينما وراء فخري بتاعكم يقف بعض الخونة والصهيونيون.
- يكفينا فخرًا أنّ معسكر فخري لا يوجد فيه لصوص ومُبتزّو أموال ومجوهرات مثل معسكركم.
- يكفي أنّ الإنكليز، رغم كلّ ذلك، يعملون حسابًا لمعسكرنا وليس لمعسكركم. نحن سننتصر!
- كان الله في عوننا. أؤكّد لك بأنّ هذا لن يحدث. سنحاربكم، سنخرّب القدس ويافا، جنين وطولكرم، نابلس وحيفا، وأنتم ستعتاشون منّا. عمّا قريب ستشاهدون ماذا سنفعل بعصابات القتلة منكم.
رفع العجوز كرسيًّا وألقاه على رأس الرجل فنشبَ شجارٌ جدّي بين الطرفين.
أسرعتُ بالخروج وابتعدت من ذلك المكان الخطير، غير أنّ الصراخ الشديد قد رنّ في أذنيّ وقتًا طويلاً.
في اليوم التالي قيل لي إنّه في المعركة التي نشبت هناك سقط سبعة أشخاص من الطرفين. والمهزومون كانوا من أتباع المفتي.
*
مصدر: ”هتسوفيه“ - 22 ديسمبر 1938
0 تعليقات:
إرسال تعليق