وذكّر إن نفعت الذكرى
أرشيف - أغسطس 1993سلمان مصالحة ||
القدس هي القبلة
ترددت في الصحف قضية الفتوى التي أصدرها الشيخ الألباني والتي تقضي بوجوب ترك المسلمين لفلسطين أسوة بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، من دار الكفر والحرب إلى دار الإسلام. لقد أثارت هذه الفتوى حفيظة الكثير من رجال الدين وأساتذة الجامعات الذين اتهموا الشيخ الألباني بالعمالة، أو حتّى إنهم أغدقوا عليه الألقاب مثل ”شيخ الشياطين“ و“شيطان المشايخ“.صحيح أنّ هذه الفتوى هي غاية في الخطورة، بحيث أنها تؤدي الوظيفة التي تطمح إليها الصهيونية دون أن تحرك هذه ساكنًا، فيأتي عملها بأيدي الآخرين الذين يُستهدف تفريغهم من البلاد، أي نحن. ولكن، وفي نفس الوقت فإن إطلاق تعابير التخوين والشيطانية أنّما تدل على قصور هؤلاء عن فهم القضية وما فيها من ملابسات طالما نظر فيها العلماء والفقهاء عبر التاريخ الإسلامي، وهي أمور مثار للجدل.
ما السبب في فتاوى كهذه؟
بعد أن فشلت الأنظمة العربية في توفير الرفاهية والحرية للجماهير العربية، وبعد أن تحولت هذه إلى أنظمة قبلية، بل في الحقيقة دائمًا كانت كذلك، تركت هذه خيارًا واحدًا أمام الجماهير المغلوبة على أمرها. ذلك هو خيار العودة الإسلامية، أي البحث عن المستقبل في الماضي. وما دامت هذه الأنظمة قد غذّت الجماهير بأساطير الأوّلين، فلا غرو إن بحث هؤلاء عن الخلاص من هذه الأنظمة بالعودة إلى تلك الأساطير. وما دام الوضع السياسي في العالم العربي على هذه الحال، وما دام لا يوجد فصل بين الدين والدولة فسيبقى هؤلاء الزعماء والساسة يتسمون بمشاعر النقص أمام رجال الدين. ولن يكون في وسع هؤلاء، رغم القمع والتنكيل اللذين تتسم بهما السلطات العربية قضّها بقضيضها، محيطها بخليجها، أن تغيّر من هذه العودة.
إنّ خير دواء هو رفاهية وحرية هذه الجماهير.
لم تفلح الحركات القومية العربية، ولا اليسار العربي أو الليبراليون، إن كان هناك شيء من هذا القبيل، في توفير هذين العمادين للمجتمع العصري. بدل ذلك، كان ديدنها إفشاء الفقر، والقمع وكبت الحريات الفردية لكل من لم لم يرق لها. بل أكثر من ذلك، فقد عمّقت هذه النهج القبلي في العالم العربي. ولمّا كان الإسلام عند نشوئه ثورة على القبلية الجاهلية العربية وجدت التيارات الإسلامية أنّ وضع العالم العربي في حال من القبلية العصرية، فرفعت شعار الجاهلية مرّة أخرى، واستحوذت على عقل الكثيرين بسبب اليأس الذي أفشته هذه الأنظمة في نفوس الجماهير.
إنّ البحث عن بدائل للوضع العربي الراهن يفضي في النهاية إلى طريق الأساطير السياسية العربية، ولا أقصد بمصطلح أساطير أنّها ليست حقيقة، فهذه الأساطير التي تستحوذ على العقل العربي، شاء البعض أم أبى، هي من صنع الخلافة الإسلامية على مرّ العصور. ولكنّه في نفس الوقت، إسلام آخر غير هذا الذي تتلبّس به التيارات الإسلامية الحديثة.
العودة إلى تلك الأزمنة، هي عودة أيضًا إلى الجدل والاجتهاد في القضايا التي شغلت بال المجتمع الإسلامي آنذاك. ومن بين تلك القضايا مسألة دار الإسلام ودار الحرب ومكانة المسلم في كل منهما. إنّ فتاوى الألباني تندرج في النهاية ضمن هذه الردّة، شاء أساتذة الجامعات أم أبوا. ولكن، ولمّا كنّا نحن المقصودين في هذه الفتوى، فنودّ أن نطمئن.
نحن هنا باقون
لا نقبل لهذه الرقعة من الأرض بديلا، مهما تبدّلت الأحوال. خطابنا هو خطاب آخر، هو خطاب المستقبل في المستقبل، وليس خطاب الماضي. فكلّ ما فات مضى وانقضى ولا مردّ له ونحن ننظر إلى الغد بعيون الغد محمّلين بتراثنا العربي والإسلامي على حد سواء.
آن الأوان لتأكيد القدس، قبلة !
بقيت القدس مكانًا متروكًا طوال التاريخ الإسلامي، ولم تتحوّل إلى مركز سياسي أو حضاري على غرار بغداد، أو دمشق أو القاهرة. وعلى الرغم من أنّ مبايعة الخليفة معاوية كانت في القدس، إلاّ أنه اتخذ من الشام عاصمة له. وعلى الرغم من بناء المسجد الأقصى لاحقًا، لم يغيّر ذلك من بقاء القدس بعيدة عن مراكز الثقل السياسية، الاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي.
لقد ظلّ هذا الوضع طوال القرون المنصرمة وحتى العصر الحديث، فلم تحظ القدس باهتمام حتى على العهد الأردني. لقد تغيّرت القدس الآن أيما تغيير، كما لا نجد أي اهتمام لدى الأمة العربية بالمصير الذي آلت إليه. مرّة واحدة فقط حظيت القدس بمركز يليق بها. كان ذلك حينما وقعت مكة تحت سيطرة عبد الله بن الزبير الذي تمرّد على الحكم الأموي في الشام. في تلك الأثناء، ولمّا كان من غير الممكن الوصول إلى مكة، بدأت تظهر ميول بتحويل القبلة من مكة إلى القدس لأسباب سياسية، حتى تمّت له السيطرة مجددا على مكّة.
أمّا وقد تبدّل الزمان، فقد آن الأوان إلى تحويل القبلة من مكة إلى القدس، بغية التأكيد على الأهمية المعزوة للمدينة في نظر العرب والمسلمين. ليكن الحجّ إلى القدس. أقول ذلك، مع أنّني لست متديّنًا، بل أستطيع القول إنّي على عكس ذلك، فلست أؤمن بأنّ في وسع الدين إعطاء إجابات حقيقية لحقيقة هذا العصر. لقد لعب دورًا في الماضي، ولا أظنّ أنه يعطي الحلول للمستقبل، رغم العودة للدين في الشرق والغرب، ولدى المؤمنين بدياينات كثيرة.
ولمّا كنا نعيش في عصر سياسي، فحري بالفقهاء أن يقوموا بدور بنّاء، إن كان بإمكانهم أصلا أن يفعلوا ذلك، وما عليهم الآن إلا أن يُصدروا فتوى بتغيير القبلة من مكة إلى القدس، وذلك لأجل مسمّى، حتى تتغيّر الأحوال وبعد ذلك يمكن العودة إلى الاتجاه بالصلاة نحو الديار الحجازية.
إن لم يفعل العرب ذلك فإنّ مصير القدس العربية سيؤول إلى المصير الذي آلت إليه يافا وعكا، وفي السنوات المقبلة ستنجلي هذه الحقيقة للجميع.
ألا هل بلّغت.
القدس
*
نشرت المقالة في أسبوعية ”كل العرب“، 20 أغسطس 1993