مختارات
كيف استعار إميل حبيبي حكاية من تولستوي ونسبها إلى ألف ليلة وليلة؟
أنطون شماس ||
الكتابة في الصندوق
في أواخر نيسان 1991، وكنتُ غارقًا يومها من جديد في قراءة كتاب ألف ليلة وليلة، تذكرتُ سؤالاً كنت أودّ أن أطرحه على إميل حبيبي قبل ذلك بعشرة أعوام، يوم كنت غارقًا في ترجمة "المتشائل" إلى العبرية. وأنا لم أطرح عليه السؤال في حينه لأني لم أكن على يقين من صدق ظنوني؛ ولم تكن يومها وقاحة المترجمين، بعدُ، قد راودتني عن نفسي.
والسؤال يتعلَّق بمقطع من »المتشائل«، ورد في الباب الثاني، في بداية الفصل الحادي عشر، ضمن »بحث عجيب في الخيال الشرقي وفوائده الجمّــة«، ألمح المؤلف في ديباجته إلى أنه مأخوذ من »كتاب ألف ليلة وليلة«: »ما قولك بالفلاح المسكين، الذي خاف على عروسه من كلام الناس، فوضعها في صندوق حمله فوق ظهره وقام يحرث أرضه وهي فوق ظهره يومًا يومًا. فلما التقاه الأمير بدر الزمان، فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولاً فوق ظهره، فأخبره، فأراد الأمير أن يرى بعينيه، فأنزله وفتحه، فإذا بعروسه مضطجعة، في الصندوق فوق ظهر زوجها، مع الشاب علاء الدين«.
نبشتُ يومها أجزاء الكتاب السحريّ جميعًا، طولاً وعرضًا، ولكني أخفقت في العثور على مصدر المقطع. ثم شغلتني بعد ذلك صناديق أُخرى عن أمر ذلك الصندوق، إلى أن وجدتني، في أواخر نيسان 1991، ولأمرٍ ما، مشغولاً من جديد بموتيڤ »المرأة في الصندوق«، كما يقول الفولكلوريون، فإذا بذلك الفلاح يأخذ بتلابيبي من جديد.
وموتيڤ »المرأة في الصندوق« يظهر أول ما يظهر في الحكاية الإطارية لــ »كتاب ألف ليلة وليلة«، ثم يعود في الليلة الثانية بعد الستمائة بحسب بولاق، »أكثر الليالي سحرًا«، كما يقول خورخي لويس بورخيس في مقالة قصيرة له عن »دون كيخوته«. في تلك الليلة تُلقي شهرزاد على مسامع شهريار حكاية شبيهة بحكايته التي وردت في مطلع الكتاب، حين خرج بصحبة أخيه، بعد خيانة زوجتيهما، يبحثان عن رجل مصيبته شرّ من مصيبتهما، فيلتقيان بالجنيّ الصاعد من البحر حاملاً صندوقًا في داخله صبيّة. وبعد أن يستغرق الجنيّ بالنوم، تجبرهما الصبيّة على النزول من الشجرة حيث يختبئان، وتهددهما بإيقاظ الجنيّ إذا لم يلبيا رغبتها. فيفعلان.
وفي الخامس والعشرين من نيسان 1991، في لحظة من التهوّر والتغمُّــر والتحرُّر من دالّــة المؤلف، وفي أعقاب محاولة يائسة جديدة للعثور على الأصل في طبعات مختلفة من الكتاب السحريّ، تملّــكتني شجاعة مفاجئة لا أدري مصدرها، فبعثت بفاكس ليليّ إلى إميل حبيبي بما معناه: » أين بحقّ الشيطان، عثرتَ على قصة الفلاح والصندوق والأمير بدر الزمان في »كتاب ألف ليلة وليلة«؟!
