سلمان مصالحة ||
قصيدة ذاتية
إلَى بَلَدٍ فِي الحُلْمِ، هَا أَنْتَ
ذاهِبُ. عَلَى مَهَلٍ تَمْضِي،
وَذِهْنُكَ رائِبُ.
كَماضٍ إلَى حَقْلٍ
تَلَأْلَأَ قَمْحُهُ، بِهاجِرَةٍ،
آنَ الحَصادِ. يُخاطِبُ
مَكانًا تَوَلَّى، حَيْثُ طالَ
بِهِ النَّوَى وَراءَ حِجابٍ.
وَالزَّمانُ خَرائِبُ.
يَعُودُ إلَى صَيْفٍ، تَذَكَّرَ
أَنَّهُ قَضَى فِيهِ عُمْرًا
لا يَنِي يَتَغايَبُ.
يَدُورُ عَلَى لَوْحٍ، تَرَصَّعَ
بِالحَصَى. يُرَدِّدُ لَحْنًا
شائِعًا، وَيُداعِبُ
خَيالًا نَما فِي بَيْدَرٍ،
حَيْثُ أَعْزَبُوا. فَلَيْسَ لَهُ
غَيْرَ الخَيالِ مُخاطِبُ.
يَكِدُّ عَلَى كَوْمِ السَّنابِلِ
ناثِرًا، فُتاتَ غِمارٍ
فِي ضُحًى يَتَثاءَبُ.
وَيَمْسَحُ قَطْرًا، نابِعًا
مِنْ جَبِينِهِ، إذا ارْتَفَعَتْ
شَمْسٌ وَبُلِّلَ حاجِبُ.
يُحاوِلُ ظُهْرًا أَنْ يَعُبَّ
مَزادَةً. وَيُسْنِدَ عَصْرًا
ظَهْرَهُ وَهْوَ تاعِبُ.
فَيَأْوِي هُنَيْهًا، فِي الظِّلالِ
إذا اسْتَوَتْ، إلَى فَرْعِ سِدْرٍ
وارِفٍ يَتَقارَبُ.
إلَى زَمَنٍ فانٍ يَرُوحُ
وَيَغْتَدِي، كَمَنْ شَدَّهُ
الحُلْمُ الَّذِي يَتَناوَبُ.
يُغَنِّي عَلَى لَيْلَى، وَلَيْلَى
بَعِيدَةٌ. فَيَحْتارُ إذْ
أَشْواقُهُ تَتَواكَبُ.
يَعُودُ إلَى ماضٍ بَعِيدٍ
وَحَيْرَةٍ، إذا نَزَلَتْ يَوْمًا
عَلَيْهِ نَوائِبُ.
يَبُوحُ بِسِرٍّ عَنْ حَنِينٍ
بِغُرْبَةٍ. وَعَنْ وَطَنٍ قَدْ
فَرَّقَتْهُ العَصائِبُ.
وَبَيْنَ احْتِسابِ الخَطْوِ،
بَيْنَ انْتِفاضِهِ مِنَ الحُلْمِ
ذُعْرًا، إذْ رَماهُ الأَجانِبُ
بِقارِعَةٍ، بَيْنَ الأَعاجِمِ
وَالحِمَى، وَحِيدًا بِقَفْرٍ
لَيْسَ يَحْمِيهِ جانِبُ.
يَعُودُ إلَى الأَسْمارِ، لَيْلًا
بِضَيْعَةٍ، عَلَى السَّطْحِ، حَيْثُ
ارْتاحَ، وَالنَّجْمُ ثاقِبُ.
هُناكَ ارْتَمَى، يُفْشِي إلَى
اللَّيْلِ سِرَّهُ عَنِ البَلَدِ
القاصِي، بِفِيهِ غَرائِبُ.
يَقُولُونَ: حَدِّثْ يا صَبِيُّ
عَنِ الَّذِي جَرَى، حِينَ قالَ
البَدْرُ إنَّكَ آيِبُ.
وَأَفْصِحْ كَلامًا عَنْ زَمانٍ
وَصُحْبَةٍ، فَلَسْتَ سِوَى
ماضٍ، وَحُلْمُكَ صائِبُ.
حَمَلْتَ إلَيْنا رِحْلَةً،
هِيَ آيَةٌ. إذا بُسِطَتْ يَوْمًا،
تَذَكَّرَ صاحِبُ
أَتَى مِنْ بَعِيدٍ، حَيْثُ كُنْتَ
بِغُرْبَةٍ، وَراءَ بِحارٍ
قَبْلَ أَنْ صاحَ نادِبُ.
فَعُدْتَ كَطَيْرٍ فِي المَساءِ
لِعُشِّهِ. لَهُ نَسَبٌ
فِي العالَمِينَ وَحاسِبُ.
وَعُدْتَ إلَى ما كُنْتَ
فِي بَلَدٍ، ثَوَى عَلَى جَبَلٍ،
لَمْ تَفْتَتِحْهُ كَتائِبُ.
وَرُحْتَ تَرُدُّ الدَّيْنَ، بَعْدَ
تَذَكُّرٍ، لِمَنْ جاءَ يَشْكُو
نَزْوَةً، وَيُعاتِبُ.
إلَى بَلَدٍ فِي النَّفْسِ،
تَرْحَلُ طالِبًا بَقايا بُرُوقٍ
تَخْتَفِي، تَتَخالَبُ.
رَحَلْتَ دُهُورًا، باحِثًا عَنْ
إجابَةٍ، وَأَفْنَيْتَ عُمْرًا
سائِلًا لا تُجاوَبُ.
وَها أَنْتَ لا تَقْوَى عَلَى
الهَجْرِ، بَعْدَما مَكَثْتَ بِأَرْضٍ
فِي ثَراها عَجائِبُ.
بِها حَجَرٌ يَقْتَصُّ مِنْ كُلِّ
لامِسٍ. بِها أُمَمٌ شَتَّى،
صَدُوقٌ وَكاذِبُ.
وَها أَنْتَ عُدْتَ الآنَ،
كُنْتَ مُهَجَّرًا، يُحاوِلُ أَنْ
يَمْحُو الغِيابَ، يُراقِبُ
نُجُومًا هَوَتْ خَلْفَ التِّلالِ
كَئِيبَةً. وَفِي النَّفْسِ أَتْرابٌ
حَوَتْها التَّرائِبُ.
فَقَدْ كُنْتَ حَيْثُ البَدْرُ،
تَحْفَظُ سِرَّهُ. وَقَدْ كُنْتَ،
حَيْثُ الأُفْقُ جاءَ يُناسِبُ.
إلامَ تَغُذُّ الخَطْوَ خَلْفَ
بِدايَةٍ، وَتُثْقِلُ أَحْمالًا،
عَلامَ تُحارِبُ؟
هُنا العَيْشُ لا يَحْلُو لِمَنْ
هُوَ أَهْلُهُ. هُنا المَوْتُ دَيَّارٌ
وَإنْ هُوَ غائِبُ.
*
رأئعٌ ومؤثّرٌ ذلك الحنين الذي يعتصر روحًا عانت الغربة، وما العمرُ إلا لحظة سعادة نستذكرُها.
ردحذف