الثلاثاء، 30 ديسمبر 2008

‬الطفلة من‮ ‬غزّة


سلمان مصالحة ||


‬الطفلة من‮ ‬غزّة


الطّفلةُ‮ ‬من‮ ‬غزّة
تَبْني‮ ‬أَعْشاشًا‮ ‬
مِنْ‮ ‬ريشِ‮ ‬البَحْر‮. ‬
والواقفُ‮ ‬خَلْفَ‮ ‬السّورِ‮ ‬
يُخَبّئُ‮ ‬في‮ ‬عينيهِ‮ ‬قلادَةْ‬
منْ‮ ‬وَرَقِ‮ ‬التّذكارْ‮.


‬بَعْدَ‮ ‬مُرورِ‮ ‬الشّارِعِ‮ ‬تَحْتَ‮
‬الخُطُواتِ‮ ‬البَرّيَّةْ،‮ ‬
تَفقِسُ‮ ‬في‮ ‬الأَعْشاشِ‮
‬حَكايا،‮ ‬يَتَراكضُ‮ ‬أطفالٌ‮ ‬
داخلَ‮ ‬لَوْنِ‮ ‬العَصْر‮. ‬
يَلْتَقِطُونَ‮ ‬الصَوْتَ‮ ‬الخافِتَ‮ ‬
مِنْ‮ ‬رَمْلِ‮ ‬الصّحْراء‮.


عِنْدَ‮ ‬مَساءْ،‮ ‬يَنْفَرطُ‮ ‬العِقْدُ‮ ‬
من‮َ ‬العَيْنَينِ،‮ ‬يُبلّلُ‮
‬دَرْبَ‮ ‬البَحْر‮.‬
البَسْمَةُ‮
‬يُرْسلُها اللّيْلُ‮ ‬
إلى المَنْفَى‮. ‬
الشّاعِرُ‮ ‬
يَلْفظُ‮ ‬أَنْفاسَهْ‮.‬

---
*من مجموعة "ريش البحر"، منشورات زمان، القدس 1999


للترجمة العبرية، اضغط هنا.
للترجمة الإنكليزية، اضغط هنا.
للترجمة الفرنسية، اضغط هنا.
 
للترجمة الألمانية، اضغط هنا.

______

الجمعة، 26 ديسمبر 2008

أهارون شبتاي | شيزوفرينيا الوطن


أهارون شبتاي


"شيزوفرينيا الوطن"



(قصائد)


ترجمة وتقديم

سلمان مصالحة



ولد أهارون شبتاي في تل-أبيب في العام 1939. درس التراث الإغريقي والفلسفة في الجامعة العبريّة وهو يعمل الآن مُدرّسًا للأدب العبري في جامعة تل-أبيب. ينتمي إلى جيل الشّعراء العبريّين الّذين ترعرعوا مع قيام دولة إسرئيل، ويُعدّ من أبرز مترجمي الدّراما الإغريقيّة إلى اللّغة العبريّة حيث يواصل مشروعه هذا منذ سنوات، وقد ترجم حتّى الآن 24 عملاً دراميًّا إغريقيًّا من الأصل الإغريقي إلى اللّغة العبريّة. له مؤلّفات شعريّة كثيرة حيث نشر منذ العام 1966 ستّ عشرة مجموعة شعريّة بالإضافة إلى مؤلّفات وكتابات أخرى.

الأربعاء، 24 ديسمبر 2008

كل الطيور تؤدي إلى روما


سلمان مصالحة || 

كلّ الطّيور تُؤَدّي إلى روما


كنت لا أزال طفلاً يافعًا في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ولم تكن تنقصني سذاجة من سذاجات تلك الأيّام الغابرة. آنذاك لم يخطر أبدًا على بالي العربيّة الغضّة طرفُ خيط أمسك به، أو فكرة تحملني على معرفة النّوايا الخفيّة لأسراب الطّيور الّتي كانت تحطّ في حقول الزّيتون لقرية المغار الجليليّة المطلّة على بحيرة طبريّة مع اقتراب موسم القطاف. عندما كانت غمامةٌ سوداء من الطّيور تعبر الأفق وتحطّ في الحقول مع نهايات الخريف، كان أهالي البلد يخرجون مهرولين حاملين كلّ ما تطاله أيديهم من أطباق معدنيّة، أو أغطية طناجر أو كلّ ما يمكّنهم من أن يعزفوا عليه لحن ضجيجهم، ليس فرحًا باستقبال الطّيور، بل عزمًا على طردها من الحقول المثمرة الّتي كانت تشكّل مصدر رزق أساسي معيلاً لهم. ولكن، ما أنْ كان الأهالي يصلون إلى الحقول في أطراف القرية حتّى كانت الطّيور، في هذا الوقت الضائع، تكونُ أفلحت بالفوز بما لذّ وطاب من هذا الثّمر الزّيتي. ثمّ ما تلبث أن تطير حاملة معها زادًا للطّريق.

كانت غمامةُ الطّيور تنسلخ عن ذرى أشجار الزّيتون، تتسلّق الهواء أعلى التلّة، تحوم في السّماء قليلاً ثمّ سرعان ما تختفي وراء الأفق. وهكذا، حَوْلاً بعد حول، موسمًا بعد موسم عادت الأسرابُ لعادتها القديمة، تناولت ما يسدّ رمقها وعادَ الأهالي هم أيضًا إلى صنوجهم وضجيجهم. بين فينة وأخرى كانوا يمهرون أصوات الصّنوج بفرقعات من جفت، وهو بندقيّة مزدوجة القصبات يستخدمونها عادة للصّيد، غير أنّها كثيرًا ما استُخدمت لأغراض أخرى غير ما أنيط بها، فكان لها دور وخيم العواقب في حال حصول مناوشات بين القبائل. في مواسم القطاف تلك، كنّا نحن الأطفال أيضًا نحظى بفرصة المحافظة على دورة الغذاء في الطّبيعة، وكثيرًا ما سددنا رمقنا من لحوم تلك الطّيور السّوداء الّتي كانت تقع فرائس سائغة في فوهات البنادق المزدوجة القصبات.

مواسم قطاف كثيرة مضت وانقضت ومعها أسراب كثيرة حطّت في الحقول وانسلخت عنها، حتى ترعرعتُ ووضعتُ نصب عينيّ فكرة الارتحال إلى القدس لمواصلة الدّراسة العليا والتزوُّد بزاد الحكمة من جامعتها العبريّة. ولكن، ومع اقتناء الحكمة طارت تلك السّذاجة إلى بقاع بعيدة ولـَمّا تَعُدْ أبدًا. وها أنذا، بعد سنوات غير قليلة، أجدني مُبحرًا مرّة تلو أخرى في رحلات بحث عن تلك السّذاجة، عن تلك الجنّة المفقودة.

أقول لنفسي مُبحرًا، ولكنْ من الصّعب على ساكن القدس استعمال تعبير مُعارٍ من عالَم البحار. القدس تبعد عن البحر المتوسّط ساعةً سَفَرًا، والإبحار منها لا يمكن أن يتأتّى إلاّ على أجنحة الإستعارة. ورغم ذلك، فالّذي يصرّ على الإبحار، فبوسع أوراق الكتب أن تكون له كما الأشرعة. روائح الأوراق المصفرّة في الكتب القديمة مثلها مثل الرّوائح الّتي تعلو من البحر، وفي كلّ تقليب صفحة منها تنشأ ريح. الكلمات أمواج بحر مترامي الأطراف، وكلّما قلّبت الصفحات أكثر فأكثر كلّما اشتدّت عليك الرّيح فتحملك إلى أصقاع نائية وعوالم ساحرة.