وما لبث الفاكس أن حمل إليّ، بعد ساعة من الزمان، ردّ المؤلف، وهذا نصه:
»كان عليّ أن أنتظر أن تكون أنت، دون خلق الله أجمعين، من »سيمسكني« في القضية الأدبية التاريخية المذكورة. فإنني لم أجد قصة الصندوق على ظهر الفلاح إلاّ لدى ليو تولستوي في إحدى قصصه القصيرة. وتحدّث عن فلاح عربي أو شرقي. فارتأيت أن أحيلها على »ألف ليلة وليلة« موقنًا بأن تولستوي قد وجدها في إحدى النسخ (....) وبما أن الأجداد أضافوا على ألف ليلة قصصًا جديدة على مرّ العصور، فقد »قرّرت« أن أُضيف قصة الصندوق المأخوذة عن ليو تولستوي. ولا أعتبر الأمر »سرقة أدبيّة«؛ حاشا وكلاّ. إنما هي »إضافة أدبيّة« ملائمة. وأنا متأسِّف على أنني نسيت المصدر التولستويي الذي أخذت عنه الرواية وأحلتها على ألف ليلة. وما عليك الآن إلاّ الإنتقال من البحث في »ألف ليلة« إلى البحث في مؤلفات ليو تولستوي. وإذا شئت أن تنشر اعترافي هذا فأنت حر التصرُّف به لأني لا أجد فيه أيّة غضاضة. وقد يكون ليو تولستوي هو الذي حفّــزني على هذه »الإضافة« ولكنني غير متأكد. وتأكد أنني رهبت جانبك في الماضي أيضًا، فكيف الآن؟«.
يقول بورخيس في سياق آخر، في حديثه عن كافكا، بأنه خلافًا للإعتقاد السائد فإن الكتّــاب يخلقون من سبقهم ويغيّــرون من تصوّرنا للماضي. فــ »ألف ليلة وليلة« من جهة، والمصادر الكلاسيكية للأدب العربي من جهة أُخرى، لم تعد ما كانت عليه بعد قراءة النص الحبيبي؛ ولعل في ذلك تكمن عظمته الأساسية.
في زاويته الأُسبوعية التي نشرها على مدى أعوام طويلة في »الاتحاد«، ممهورة بتوقيع »جهينة«، وهي زاوية سياسية هجائية، قام حبيبي بابتداع أُسلوب فذّ في اللغة العربية الحديثة، طوّعه فيما بعد للكتابة الأدبية. ذلك الأُسلوب الذي كان ليقضّ مضجعي ومضاجع غيري من المترجمين. والجملة الحبيبية، متعدِّدة الطبقات، تنساب كالبهلوان السائر على حبل مشدود بين إبن المقفع والجاحظ من طرف، مرورًا بالمقامة والرسالة، ثم بلغة الشدياق وغيره من ثوار عصر النهضة، ثم بلغة التوراة بترجمتيها الپروتستانتية والكاثوليكية، وبين لغة الصحافة العربية الحديثة من الطرف الآخر (والتي أسهم هو على أي حال في تربيعها وتدويرها). وفي هذا السياق يمكن إعتبار إميل حبيبي »عميلاً« عبقريًا في علاقته مع التراث: فهو الإبن المخلص البار والثعلب المحتال المتمرِّد في آنٍ معًا.
الرواية، بمفهومها الغربي، لم تكن لتثير اهتمامه؛ لحسن حظّه، ولحسن حظّنا على وجه الخصوص. فهو، إذا استثنينا قراءته الإبداعية للنص الكلاسيكي العربي، وخلافًا للإشاعات التي أسهم هو في ترويجها عن نفسه، لم يقرأ إلا النزر اليسير من الأدب العالمي، وأقل من ذلك من الأدب العربي الحديث. وهكذا أفلح، كما لم يفلح أحد من أبناء جيله، في الحفاظ على الحكواتي الذي بداخله دون أن تنال منه شائبة. وتلك عظمته الأُخرى.
