لقد ذهبت كلّ الشعارات العربية التي شنّفت آذان المستمعين أدراج الرياح، وتفرّق العرب أيدي سبأ. لم ينتج عن كلّ مؤتمرات القمّة سوى المؤامرات التي أضحت سمة ملازمة للسياسات العربية...
سلمان مصالحة ||
بين حانا ومانا، أو بين تركيا وإيران، ضاعت لحانا
ماذا قال رجب طيب إردوغان في خطاب فوزه بانتخابات الرئاسة التركية؟
أمام الجماهير التركية المحتشدة عقب إعلان النتائج أطلق إردوغان، وأقتبس هنا من الذاكرة، الشعارات التالية: الناس اليوم سعداء ليس في إسطنبول فقط. الناس اليوم سعداء في كابل، وسعداء في دمشق وحمص وحماة. الناس سعداء في سكوپیة، وفي نابلس وغزّة والقدس. لقد عددّ، على ما أذكر، أسماء مدن أخرى وفي بقاع أخرى. فهل جاءت هذه التصريحات عفوًا؟ بالطبع لا.
في طرف آخر من المعادلة الشرق أوسطية، يلاحظ المتابع لخطاب الملالي في إيران شيوع شعارات شبيهة تنهل من ذات المناهل. ففي الكثير من الأحيان، وفي غمرة تصفيف الحشود في الميادين الإيرانية ضدّ ”الشيطان الأكبر“ وتابعه ”الشيطان الأصغر“، تُسمع على الملأ غير مرّة من أفواه القيادات الإيرانية نبرة التشديد والتأكيد، ليس على الإسلام مثلاً، بل على ”ملّة إيران“، أي على الأمّة الإيرانية بالذّات.
وعلى جانب آخر تقف إسرائيل التي تنوجد، منذ قيامها، في حالة نزاع مزمن مع الجوار العربي أوّلاً، ثمّ الفلسطيني لاحقًا. وها هي الحكومات الإسرائيلية التي كانت في الماضي تقيم علاقات وطيدة مع إيران، ومع تركيا لاحقًا، قد بدأت هي الأخرى تؤكّد في السنوات الأخيرة على مبدأ يهوديّة دولة إسرائيل.
فماذا يعني كلّ هذا الكلام الآنف الذكر؟
لا يسع العربيّ الذي يملك ذرّة من بصيرة إلاّ أن يشاهد هذه الحال التي آلت إليها أوضاع هذه المجموعات البشرية التي يُطلق عليها مصطلح عرب والتي تتوزّع على أقطار أضحت دولاً وممالك وإمارات لا تأتلف بقد ما تختلف. وعلى الرغم من الأعمال والفعاليات الحثيثة الصادة عمّا يُسمّى الجامعة العربية، وعلى الرغم من كلّ مؤتمرات القمّة التي انعقدت منذ جلاء الاستعمار، لم يشهد المواطن العربي في هذه الأصقاع سوى الفشل تلو الفشل وعلى جميع الأصعدة.
لقد ذهبت كلّ الشعارات العربية التي شنّفت آذان المستمعين أدراج الرياح، وتفرّق العرب أيدي سبأ. لم ينتج عن كلّ مؤتمرات القمّة سوى المؤامرات التي أضحت سمة ملازمة للسياسات العربية. وفي خضمّ الصراعات في هذه البقعة من العالم، لم يفلح العرب في بناء دولة عصرية بأيّ حال من الأحوال، والكلام يسري على كلّ دولة على حدة وعلى مجموع هذه الكيانات التي لبست لبوس الدول بالاسم فقط. ففي الواقع لم يكن ثمّة فرق بين دولة تتسمّى جمهورية وبين مملكة أو إمارة. وذلك لأنّ الرئيس الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري لم يترك الكرسي إلاّ إلى القبر بعد أن طالته رصاصات الاغتيال، أو بعد التفاف حبل المشنقة حول عنقه، أو مسحولاً في الشوارع يتمّ التمثيل بجثّته كما شاهدنا في السنوات الأخيرة.
صحيح أنّ الإسلام قد وُلد في جزيرة العرب عربيًّا وبلسان عربيّ وفي البدء كان الشعار أن ”لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى“. غير أنّ خروج الإسلام من شبه الجزيرة العربية لاستعمار بقاع شاسعة من الأرض لبثّ الدعوة الجديدة قد أدخل الإسلام العربيّ في ورطة. فمع مرور الزمن ودخول أقوام أعجمية كثيرة في الإسلام، إن كان ذلك عنوة أو اختيارًا، بدأت الدائرة تدور على السلطة العربية للدولة. وهكذا بدأت تظهر على السطح دعاوى نقيضة وإنشاء رسائل تتمحور حول مسألة ”فضل العرب على العجم“.
وإذا تفكّرنا قليلاً في حقائق العصور الوسيطة لا يسعنا سوى القول إنّ الغالبية العظمى من العلماء وفي كافّة المجالات في تلك العصور الإسلامية الذهبية لم يكونوا ينتمون قوميًّا للعرب، بل جاؤوا من الأقوام الأعجمية التي دخلت في الإسلام، أو من أقوام من أهل الذمّة.
إنّ الوضع الراهن للعرب لا يختلف كثيرًا عن هذا التوصيف. فالعالم العربي الذي يدين بالإسلام لم يفلح في ركوب قطار العصرنة. لقد وجد نفسه ملقيًّا على قارعة الطريق تتقاذفه الرياح الهابّة مرّة من الشرق ومرّة من الشمال والغرب. وهكذا نرى في العقود الأخيرة كيف أنّ هذه الأقوام العربية تتمايل مرّة نحو ملالي إيران ومرّة نحو إردوغان. ولكن، وكما أشرنا آنفًا فإنّ هؤلاء القوميّين الأتراك والأعاجم يستخدمون الإسلام مطيّة لركوبها في الساحات العربية التي ينخرها فشل قياداتها وشعوبها في بناء دول عصرية بعيدة عن النزعات القبلية والطائفية.
يمكننا القول إنّ العالم العربي هو الرجل المريض في هذا القرن، والانتفاضات التي نشبت في بلدان شتّى من هذا العالم لم تفرز طبقة ثورية حقيقية ذات رؤيا معاصرة لبناء الإنسان والمكان. ولذلك، فإنّ العالم العربي سيواصل التخبُّط في أحواله البائسة لعقود طويلة قادمة.
كلّ من يملك ذرّة من بصر أو بصيرة لا يرى بصيصًا من أمل. هذه هي الحقيقة المرّة مع الأسى والأسف.
*
نشر: ”الحياة“، 9 ديسمبر 2014
0 تعليقات:
إرسال تعليق