كم كانت كبيرةً دهشةُ مارك طوين الّذي جاء من أطراف العالم القصيّة في منتصف القرن التّاسع عشر وحلّ زائرًا حاجًّا في هذه المدينة. لقد جاء مارك طوين إلى هذه الأصقاع المشرقيّة وإلى هذه المدينة ودوّن كلّ مشاهداته في صفحات كتاب له نشره بعد عودته: "يبدو لي أنّ كلّ الأجناس، الألوان والألسنة الموجودة على وجه البسيطة قد وَجَدتْ تمثيلاً لها بين أربعة عشر ألف نسمة تعيش في القدس. الأسمال البالية، البؤس والفقر ... هي علامات شاهدة على حضور السّلطة الإسلاميّة فيها... الجُذْمُ، المجانينُ، العُميانُ وذوو العاهات الّذين تلتقي بهم في كلّ ركن منها يعرفون كلمةً واحدةً فحسب، بلغة واحدة فحسب، هي الكلمة الأبديّة: بقشيش. القدس مدينة حزينة، تثير الاكتئاب ولا روح فيها. ما كنتُ أرغبُ العيش هُنا"، لخّص مارك طوين حال هذه المدينة في ذلك الأوان.

غير أنّي، خلافًا لمارك طوين، أعيش هنا في مدينة القدس إيّاها منذ ثلاثة عقود. وها هو ليلٌ كئيبٌ حالك آخر يهبط الآن على المدينة. لكن، يبدو لي الآن أنّ هذه الحلكة الّتي تكتنف المدينة في بداية الألفيّة الثّالثة قد هبطت عليها من زمان آخر ومن عالَم آخر. فقد رُوي عن عبد اللّه عبّاس، ابن عمّ الرّسول العربيّ أنّه قال: "حليةُ بيت المقدس أُهبِطَتْ من الجَنّة، فأصابتها الرُّوم فانطلقتْ بها إلى مدينةٍ لهم يُقال لها روميّة، قالَ وكان الرّاكبُ يسيرُ بضوء ذلك الحليّ مسيرةَ خمس ليالٍ".

خمسَ ليالٍ بالتّمام والكمال يسير الرّاكبُ في روميّة، لا يعثر في طريقه، إذ يطرد بريق حليّ بيت المقدس الظّلام في البلاد الرّوميّة. وها أنذا أتساءل في هذا اللّيل المقدسيّ، كيف ذا يُروَى في القرن السّابع عن الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس إلى روما لتنشر فيها أنوارها مسافة خمس ليالٍ؟ فلا أملك الفرار من التّفكير في أنوار مقدسيّة أخرى. أليست هذه هي كلّها أصداء لروايات تناقلَ رجعُها في المشرق عن الجواهر والحليّ الّتي كانت في بيت المقدس في العام ٠٧ للميلاد وكانَ أنْ سلبتها الرّوم؟ وما هو هذا الضّوء الّذي ينفضُ الظّلام عن الرّاكب مسيرةَ خمس ليالٍ؟ أليس هو ضوء ذلك الشّمعدان الذّهب الّذي أُنير بالزّيت في هيكل سليمان، والّذي لا يزال نقشُهُ مخلّدًا على بوّابة طيطوس في روما؟

ألفان من الأعوام مرّا هُنا، وها أنا جالس الآن، على بعد سنوات ضوئيّة من تلك الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس لتضيء مدينة الرّوم. وها هو الخريف يهبط الآن مرّة أخرى، ويهبط معه موسم قطاف جديد، وموسم زيت جديد يطرق الباب. في ليل مقدسيّ أَحلكَ ممّا عهدنا منذ زمنٍ أوّلَ، أحاولُ أن أشقّ طريقي في ثنايا الماضي السّحيق. نعم الماضي، لأنّنا نحن في المشرق دائمًا نبحث عن الآتي في الماضي. نحنُ نفعل ذلك رُبّما لأنّنا نملك مواضيَ كثيرةً، بل رُبّما لأنّنا نملك من المواضي أكثر ممّا يحتاج له المرء على هذه الأرض. نعم، نحن في المشرق نخطو إلى الأمام غير أنّ عيوننا مثبتة في أقفية رؤوسنا. وهكذا نتعثّر، نقع ونقوم ثمّ نتعثّر ونقوم ونمضي دون أن نتوقّف للحظة ونفكّر في تحويل رؤوسنا وعيوننا إلى الأمام.

ها أنا أجلسُ في القدس وأبحر إلى أصقاع بعيدة باحثًا عن ذلك النّور المكنون والمسلوب. ربّما أفلح هذه المرّة، ربّما يحالفني الحظّ فأعيد ولو بصيصًا من ذلك النّور السّماويّ الّذي اختفى من ربوعنا وحطّ منذ ذلك الوقت في الشّاطئ الآخر من البحر المتوسّط.

كثيرون جابوا الآفاق راحلين بين المشرق والمغرب عَبْرَ التّاريخ، في أوقات الحرب وفي أوقات السّلام. ومثلما شدّ الشّرق أنظار أهل الغرب وسحرهم بعد أن وطأت أرجلهم هذه البلاد، اقتبسوا أنواره وحملوها إلى بلادهم (بخلاف مارك طوين طبعًا)، كذا وجد أهل المشارق الّذين حلّوا في الجانب الآخر من المتوسّط سحرًا كثيرًا.

في القرن التّاسع الميلادي يروي الوليد بن مسلم الدّمشقي، مولى بني أميّة، عن أحد التّجار الّذين أبحروا من المشرق بحثًا عمّن يتّجرون معه، فيروي على لسان التّاجر: "ركبنا البحر وألقتنا السّفينةُ إلى ساحل روميّة. فأرسلنا إليهم، إنّا إيّاكم أردنا، فأَرْسَلوا إلينا رسولاً فخرجنا معه نريدها. فَعَلَوْنا جبلاً في الطّريق فإذا بشيءٍ أَخْضَرَ كهيئة اللّجِّ، فَكَبَّرْنا. فقال الرّسول: لِمَ كَبَّرْتُم؟ قلنا: هذا البحرُ، ومن سبيلنا أن نُكبِّر إذا رأيناهُ". وها أنذا أحاولُ اقتفاء أثر هؤلاء التّجّار إلى الوراء، لعلّي أعرفُ كيف ذا من سبيل العرب أن يكبّروا إذا رأوا البحر، ومن أين جاء هذا التّكبير؟

قبل أن يجتمع أمرُ الشّام كلّه إلى معاوية بن أبي سفيان حدّثته نفسه في أن يغزو البحر، فكان كثيرًا ما يلحّ على الخليفة عمر بن الخطّاب في أن يأذن له في تجييش الجيوش وتسفين السّفن عامدًا إلى ركوب البحر وغزو الممالك البحريّة. وبينما كان معاوية في حمص كتب إلى الخليفة في شأن قبرص: "إنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباحَ كلاب قبرص وصياحَ دجاجهم". لم يشأ عمر بن الخطّاب أن يُعطي الأمر دون سماع آراء أخرى، "فكتب عمرُ إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه: هو خَلْقٌ كبير يركبه خَلْقٌ صغير، ليس إلاّ السّماء والماء، إن ركدَ فلقَ القلوبَ وإن تحرّكَ أزاغ العقولَ". بعد سماع هذا الوصف للبحر، أعاد الخليفة النّظر في أمر غزو البحر، "فكتب عمر إلى معاوية: والّذي بعث محمّدًا بالحقّ لا أحملُ فيه مسلمًا أبدًا، وقد بلغني أنّ بحر الشّام يُشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذنُ اللّهَ كلّ يوم وليلة في أن يُغرقَ الأرضَ، فكيف أحملُ الجنودَ على هذا الكافر"!