في الأعوام الأخيرة أكثر حبيبي من البكاء والتشكي بأنه، وخلافًا للنهج الذي اختاره في حياته، لم يعد في إمكانه حمل بطيختين بيد واحدة، بطيخة السياسة وبطيخة الأدب. فعقدان من الزمن في البرلمان الإسرائيلي، والتزام كامل بقضايا »الجماهير الفلسطينية في إسرائيل« منذ نكبة ٨٤، وكتابة صحافية كثيرة المطالب - كلها أشياء أبعدته عن طاولة الكتابة الإبداعية. وقد كنتُ أنا أيضًا أعتقد مع المعتقدين، طوال الأعوام التي رافقتُ فيها أعماله، بين قارىء ومترجم، بأن السنين الطويلة التي أهدرها هذا الرجل الحكيم في العمل السياسي قد ذهبت هباءً، ناهيك عن العقدين اللذين أمضاهما في الأرض اليباب التي تدعى »الكنيست«. غير أني لم أعد مقتنعًا بذلك؛ فالكاتب الذي روى علينا خُرَّافية »سرايا« هو، في نهاية الأمر، حصيلة ماضيه المُــثلى، والقارىء الأناني الذي بداخلي يرفض أن يرى كاتبًا آخر، ذا ماضٍ مختلف، يقوم مقامه.
وهأنذا أراه الآن، كما لم يخطر في بالي من قبل، كذلك الفلاح الذي أمضى سحابة حياته في حراث العمل السياسي، حاملاً صندوقًا على ظهره، معللاً نفسه بأن أيامًا ستأتي فيتفرَّغ لسراياه - كتابته حبيسة الصندوق. وتأتي الأيام، لكنها قصيرة. وهأنذا أراه الآن، كما لم يخطر في بالي من قبل، حاملاً الوطن على ظهره، معللاً نفسه بأن أيامًا ستأتي.. فهل ستأتي الأيام ويأتي بدر الزمان بالدولة؟
ستأتي المراثي. لأن إميل حبيبي، أولاً وقبل كل شيء، كان يكتب المراثي. فمنذ قصص الخمسينات وحتى »سرايا« التسعينات كتب مرثية طويلة، مُــسلطنة، شجينة، مُــرعشة، مقشعرة، تأخذ بتلابيب القارىء فتهزّه وتلطمه أحيانًا وتواسيه أحيانًا؛ مرثية لحيفا الضائعة، مسقط رأسه، والتي بقي فيها، كشهادة شاهد قبره؛ مرثيةً للوطن الضائع، بجداوله وشطآنه وأسماكه وصخوره وحجارته وترابه وأشجاره وأعشابه، بمبانيه وبيوته وشوارعه ودروبه ومناظره الظاهرة والمخفيّــة، بمدنه وقراه الخربة والمبنيّة، وخاصة بأسمائه الممحيّة. ولكن كتابته، في نهاية الأمر، منحت الفلسطينيين »بيتًا قوميًا« أفخم وأجمل بكثير من جميع البيوت التي وُعدوا بها منذ عام بلفور.
بيتان من الشعر العربي الكلاسيكي رافقاه طوال حياته الكتابية، كشعار وجداني وأيديولوجي: عسى الكرب الذي أمسيت فيه - يكـون وراءه فرج قريبُ فيأمن خائف ويفك عانٍ - ويأتي أهله النائي الغريبُ
في نيسانه الأخير كتب في إفتتاحية هذه المجلة (مشارف) عن أكلَــة لحوم البشر بحسب إنجيل س. يزهار؛ في نيسانه الأخير شاهد مذبحة قانا ورأى كيف يتحوَّل الدم هذه المرَّة إلى ماء؛ في نيسانه الأخير رأى حصار التجويع الذي فُــرض على المناطق المحتلة وكيف أن أرض الوطن لم تنبت أية بارقة بشأن الدولة الفلسطينية.
أما الكرب الذي لفّه فقد استُــبدل بتراب الكرمل الذي عرفه حبّةً حبّة. أما النائي الغريب الذي أحبّه فقد أتى أهله لأيام معدودة. أما الفرج - فنحن هنا في انتظاره، ولسنا على عجلة من أمرنا على أي حال.
*
نشر: مجلة "مشارف"، عدد 9، يونيو 1996، ص 36-39