هذا الكافر؟ أقرأ الخبر فتحضرني صيحة أرخميدس، فأقول لنفسي: أويريكا أويريكا - وجدتها وجدتها. إذن، هو ذا الكفرُ البحريُّ ما يدعو العربَ إلى التّكبير إذ يقع نظرهم عليه، كما لو كانوا يغزون "الكفّار". فمن عادتهم أن يكبّروا ساعة بدء الغزو والسّلب. غير أنّ هؤلاء الّذين يروي عنهم الوليد بن مسلم الدّمشقي لم يأتوا إلى روما هنا غازين، بل جاؤوا تجّارًا ألقت بهم السّفينة على شاطئ روميّة. إلاّ أنّ التّكبير عادة متوارثة ولا بدّ من السّير على هديها. ولكن، عندما سمع رسول أهل روميّة ما أطلقه التّجّار من تكبيرات، وبعد أن سمع شرحًا وافيًا عن عاداتهم وتقاليدهم إذ يرون البحر، قهقهَ مليًّا وبعد أن هدأ قال: ليس ما ترون هو البحر، إنّما "هذه سقوفُ روميّة، وهي كُلّها مُرَصَّصَة".

عندما يذكر المؤلّفون العرب الرّوم فإنّما هم يقصدون في الواقع سواحل البحر الرّوميّ الشّمالية، أي البلاد والممالك النّصرانيّة الّتي على سواحله، إذ أنّ "أرض الرّوم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقلية... والرّوم كلّهم نصارى".

لكن، ليست سقوف روما فحسب هي ما سحر أهل المشرق حتّى حسبوها لجّة البحر فكبّروا ثلاثًا. حين دخل هؤلاء روما وجالوا في طرقاتها وأسواقها، قصورها وكنائسها وشاهدوا ما تحويه هذه المدينة من الفنون والتّصاوير عادوا ليقصّوا على سامعيهم ما رأته عيونهم، أو دوّنوا مشاهداتهم لتبقى لنا على مرّ الدّهر. فقد روي عن جُبير بن مطعم أنّه قال: "لولا أصواتُ أهل روميّة وضَجّهم لسمعَ النّاسُ صليلَ الشّمس حيثُ تطلع وحيث تغرب، وروميّة من عجائب الدّنيا بناءً وعظمًا وكثرة خلق". فها هي مدينة روميّة تنكشف أمامي وها هم أهلها الّذين تصفهم الرّوايات العربيّة بأنّهم "أهل صناعات وحكم وطبّ، وهم أحذقُ الأمّة بالتّصاوير، يُصوِّرُ مصوّرهم الإنسان حتّى لا يُغادرُ منه شيئًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يُصيِّره شابًّا وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يجعله جميلاً ثُمّ يجعله حلوًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يصيّره ضاحكًا وباكيًا. ثُمّ يفصلُ بين ضحك الشّامت وضحك الخَجِل، وبين المستغرق والمبتسمِ والمسرور، وضحك الهاذي".

مضت قرون طويلة منذ أن كبّر التّجّار المشارقة لمشاهدتهم سقوف روما. حقب من السّلام وحقب من الحروب مضت وانقضت حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم للحديث عن البحر المتوسّط بوصفه بحرًا تلتقي فيه الحضارات تقتبس الواحدة من الأخرى. غير أنّنا كلّما طرحنا هذا الموضوع وتدارسناه أكثر فأكثر، كلّما كشفنا عن حقيقة عميقة تستتر وراء هذه الكلمات والتّعابير الجميلة. إنّ الكلام المتزايد عن هذا الموضوع يكشف تلك الهوّة العميقة الّتي تفصل بين المشرق والمغرب، بين الشّمال والجنوب.

وهذا الشّرخ ليس جديدًا. يجب طرق أبواب الأسطورة ومحاولة سبر أعماقها وأغوارها للتّعرّف على العلاقات المتبادلة بين حضارات المتوسّط. الأسطورة العربيّة الّتي شاعت في القرون الوسطى تحدّثنا أنّه في الزّمان القديم، لم يكن هذا البحر الّذي نجلس حول شواطئه اليوم قائمًا أصلاً. لقد تكوّن هذا البحر نتيجة للصّراع بين الشّمال والجنوب. يروي لنا مؤلّف عربيّ في القرون الوسطى قائلاً: "قرأتُ في غير كتاب من أخبار مصر والمغرب، أنّه ملك بعد هلاك الفراعنة ملوك من بني دلوكة، منهم دركون بن مَلُوطِس وزَمِطْرَة، وكانا من ذوي الرأي والكيد والسّحر والقوّة. فأراد الرّوم مغالبتهم على أرضهم وانتزاع الملك منهم، فاحتالا أنْ فَتَقَا البحرَ المحيط من المغرب، وهو بحر الظّلمات، فغلب على كثير من البلدان العامرة والممالك العظيمة، وامتدّ إلى بلاد الشّام وبلاد الرّوم وصار حاجزًا بين الرّوم وبلاد مصر".

وهكذا، وبعد أن افترقت طريقا الشّمال والجنوب جغرافيًّا وصار البحر حاجزًا بينهما، افترقت على مرّ الدّهور عقائدهما ومفاهيمهما. البحر المتوسّط هذا الّذي يحجزُ بين الوجهين، صار يحجز الآن بين الفرد وبين القبيلة، بين حريّة الفرد في البلاد الديمقراطيّة وبين الاستبداد القبليّ الّذي لا يترك متنفّسًا للأفراد. وفي المكان الّذي يختفي فيه الفرد يختفي فيه التّنوُّع ويفارقه الجمال. لقد صار هذا البحر حاجزًا بين الأعناب والتّمور، بين الخمور وبين الدّثور، بين ما يجودُ مع مرور الوقت وبين التّمر الّذي يعيش الآن ولا يبقي معه أثرًا.

هذا الصّراع بين الشّمال والغرب وبين الجنوب والشّرق خلق في الماضي أسطورة عربيّة أخرى تُفسّر صمود الرّوم أمام أعدائهم. الرّوايات العربيّة تحكي لنا: "ومجلس الملك المعروف بالبلاط تكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبًا، والإيوان الّذي فيه مائة ذراع وخمسين ذراعًا مُلبّس كلّه ذهبًا، وقد مُثّل في هذه الكنيسة مثالُ كلّ نبيّ منذ آدم عليه السّلام إلى عيسى بن مريم عليه السّلام لا يشكّ النّاظر إليهم أنّّهم أحياء.... وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة بالذّهب على كلّ واحد منها صنم من نحاس مُفرّغ، في يد كلّ صنم جرسٌ مكتوب عليه ذكرُ أمّة من الأمم، وجميعها طلسمات. فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرّك ذلك الصّنم وحرّك الجرس الّذي في يده فيعلمون أنّ ملك تلك الأمّة يريدهم فيأخذون حذرهم". غير أنّ مملكة روما، بوصفها رمزًا للعالم الغربي، لم تكتف بالدّفاع عن نفسها بواسطة أصنام الإنذار المسبق هذه فحسب، بل خرجت لاحتلال واستغلال الجنوب والشّرق خلال قرون طويلة.

شهادة تكشف تعامل الغرب مع الشّرق وردت على لسان چرايمس الّذي يقتبسه مارك طوين: "لم أدع الفرصة تفوتني لخلق الإنطباع الشّديد لدى العرب، مُستعينًا بالأسلحة الأميركيّة والإنكليزيّة، من أجل أن يفهموا الخطر من وراء مهاجمة الفرنجة المسلّحين. وأعتقد أنّهم فهموا الدّرس". هل تغيّر شيءٌ من هذه النّظرة منذ ذلك الوقت؟

خريف 2003 يهبط على القدس، وها هو موسم قطاف الزّيتون على الأبواب. أقلب صفحة ثمّ صفحة بعد أخرى مُبحرًا على ظهر الكتب حتّى أكتشف أنْ ليس الحليّ والنّور فحسب حُملا إلى روما. الآن أكتشفُ أن حبّات الزّيتون من قرية المغار في أيّام السّذاجة الطّفوليّة البعيدة تلك قد حُمِلَتْ هي الأخرى إلى روما. ها هي الأسطورة العربيّة تجلو لي ما التبس عليّ في أيّام الطّفولة وتكشف لي نوايا العصافير الّتي حطّت في حقول الزّيتون وطارت محمّلة زادًا للطّريق: "وبين يدي الكنيسة صحنٌ يكون خمسة أميال في مثلها. في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعًا وهذا كلّه قطعة واحدة مفرّغة، وفوقه تمثال طائر يُقال له السّوداني من ذهب. على صدره نقشُ طلسم وفي منقاره مثال زيتونة، وفي كلّ واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوانُ الزّيتون لم يبقَ طائرٌ في الأرض إلاّ وأتى وفي منقاره زيتونة وفي كلّ واحدة من رجليه زيتونة، حتّى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيتُ أهل روميّة وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحنُ عليه أُمناء وحَفَظَة من قِبَل الملك، وأبوابه مختومة. فإذا امتلأ وذهبَ أوانُ الزّيتون اجتمع الأُمناءُ فعصروه. فيُعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزّيت، ويُجعلُ الباقي للقناديل الّتي للبِِيَع. وهذه القصّة، أعني قصّة السّوداني مشهورة، قلّما رأيت كتابًا تُذكر فيه عجائب الدّنيا إلاّ وقد ذُكرت فيه. وقد رُوي عن عمرو بن العاص أنّه قال: من عجائب الدّنيا شجرة بروميّة من نٌحاس عليها صورة سودانيّة في منقارها زيتونة فإذا كان أوانُ الزّيتون صَفَرَتْ فوقَ الشّجرة فيُوافي كُلُّ طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتّى يُلقي ذلك على تلك الشّجرة، فيعصر أهلُ روميّة ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحَوْل".

لم آت من المشرق إلى هذا المنتدى حول البحر المتوسّط، لكي أطالب بإعادة الزّيت والزّيتون والنّور إليّ. بوسع روما ومدن أخرى على السّواحل الشّمالية للبحر المتوسّط أن تمنح قليلاً من النّور الّذي يشعّ فيها، للمناطق الواقعة على سواحله الجنوبية والشرقية، تلك المناطق الّتي بقي الظّلامُ والجوع يخيّمان عليها قرونًا طويلة. وحين أقول تمنح، فلست أتكلّم بمصطلحات اقتصاديّة لشركات عالميّة عابرة للحدود في عصر العولمة الباحثة عن زيادة أرباح لها، إنّما أتحدّث بمصطلحات الرّوح والحريّة، الإزدهار والديمقراطيّة. بوسع أوروپا هذه، أن تقوم بدور إيجابيّ جدًّا في إحلال السّلام في الشّرق الأوسط الّذي ينزف دماءً منذ تهديم حدوده بصورة مصطنعة، وخلق كيانات سياسيّة لا تأخذ بالحسبان المصالح الإجتماعيّة، الإثنيّة والإنسانيّة لشعوب المنطقة. لقد فعل الإستعمار ذلك في الماضي من أجل مواصلة اللّعب بالخيوط كما يحلو له ابتغاء تحقيق مصالحه الّتي لا تتمشّى مع مصالح شعوب المنطقة. واليوم، يبدو أنّ أوروپا قد نفضت أيديها من هذه اللّعبة مُبقيةً هذه المهمّة للقطب الأوحد الّذي ظلّ في العالم. مسؤوليّة أخلاقيّة ملقاة على كاهل أوروپا فيما يتعلّق بالمنطقة، وعليها أن تقوم بها، لأنّ شعوب المنطقة بحاجة إلى أوروپا مثلما هي أوروپا بحاجة إلى شعوب المنطقة.

في الماضي البعيد تعاقد الغرب والشّرق على السّلام، وفي تلك الأثناء منح الغرب هداياه للشّرق. لكنّ تلك الهدايا كانت من نوع آخر، كانت تلك هدايا بقيت آثارها قرونًا طويلة من الزّمن: "ولمّا توادع قُباذُ وقيصر ملك الرّوم أهدى إليه قيصرُ هدايا كثيرة، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب، كانَ إذا كانَ وقتًا من اللّيل يُسْمَعُ لها تَرَنُّمٌ لا يَطنُّ على أُذن أحد إلاّ أَرْقَدَهُ".
يبدو لي أنّ هذا الرّقاد الّذي نزل على المشّرق لا يزال مخيّمًا عليه لا يستطيع منه فكاكًا. وها أنذا أقف أمامكم الآن هنا، في روما، ليس تمثالاً لجارية مغنّية، بل تمثال من نوع آخر، من لحم ودم. وحتّى لا تُنزل عليكم كلمتي هذه سباتًا طويلاً، فقد جلبت معي جرسًا وناقوسًا للحريّة، قبل أن تهبط محنة كبرى على رؤوسنا أجمعين.



***

هذا النّصّ مؤسّس على محاضرة في مؤتمر حول الهويّة المتوسطيّة والعولمة، والذي انعقد في روما في نوڤمبر 2003.

______
نشر في فصليّة "مشارف"، عدد 24، 2004
*
للصيغة العبريّة، اضغط هنا.مقالة مختصرة بالإيطاليّة، اضغط هنا.

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2008

لا نبيّ في وطنه


وبخلاف الفلسطيني اللاجئ الّذي يكتشف إنّه قد رسم صورة خيالية لوطن لا يعرفه، فإنّ الفلسطيني الباقي يكتشف على مرّ السنين أنّ البلاد هي الّتي لا تعرفه، هي التي تتنكّر إليه...

الجمعة، 19 ديسمبر 2008

برايتن برايتنباخ: "الحياة في مكان آخر"



برايتن برايتنباخ


"الحياة في مكان آخر"



ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


"الكتابة هي نوع من الانتحار"، كما يقول الشاعر برايتن برايتنباخ (Breyten Breytenbach). لقد عرف هذا الأمر "على جلده"، كما نقول، من خلال ما جرى له مع نظام التفرقة العنصرية الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا طوال عقود من الزّمن. المجموعات الشعرية الأولى التي نشرها برايتنباخ كُتبت بلغة أمّه، الأفريقانيّة، أي لغة المستوطنين البيض في القرن الأفريقي. في أعقاب نشرها، حظيت مجموعاته هذه بإعجاب النقاد الذين أطلقوا عليه لقب "دانتي أفريقي".

الأربعاء، 17 ديسمبر 2008

آچي مشعول: قصائد


آچي مشعول

قصائد

ترجمة: سلمان مصالحة


ولدت آچي مشعول في هنغاريا في العام 1946. متزوّجة وتعيش مع عائلتها في قرية زراعية هي كفار مردخاي في جنوب إسرائيل.نشرت آچي مشعول حتّى الآن ثماني مجموعات شعريّة وحازت على جوائز أدبيّة متعدّدة بينها جائزة رئيس الحكومة وجائزة يهودا عميحاي.تُعدّ آچي مشعول من أبرز الأصوات الشّعرية العبرية النسائية المعاصرة. الحياة القروية، بنباتها، حيوانها وطيرها، إضافة إلى الألوان والرّوائح كثيرًا ما تنعكس في شعرها الّذي تصعب أحيانًا ترجمته إلى لغات أخرى بسبب الإشارات والتّلميحات التي تستند إلى لعبة لغوية هي من صميم اللغة العبرية. لا يخلو شعرها من أيضًا من نبرة الدعابة والسخرية الذاتية التي يحاول الشعراء عادة الابتعاد عنها.
الجسد والإيروطيقا لهما مكانة خاصّة في شعرها، ومن خلال لعبة الحبّ الجسدانية إنّما هي تريد الوصول ليس إلى المتعة في التعبير التجسيدي فحسب، بل أبعد من ذلك، إنّها تطمح إلى الوصول إلى متعة التعبير التجريدي في اللغة.

هذه هي المرّة الأولى التي تترجم قصائدها وتُنشر باللغة العربية.


***

يَدٌ وَاحِدَة

يَدٌ واحدة تَخْلطُ الكَرَنْب
يَدٌ واحدة تُديرُ قُرْصَ الحُبّ 
يَدٌ واحدة تَنْقرُ في الأَنْف
 يَدٌ واحدة تُصَفّقُ بالكَفّ
 يَدٌ واحدة تُمْسِكُ بالقَلَم
 يَدٌ واحدة تَطيرُ كَالجناح
 يَدٌ واحدة تُخْفِي يدًا 
تُخْفِي يدًا تُخْفِي يدًا 
وَطْرُومْپِلْدُور كانَ أَجْذَم
 يَدٌ واحدة في المِحْراث
 يَدٌ واحدة كانَ أَجْذَم 
***


  السّهل الدّاخلي
 هنا 
في السّهل الدّاخلي 
 أرعى مع الووكمان في المَرْج
 أنتقي لي عصا
 أفتحُ كوز رمّان
 أصفُرُ للكَلْبَة

 إلى قائمة الأشياء 
الّتي تُسبّب لي قُشَعْريرة أضفتُ هذا الصّباح 
بيلي هوليداي تُغنّي:
I'm so lonely.

***

  تَجَلٍّ  
في الصّباح الباكر جدًّا 
رأيتُ على حبلِ غسيلي 
ملاكًا ورديًّا عالِقًا في مِلقَط
 وقطًّا أسْوَدَ  
تحتَهُ 
 يُحاولُ الإمساك 
 بِكُمّه. 
***


  أنفخ الرّوح

 أتذكّرُ‏ ‬خطابًا صغيرًا كنتُ‏ ‬كتبتُه
بيني‏ ‬وبين نفسي‏ ‬عن
أنّي‏ ‬أردعُ‏ ‬حياتي
كي‏ ‬أُنصتَ‏ ‬للشِّعْر
الّذي‏ ‬سيأتي‏ ‬إذا ما
اختصرتُ‏ ‬الطّريقَ‏ ‬إليه

بدلَ‏ ‬ذلك أنا أنفخُ‏ ‬الرّوح
في‏ ‬عشيقٍ‏ ‬ما مرحوم

أُجندلُه بسِنان القَلَم‏ ‬
على حلبة الورقة
وأعدّ‏ ‬حتّى تسعة‏.‬

 *** 


نوكطورن I 
(‬أ‏)‬
داخل البيت
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
السّكّر في‏ ‬القارورة
الخبز في‏ ‬صندوق
الخبز،
السّكّين في‏ ‬الجارور
الطّعام في‏ ‬الجفنة،
الرّياح العاتية
بين ثنايا السّتارة
الشّيء فوق الآخر
الملاحف
المخدّات،
الكلاسين
والصّدريّات،
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
الموسيقى في‏ ‬شقوق الإسطوانات،
الفأر في‏ ‬العليّة
الأشياء المرفوضة‏.‬

‏(‬ب‏)‬
إذا قامت المرأة من فراشها
وفتحت البرّاد،
يمكن رؤية محيّاها،
يمكن رؤية نظراتها
في‏ ‬الجبنة الّتي‏ ‬تنظر إليها من ثقوبها،
لكن في‏ ‬هذا الضّوء الشّاحب،
يُرى جوعُها مفتوحًا
على ضوء آخر
وليس للأزرق المتراقص
في‏ ‬شاشة التّلفزيون،
وليس للأحمر‏  ‬المُشعّ
من ساعة المُنبّه،
أو لنيون القمر
الّذي‏ ‬يُشعّ‏ ‬أباجورةَ‏ ‬روحها‏.‬
هي‏ ‬بحاجة‏ ‬
إلى ضوء آخر
في‏ ‬اللّيل المُنتظِر كأريكة جلد سوداء
لابتلاعها‏.‬

‏(‬ج‏)‬

لا أقف هكذا دونما سبب في‏ ‬اللّيل
مائلة نحو المغسلة
أُشْغلُ‏ ‬مَنْصِبي
وأغنّي‏ ‬للبعيد‏:‬
سرب أسماك مسافرة

لأنّ‏ ‬كلّ
ما لَهُ‏ ‬حَوْلٌ‏ ‬وقوّة
يبتعد عن الأرض‏:‬
دخان المدخنة،
الصّلاة،
قفزات السّعادة

لكنّ‏ ‬أهل البيت‏ ‬يتنفّسون كما الأغنام
نائمون في‏ ‬الغرف واللّه حارسهم

وتحت البيت مياه الجَوْف
وتحت الجَوْف
لاڤا من الكسل‏.‬ 
***  


وداع

 "أپريل هو أَلأمُ الشُُّهور يخلطُ الذّاكرة بالشّبق" ت. س. إليوت
 
عِقابًا لكَ‏ ‬على موتِكَ
ينفونكَ‏ ‬الآن
إلى مدينة جديدة،
بيوتُها صَغيرة‏.‬

مُلتفعًا بثياب التّرحال
البيضاء‏ -‬
الموضة العتيقة ذاتها،
يُجرّدونكَ‏ ‬من اسْمِكَ
الشّخصي

وغَصْبًا عنكَ
حَوْضٌ،‏ ‬قَسيمة صفّ
تُعطيكَ‏ ‬عنوانًا آخر‏.‬

وأنا أَخِزُ‏ ‬أصابعي
بأشواك الـ‏ »‬بْلُو مُونْ‏« ‬الزّرقاء
الّتي‏ ‬تنشرُ‏ ‬رائحتها الطريّة
من حضني

وأَرَى كيفَ‏ ‬يَشْتُلُونَك
في‏ ‬بُستان المَوْتَى الكبير
وما مِنْ‏ ‬مَطَر،
حتّى أكثرُهُ‏ ‬رياءً،
سَيُنبِتُكَ‏ ‬ثانيةً
أبَدًا‏.‬

***


 الهدوء
 أنا هُدُوءُ الغُرْفَة. 
كُلَّمَا دَقَقْتُ 
غَلُظَ الصَّخَبُ فِي رُؤُوسِكُمْ.
 أَنا مَنْ يُخَمِّرُ الكَلِماتِ الَّتِي سَتَأْتِي. 
أنَا الحُفْرَةُ الَّتِي يُمْكِنُ مَلْؤُهَا بِالكَلِمَة. 
لَنْ تُفْلِحُوا بِالإفلاتِ مِنِّي،
 أَنا الطُّمَأْنِينَةُ فِي قَلَقِ جَسَدِكُمْ 
أَنصبُ لكمْ كمينًا 
في طرفِ أياديكُمْ المبسوطة 
الضّحكات القهقهات 
الحركات الخفيفةعلى الكرسي.
 أنتم تقلمونني من رؤوسِ الأظافر،
 تلتقون بي في السّقف 
 في الجدران في الأشكال الغريبة 
الّتي تنبتُ في البلاطات.
 أنا الإنصاتُ الكامن في كلّ شيء 
أنا هو من ينبلجُ فيكم 
الآن.
 ***
 وفاق
 أبي العجوز، المُنهَك، 
عادَ من بين الأموات 
ليغفو في صالوني 
على الأريكة الجلديّة. 
جاء بثيابه الجميلة -
 بدلة، ربطة عنق، 
أوروپيًّا ألقت به رجلاه 
بين آسيويّين. 
أنا الآن 
صرتُ والدةً لوالديّ 
ولا شائبةَ بقلبي تجاهه
 أقترب منه من الوراء 
وأربّتُ على كتفِهِ 
كَفِعْلِ رجلٍ على كتفِ زميلِه: 
"يا لكَ مِنْ ساذج يا أبي"
 أقولُ لهُ،وأقصدُ صنفَ الرّجالِ 
الّذِي انَكُتبَ عليَّ أنْ أعشقَهم 
طوال عمري بسببه. 
*** 

قصيدة حبّ 
علامَ ترحلُ بعيدًا 
بحثًا عن العجائب، 
بينما هي بين رجليّ؟ 
تعالَ إليّ عميقًا  
إلى رحمي  
لأنّ المساءَ أرخى سُدولَهُ
 وَانطفأَ البُرتقال.
 *** 

پاپوا نيو-غيني
 أُحبُّ أنْ أقول پاپوا نيو-غيني. 
وإلاّ لَـمَا كُنتُ أَتيتُ إلى هُنا.
 زَوْجي أنطونيو يَضُمّنِي من الوراء 
ويهمس قَبلَ أنْ ينام:حِبِّيني أَكْثرَ ممّا أُحبُّكِ 
وَأنا ألاطِفُ وجَهَهُ وأُحبُّهُ أكثرَ ممّا يُحبّني
 وعلى كلّ حال لا يَهمّني لأُسبوع أَنْ أحبّه أكثر، 
في نِهايةِ المطاف صَعْبَةٌ حَياةُ سفير الپُرتغال: 
الدُّولُ العُظمى تُهَدِّد وَلَيْلُهُ أَرِقٌ بَحْثًا عن 
العصر الذّهبي في المستعمرات، 
كلمات مثل أنچولا، ماكاو، كوشين ونامپولا 
 تُبحر للوراء كسفنٍ خشبيّة عتيقة في دمِهِ 
وتُحَوِّلُ شَخِيرَهُ نُواحًا وغَيْرَ مرّةٍ يَتَشَرْدَقُ قَلِقًا مَهْزُومًا. 
وَلِمَ لا؟ يَسْتحِقُّ أَنْ أُحبّهُ أكْثرَ.
 أَنا كريمةٌ وَأَمْلَؤُ الذّراعين الجديدتين اللّتين تَضمّانني 
 في حين قلبٌ غريبٌ يَحُثّني  
على أنّ العصافيرَ في پاپوا نيو-غيني 
غَنيّةٌ بالألوان وَصَوتَها جَميلٌ جدًّا ومُغْرٍ، 
وعَبْرَ السّتارة هناك يُضيءُ القَمرُ أَيضًا حَياتِي السّابقَة.
 يا لي مِنْ حِرباء ماهرَة. عندما أزْحَفُ على پاپوا نيو-غيني
 أُبَدّلُ ألواني بألوانها،وعندما أزْحَفُ على جَسَدِ أنطونيو 
 أُبدّل ألواني بألوانهِ، إذ يجب أَخْذَ كلّ َما تمنحُهُ الحياةُ 
وَأنا آخذُ يَعْنِي أَمْنَحُ. زوجي مُرَتّبٌ للغاية. 
حتّى البابا المعلّق على حائطِ غُرفةِ نومِنا 
يبتسمُ راضيًا عن التّرتيب الخالص: 
 نَعْلٌ حَذْوَ نَعْلٍ، القميصُ والبنطالُ مَطْوِيّان، 
ساعةُ اليدِ على الـمنضدة.  
زوجي لا يحبّ أن أنامَ مع السّاعة. 
 لكنّى أحبّ في اللّيل توزيعَ إيقاعاتِ نبضِ القلب 
والصّلصلةَ الدّيجتاليّة إذْ هُوّةٌ ساخرةٌ ممتدّة بينهما.
الآن أنا أَطْمَئِنُّ في جَسَدِهِ اللّذيذ، 
 يَسُوعُ الذّهب المُتدلّي من عُنقِهِ بارتخاءٍ، 
مَغْميٌّ عليهِ ويداعبُ جلدي.
أنا يهوديّة ونحنُ عاريان. 
ماذا يُفَكّرُ عَنّا يوحنّا اللاّبسُ المُعْتَمِرُ قُبّعةً 
وبيدِهِ العَصَا. 
واحد- اثنان -ثلاثة 
هُوَ أَحَشويروش 
 وأنا زوجةُ السّفير في پاپوا نيو-غيني.
***


نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 17، 2002
____

אגי משעול, "שירים", תרגם לערבית: סלמאן מצאלחה, משארף, מס' 17, 2002


Agi Mishol, "selected poems", translated by Salman Masalha, Masharef , No. 17, 2002




الثلاثاء، 16 ديسمبر 2008

لغة الملائكة


سلمان مصالحة || 

لغة الملائكة



على غرار سائر الأطفال على وجه البسيطة، أغلب الظنّ أنّي سُئلت مرّة ذلك السؤال الأبديّ: ماذا تطمح أن تصبح عندما تترعرع؟

قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشّيء خاصّة في الأوضاع والظّروف الّتي وُلدتُ فيها. ولكن، بخلاف الأطفال الّذين حلموا بأن يصبحوا أطبّاء، محامين، مهندسين، إلى آخر قائمة المهن الحرّة، كان جوابي دائمًا: أرغب في أن أكون شاعرًا، لأنّ الشّعر ارتبط بذهني بالمعنى الجوهري للحريّة.

كلّ أولئك الّذين قد يفكّرون في مصطلحات من مثل "التّحقيق الذّاتي" لطفل صغير، سيكتشفون فورًا أنّهم كانوا على خطأ. فقد اتّضحت لي لاحقًا حقيقة جوهريّة أخرى وهي، أن تكون شاعرًا لا يعني بأيّ حال من الأحوال تحقيقًا للذّات. في نهاية المطاف، يبدو الأمر لي الآن مغايرًا تمامًا وهو، "أن تكون شاعرًا"، يشكّل في الحقيقة نوعًا من العقاب أكثر منه تجربة ممتعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ عالَم الشّعر هو على كلّ حال نوع من عالَم السّجون الّتي يجدر المكوث فيها.

الشّعر هو سجن في فوضى الحروف، العلامات، الكلمات، السّطور وكلّ الإمكانات الّتي توفّرها لنا اللّغة كَرَمًا منها ومعروفًا منها تُسديه علينا. بمعنى آخر، وظيفة الشّاعر هي وظيفة شبيهة بوظيفة المبدع الأوّل الّذي أبدع النّظام في الكون من خلل الفوضى العارمة. الشّعر لا يمتلك حسًّا بالزّمان ولا بالمكان، كما لا يمتلك حسًّا بالقوم والقوميّة. إنّه في جوهره يمتلك كلّ الأزمنة، يسكن كلّ الأماكن، يعيش كلّ الحيوات ويتحدّث إلى كلّ الشّعوب في الوقت ذاته. إنّ لغة الشّعر هي لغة التّجربة البشريّة دون فرق في اللّون، الجنس واللّسان. إنّها لغة فوقيّة تذهب بعيدًا وراء حدود اللّغات الّتي تبلبلت وتفرّقت من بابل إلى أربع جهات الريح.

لغة الشّعر هي المعنى الأوّل للإبداع الإلهي وهي البارقة الأولى للخلود. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشّعر هو الأداة الأولى الّتي ينافسُ فيها الشّاعر عمل المبدع الأوّل. الشّعر ينافس الخالق لأنّه يحاول أن يُشكّل من جديد كلّ ما لم يتشكّل على ما يُرام في الخليقة الأولى. قد يقول المتفائلون إنّ المبدع الأوّل لم ينهِ عمله لأسباب خافية لها علاقة بكرمه الإلهي علينا، أو بتركه لنا فسحة كي نتذوّق نحن المخلوقات الأرضيّة طعم الحياة. من جهة أخرى، فإنّ المتشائمين، ويشمل هؤلاء الشّعراء وكلّ من يتعامل مع صنوف الفنّ، قد يقولون: إنّه لم يقم بمهمّته كما كان من المفروض أن يفعل.

في البدء كانت كلماتٌ في الفوضى، وخيّم الظّلام على غرفة ذلك السّجن الأوّل. وفي لحظة قدسيّة ظهر الشّاعر من خلل هذا الظّلام وجمع كلّ العلامات والحروف ووضعها على الورق. أخذ بعضًا منها ووضعها في نظام ما: نون واو راء، وفجأة كانَ نورٌ. بواسطة هذا النّور استطاع أن يرى كلّ الكلمات بكلّ اللّغات في كلّ هذه الفوضى. وكان هذا يومًا أوّلَ، كانت هذه القصيدةَ الأولى.

بواسطة هذا النّور يستطيع الشّاعر أن يرى كلّ المعاني القائمة في اللّغات بالقوّة. الشّاعرُ يستطيع أن يشكّل كلمة الحبّ ويترك الآخرين يحبّون على هواهم. يستطيع أن يشكّل رائحة الوجود فيمنح الأمل لكلّ البؤساء الّذين يتكاثرون على وجه البسيطة. يستطيع التّعبير عن الموت، ولكنّه من وراء التّشبيهات والإستعارات إنّما هو يرمي إلى الكشف عن المعنى المختبئ للحياة. بسطوره، وبأبياته القليلة يستطيع الشّعر أن يمنحنا القدرة على الإتّصال مع شعوب وأناس آخرين وأن يكشف لنا ثقافات أخرى. الشّعر يمكّننا من صنع أجنحة بالحروف للتّحويم في عوالم أخرى والهبوط في أماكن أخرى، لأنّ اللّغة هي الوطنُ الموعود الأوحد للشّاعر.

والآن، ومع مرور السّنين والأعوام، ولأنّي لم أعد ساذجًا إلى هذا الحدّ فقد اكتشفت شيئًا آخر: الشّعر هو شبكة فوقيّة داخليّة شائكة، متاهة عليا لا تسمح لك بالوصول إلى نهاية. وداخل هذه المتاهة الخالدة سيمكث الشّاعر حتّى يوم الدين، حتّى اليوم الّذي سيُقدّم فيه بديلَه الإستفزازي أمام القارئ الأوحد الأوّل الّذي نافسه منذ البداية وعلى مرّ الزّمن. إذا كان الكون قد أُبدع وتبيّنت معالمه من نور الشّعر في اليوم الأوّل، فما من شكّ أنّ هذا النّور سيبقى حتّى اليوم الآخر. أمّا أنا الآن، فليس لديّ غير رغبة واحدة. ليتني أحيا في تلك اللّحظة لأشاهد هذا الصّراع، لأشاهد هذا النّور.

وأخيرًا، وعلى الرّغم من الرّواية الإسلاميّة القائلة بأنّ سكّان الجنّة يتكلّمون العربيّة، ورغم الحقيقة بأنّ اللّغة العربيّة هي لغة الملائكة، أستطيع أن أشهد، من تجربتي الذّاتيّة، أنّ العربيّة هي لغة أهل جهنّم أيضًا.

***


للنص بالإنكليزية، اضغط هنا.


الاثنين، 15 ديسمبر 2008

شيموس هيني: قصائد



شيموس هيني || "الخارج من السّحر"



ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


في إيرلندا هذه الّتي استمرّ فيها الاقتتال لعقود طويلة، واختلط اللّه فيها بالعنف بالدّم والألم مع الويسكي والشّتاء الصّاقع، ولد ييطس كبير شعراء الإنچليزيّة، وكوكبة أخرى من شعراء إيرلندا الّذين يقف على رأسهم في هذه الحقبة شيموس هيني (Seamus Heaney) الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1995. شيموس هيني ينتمي إلى الطّائفة الكاثوليكيّة الّتي تشكّل أقليّة كبيرة في إيرلندا الشّماليّة. ولد هيني في 13 أپريل 1939 وهو الابن البكر بين اخوته التّسعة في مزرعة واده الواقعة حوالي 50 كيلومترًا شمال غرب بلفاست.


بدأ كتابة الشعر إبّان فترة دراسته الجامعيّة ونشر بعض محاولاته في تلك الفترة باسم مستعار. وفي العام 1963 عُيّن محاضرًا في الأدب الإنچليزي، وقد اشترك في تلك الأيّام في ورشة شعريّة أدارها فيليب هوبسباوم. في العام 1965عُيّن محاضرًا في الأدب الإنچليزي في كوينز كوليج في بلفاست. حازت كتاباته الشعرية على عدّة جوائز.

لقد وصفه النّاقد روبرت لويل على أنّه أهمّ شاعر إيرلندي بعد ييتس. وهو يعدّ في هذا الأوان من أشهر الشعراء الكاتبين باللغة الإنچليزية.

كتاباته تعجّ بالموت، موت أصدقاء ومعارف كثيرين من جرّاء الحرب الطائفية التي دارت رحاها في رحاب إيرلندا في العقود الأخيرة. غير أنّ أشعاره الذاتية، وبخاصة تلك الصوناتات التي كتبها إثر وفاة والدته، والزشعار الّتي نظمها في أعقاب وفاة والده، تُعدّ من أمهات الشعر الإنچليزي في الفترة المعاصرة.

لم يأبه هيني بالنقّاد، وبخاصة أولئك الّذين وصفوه بالشيء ونقيضه. فقد وصفه البعض بالابتعاد عن الأحداث السياسية في شعره، بينما كال آخرون اللّوم له لأنّه كثيرًا ما يتطرّق إلى هذه الأمور في قصائده. ويبدو أنّ الجانبين على حقّ، فلم يلجأ هيني في شعره إلى المباشرة والتقريرية حينما كتب عن هذه الأمور، كما أنّه لم يدع تلك الأمور تمرّ دون أن يضع عليها بصماته الشعرية.

لقد تحوّل هيني مع الأيّام إلى أخد أفذاذ الشعر الإنچليزي المعاصر، كما أنّه عالج الكثير من القضايا الّتي تهمّ الشعر المكتوب بالإنچليزية. إنّ المكانة الّتي حظي بها هيني دفعت الأكاديمية البريطانية إلى تبنّيه ومنحته كرسي الشعر في جامعة أوكسفورد ليجلس عليها خلال سنين. لقد ذاع صيت هيني خارج الجزر البريطانية وحظي بشعبيّة كبيرة في أميركا الّتي نصّبته من طرفها على عرش الشّعر المكتوب بالإنچليزيّة.

يوظّف هيني في أشعاره الأساطير الإيرلنديّة القديمة من الحضارات الغاليّة، السّيلطيّة، رامزًا أحيانًا مصرّحًا في أحايين كثيرة عن أنّ العالم الخارجيّ ما هو إلاّ قائم بالقوّة فينا. وهو ليس منعزلاً بأيّ حال عن الحال الذّاتيّة للإنسان الفرد أينما كان.


لقد وجد شيموس هيني في فضاء إيرلندا مادّة غنيّة لشعره.

منذ المجموعات الأولى يُشتمّ من شعره تلك الأجواء الطبيعية التي لفّته. رائحة الأرض والفلاحة والإنسان مربوطة بالتاريخ والأساطير وكلّ ذلك مع الإبقاء على العلاقة مع ما هو قائم الآن على جميع مركّباته.

تتّسم لغته الشعرية بالعنفوانيّة والإغراق في الموسيقيّة اللّغويّة، إضافة إلى المضامين الإنسانيّة الشّاملة. اللّغة لدى هيني هي إحدى أبرز معالم شعره، حيث يتجّلى ذلك في امتلاكه لناصية اللّغة الإنچليزيّة من خلال تركيبات معقّدة ونحو كلاسيّ. في في الفترة اللاّحقة تتحوّل قصائد هيني إلى الاقتضاب كما هي حال الأمثال التي تختزل التجارب الإنسانية في سطور قليلة، ويستخدم التشبيهات وفي الكثير من الأحيان التوريات والأليچويا.

ما من شكّ في أنّ ما يقف في الكثير من الأحيان وراء منح جوائز نوبل هي أمور خارجة عن الجوهر الأدبي البحت. وعلى الرّغم من أنّ النّقّاد يعتبرونه من أبرز شعراء الإنچليزيّة في العصر الحديث إلاّ أنّ رياح التّسويات السّياسيّة الّتي شهدتها إيرلندا في الآونة الأخيرة قد هبّت على قاعة هيئة الحكّام، فتركت لديهم تأثيرًا على قرارهم بمنح الجائزة.






روتردام 1996


***

شجرة الأمنيات

خطرت على بالي كما شجرة الأمنيات
وشاهدتها تتسامى، بجذرها وفرعها، صوبَ السّماء،
تُجرجرُ أذيالها بكلّ ما انغرز
لضرورة بعد أخرى للشّفاء.
باللّباب والقُشور: قطعة نقديّة، دبّوسٌ ومسمار
انسابت منها كما نجم مُذّنّب
جديد الصّكّ وذائب. رأيتُ رؤيا
رأسَ فرعٍ يتسامى عبر الغيوم الرّطبة
وجهًا متضرّعًا للسّماء في المكان
الّذي انتصبت فيه الشّجرة.

***

إشراقات viii

تروي كتب التّاريخ: حينما كان رهبان كْلـُونماكْنويْز
أجمعين في المصلّى خاشعين
تراءت فوقهم سفينة في الهواء
جرّت معها في الخلف المرساة.
وعلقت في أخشاب المذبح. إذْ ذاك
وبعد ثبات الزّورق دون حراك،
هبَّ أحدُ الملاّحين، تشبّثَ بالأطراف،
ثمّ تدلّى بالحبل وراح يُصارعُ حتّى فكاك
المرساة، ولكن سدًى ما باء.
"لن يَقْوَى هذا الرّجلُ أن يحيا فينا، وسيغرق"، قالَ
رئيس الدَّيْر، "إلاّ إن قدّمنا إليه العَوْن". فكان العون كذاك.
أبحرت السّفينة، وتسلّقَ الملاّحُ عائدًا
خارجًا من ذاك السّحر، كما كان عرفَهُ بأمّ العين.

***

أوراكل (كاهن)

أن تختبئ في الجذع الأجوف
في شجر الصّفصاف،
يبدو الأنصاتُ لديه معروفًا
حتّى كالعادة ينادوك باسمك
يتردّدُ إسمك كالوقواق
على طول الحقول.
تستطيع سماعَهم
إفتح أقفال البوّابات
حالَما يتقدّمون
وينادونك لتخرج:
فم صغير وأذن
في صدعٍ خشبيّ،
قصبة وحَنْجَرَة
للأماكن المُطَحْلَبَة.

***

سَفْرة ليليّة

روائح الأشياء العاديّة
كانت جديدة في السَّفْرَة اللّيليّة عبرَ فرنسا:
غابات وقشٌّ ومطرٌ في الأجواء
عملَت نسيمًا دافئًا في السيّارة المفتوحة.
والشّاراتُ ابيضّت بلا شفقة
مونطريه، أبيڤيل، بوڤيه
قد وُعدت، وُعدتْ، مرّت وارتحلت،
كلّ اسمٍ مَنَحَ ما يحملُه الإسمُ بذاته
يتأوّه كومباينٌ دَربَه في ساعات اللّيل أو ينزفُ
عن طرفَي الضّوء حبوبًا.
نارُ الغابة تتسامى فوق الأشجار وتخبو
تُغلق المقاهي الصّغيرة الواحد تلوَ الآخر أبوابها.
وأنا أفكّرُ فيك باستمرار
ألفَ ميلٍ جنوبًا أراحت إيطاليا
فخذها على فرنسا في الكرة الأرضيّة المعتمة.
الأشياء العاديّة لديكِ
بُعثت من جديد هناك.


***

نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 5، 1995

ـــــــــ

Seamus Heaney, "selected poems", translated by Salman Masalha, Masharef, No. 5, 1995





بشرى سارّة - فتوى علمانيّة


سلمان مصالحة ||

بشرى سارّة - فتوى علمانيّة



كثرت في الآونة الأخيرة الفتاوى،
وهذا بلا شكّ دليل ناصع ساطع قاطع على حيرة كبيرة وجد النّاس أنفسهم فيها جرّاء طبيعة الحياة المتسارعة في هذا العصر المُعَوْلم. والحقيقة أنّه لا بأس في ذلك، ما دامت كلّ هذه الفتاوى تتطرّق إلى أمور سخيفة، أو مثيرة للضّحك في الكثير من الأحيان. فما من شكّ في أنّ إثارة الضّحك في نفوس بني البشر لها ميزات صحيّة لا بأس بها، كما أنّ الطبّ الحديث يوصي بالضّحك كوسيلة للتّخفيف عن آلام المرضى. لذلك درجت مستشفيات كثيرة في العالم على استحضار المهرّجين إلى أروقتها، وذلك بغية إشاعة الضّحك لدى المرضى النّزلاء، وخاصّة لدى الأطفال منهم.
قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع