كل الطيور تؤدي إلى روما


سلمان مصالحة || 

كلّ الطّيور تُؤَدّي إلى روما


كنت لا أزال طفلاً يافعًا في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ولم تكن تنقصني سذاجة من سذاجات تلك الأيّام الغابرة. آنذاك لم يخطر أبدًا على بالي العربيّة الغضّة طرفُ خيط أمسك به، أو فكرة تحملني على معرفة النّوايا الخفيّة لأسراب الطّيور الّتي كانت تحطّ في حقول الزّيتون لقرية المغار الجليليّة المطلّة على بحيرة طبريّة مع اقتراب موسم القطاف. عندما كانت غمامةٌ سوداء من الطّيور تعبر الأفق وتحطّ في الحقول مع نهايات الخريف، كان أهالي البلد يخرجون مهرولين حاملين كلّ ما تطاله أيديهم من أطباق معدنيّة، أو أغطية طناجر أو كلّ ما يمكّنهم من أن يعزفوا عليه لحن ضجيجهم، ليس فرحًا باستقبال الطّيور، بل عزمًا على طردها من الحقول المثمرة الّتي كانت تشكّل مصدر رزق أساسي معيلاً لهم. ولكن، ما أنْ كان الأهالي يصلون إلى الحقول في أطراف القرية حتّى كانت الطّيور، في هذا الوقت الضائع، تكونُ أفلحت بالفوز بما لذّ وطاب من هذا الثّمر الزّيتي. ثمّ ما تلبث أن تطير حاملة معها زادًا للطّريق.

كانت غمامةُ الطّيور تنسلخ عن ذرى أشجار الزّيتون، تتسلّق الهواء أعلى التلّة، تحوم في السّماء قليلاً ثمّ سرعان ما تختفي وراء الأفق. وهكذا، حَوْلاً بعد حول، موسمًا بعد موسم عادت الأسرابُ لعادتها القديمة، تناولت ما يسدّ رمقها وعادَ الأهالي هم أيضًا إلى صنوجهم وضجيجهم. بين فينة وأخرى كانوا يمهرون أصوات الصّنوج بفرقعات من جفت، وهو بندقيّة مزدوجة القصبات يستخدمونها عادة للصّيد، غير أنّها كثيرًا ما استُخدمت لأغراض أخرى غير ما أنيط بها، فكان لها دور وخيم العواقب في حال حصول مناوشات بين القبائل. في مواسم القطاف تلك، كنّا نحن الأطفال أيضًا نحظى بفرصة المحافظة على دورة الغذاء في الطّبيعة، وكثيرًا ما سددنا رمقنا من لحوم تلك الطّيور السّوداء الّتي كانت تقع فرائس سائغة في فوهات البنادق المزدوجة القصبات.

مواسم قطاف كثيرة مضت وانقضت ومعها أسراب كثيرة حطّت في الحقول وانسلخت عنها، حتى ترعرعتُ ووضعتُ نصب عينيّ فكرة الارتحال إلى القدس لمواصلة الدّراسة العليا والتزوُّد بزاد الحكمة من جامعتها العبريّة. ولكن، ومع اقتناء الحكمة طارت تلك السّذاجة إلى بقاع بعيدة ولـَمّا تَعُدْ أبدًا. وها أنذا، بعد سنوات غير قليلة، أجدني مُبحرًا مرّة تلو أخرى في رحلات بحث عن تلك السّذاجة، عن تلك الجنّة المفقودة.

أقول لنفسي مُبحرًا، ولكنْ من الصّعب على ساكن القدس استعمال تعبير مُعارٍ من عالَم البحار. القدس تبعد عن البحر المتوسّط ساعةً سَفَرًا، والإبحار منها لا يمكن أن يتأتّى إلاّ على أجنحة الإستعارة. ورغم ذلك، فالّذي يصرّ على الإبحار، فبوسع أوراق الكتب أن تكون له كما الأشرعة. روائح الأوراق المصفرّة في الكتب القديمة مثلها مثل الرّوائح الّتي تعلو من البحر، وفي كلّ تقليب صفحة منها تنشأ ريح. الكلمات أمواج بحر مترامي الأطراف، وكلّما قلّبت الصفحات أكثر فأكثر كلّما اشتدّت عليك الرّيح فتحملك إلى أصقاع نائية وعوالم ساحرة.

كم كانت كبيرةً دهشةُ مارك طوين الّذي جاء من أطراف العالم القصيّة في منتصف القرن التّاسع عشر وحلّ زائرًا حاجًّا في هذه المدينة. لقد جاء مارك طوين إلى هذه الأصقاع المشرقيّة وإلى هذه المدينة ودوّن كلّ مشاهداته في صفحات كتاب له نشره بعد عودته: "يبدو لي أنّ كلّ الأجناس، الألوان والألسنة الموجودة على وجه البسيطة قد وَجَدتْ تمثيلاً لها بين أربعة عشر ألف نسمة تعيش في القدس. الأسمال البالية، البؤس والفقر ... هي علامات شاهدة على حضور السّلطة الإسلاميّة فيها... الجُذْمُ، المجانينُ، العُميانُ وذوو العاهات الّذين تلتقي بهم في كلّ ركن منها يعرفون كلمةً واحدةً فحسب، بلغة واحدة فحسب، هي الكلمة الأبديّة: بقشيش. القدس مدينة حزينة، تثير الاكتئاب ولا روح فيها. ما كنتُ أرغبُ العيش هُنا"، لخّص مارك طوين حال هذه المدينة في ذلك الأوان.

غير أنّي، خلافًا لمارك طوين، أعيش هنا في مدينة القدس إيّاها منذ ثلاثة عقود. وها هو ليلٌ كئيبٌ حالك آخر يهبط الآن على المدينة. لكن، يبدو لي الآن أنّ هذه الحلكة الّتي تكتنف المدينة في بداية الألفيّة الثّالثة قد هبطت عليها من زمان آخر ومن عالَم آخر. فقد رُوي عن عبد اللّه عبّاس، ابن عمّ الرّسول العربيّ أنّه قال: "حليةُ بيت المقدس أُهبِطَتْ من الجَنّة، فأصابتها الرُّوم فانطلقتْ بها إلى مدينةٍ لهم يُقال لها روميّة، قالَ وكان الرّاكبُ يسيرُ بضوء ذلك الحليّ مسيرةَ خمس ليالٍ".

خمسَ ليالٍ بالتّمام والكمال يسير الرّاكبُ في روميّة، لا يعثر في طريقه، إذ يطرد بريق حليّ بيت المقدس الظّلام في البلاد الرّوميّة. وها أنذا أتساءل في هذا اللّيل المقدسيّ، كيف ذا يُروَى في القرن السّابع عن الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس إلى روما لتنشر فيها أنوارها مسافة خمس ليالٍ؟ فلا أملك الفرار من التّفكير في أنوار مقدسيّة أخرى. أليست هذه هي كلّها أصداء لروايات تناقلَ رجعُها في المشرق عن الجواهر والحليّ الّتي كانت في بيت المقدس في العام ٠٧ للميلاد وكانَ أنْ سلبتها الرّوم؟ وما هو هذا الضّوء الّذي ينفضُ الظّلام عن الرّاكب مسيرةَ خمس ليالٍ؟ أليس هو ضوء ذلك الشّمعدان الذّهب الّذي أُنير بالزّيت في هيكل سليمان، والّذي لا يزال نقشُهُ مخلّدًا على بوّابة طيطوس في روما؟

ألفان من الأعوام مرّا هُنا، وها أنا جالس الآن، على بعد سنوات ضوئيّة من تلك الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس لتضيء مدينة الرّوم. وها هو الخريف يهبط الآن مرّة أخرى، ويهبط معه موسم قطاف جديد، وموسم زيت جديد يطرق الباب. في ليل مقدسيّ أَحلكَ ممّا عهدنا منذ زمنٍ أوّلَ، أحاولُ أن أشقّ طريقي في ثنايا الماضي السّحيق. نعم الماضي، لأنّنا نحن في المشرق دائمًا نبحث عن الآتي في الماضي. نحنُ نفعل ذلك رُبّما لأنّنا نملك مواضيَ كثيرةً، بل رُبّما لأنّنا نملك من المواضي أكثر ممّا يحتاج له المرء على هذه الأرض. نعم، نحن في المشرق نخطو إلى الأمام غير أنّ عيوننا مثبتة في أقفية رؤوسنا. وهكذا نتعثّر، نقع ونقوم ثمّ نتعثّر ونقوم ونمضي دون أن نتوقّف للحظة ونفكّر في تحويل رؤوسنا وعيوننا إلى الأمام.

ها أنا أجلسُ في القدس وأبحر إلى أصقاع بعيدة باحثًا عن ذلك النّور المكنون والمسلوب. ربّما أفلح هذه المرّة، ربّما يحالفني الحظّ فأعيد ولو بصيصًا من ذلك النّور السّماويّ الّذي اختفى من ربوعنا وحطّ منذ ذلك الوقت في الشّاطئ الآخر من البحر المتوسّط.

كثيرون جابوا الآفاق راحلين بين المشرق والمغرب عَبْرَ التّاريخ، في أوقات الحرب وفي أوقات السّلام. ومثلما شدّ الشّرق أنظار أهل الغرب وسحرهم بعد أن وطأت أرجلهم هذه البلاد، اقتبسوا أنواره وحملوها إلى بلادهم (بخلاف مارك طوين طبعًا)، كذا وجد أهل المشارق الّذين حلّوا في الجانب الآخر من المتوسّط سحرًا كثيرًا.

في القرن التّاسع الميلادي يروي الوليد بن مسلم الدّمشقي، مولى بني أميّة، عن أحد التّجار الّذين أبحروا من المشرق بحثًا عمّن يتّجرون معه، فيروي على لسان التّاجر: "ركبنا البحر وألقتنا السّفينةُ إلى ساحل روميّة. فأرسلنا إليهم، إنّا إيّاكم أردنا، فأَرْسَلوا إلينا رسولاً فخرجنا معه نريدها. فَعَلَوْنا جبلاً في الطّريق فإذا بشيءٍ أَخْضَرَ كهيئة اللّجِّ، فَكَبَّرْنا. فقال الرّسول: لِمَ كَبَّرْتُم؟ قلنا: هذا البحرُ، ومن سبيلنا أن نُكبِّر إذا رأيناهُ". وها أنذا أحاولُ اقتفاء أثر هؤلاء التّجّار إلى الوراء، لعلّي أعرفُ كيف ذا من سبيل العرب أن يكبّروا إذا رأوا البحر، ومن أين جاء هذا التّكبير؟

قبل أن يجتمع أمرُ الشّام كلّه إلى معاوية بن أبي سفيان حدّثته نفسه في أن يغزو البحر، فكان كثيرًا ما يلحّ على الخليفة عمر بن الخطّاب في أن يأذن له في تجييش الجيوش وتسفين السّفن عامدًا إلى ركوب البحر وغزو الممالك البحريّة. وبينما كان معاوية في حمص كتب إلى الخليفة في شأن قبرص: "إنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباحَ كلاب قبرص وصياحَ دجاجهم". لم يشأ عمر بن الخطّاب أن يُعطي الأمر دون سماع آراء أخرى، "فكتب عمرُ إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه: هو خَلْقٌ كبير يركبه خَلْقٌ صغير، ليس إلاّ السّماء والماء، إن ركدَ فلقَ القلوبَ وإن تحرّكَ أزاغ العقولَ". بعد سماع هذا الوصف للبحر، أعاد الخليفة النّظر في أمر غزو البحر، "فكتب عمر إلى معاوية: والّذي بعث محمّدًا بالحقّ لا أحملُ فيه مسلمًا أبدًا، وقد بلغني أنّ بحر الشّام يُشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذنُ اللّهَ كلّ يوم وليلة في أن يُغرقَ الأرضَ، فكيف أحملُ الجنودَ على هذا الكافر"!

هذا الكافر؟ أقرأ الخبر فتحضرني صيحة أرخميدس، فأقول لنفسي: أويريكا أويريكا - وجدتها وجدتها. إذن، هو ذا الكفرُ البحريُّ ما يدعو العربَ إلى التّكبير إذ يقع نظرهم عليه، كما لو كانوا يغزون "الكفّار". فمن عادتهم أن يكبّروا ساعة بدء الغزو والسّلب. غير أنّ هؤلاء الّذين يروي عنهم الوليد بن مسلم الدّمشقي لم يأتوا إلى روما هنا غازين، بل جاؤوا تجّارًا ألقت بهم السّفينة على شاطئ روميّة. إلاّ أنّ التّكبير عادة متوارثة ولا بدّ من السّير على هديها. ولكن، عندما سمع رسول أهل روميّة ما أطلقه التّجّار من تكبيرات، وبعد أن سمع شرحًا وافيًا عن عاداتهم وتقاليدهم إذ يرون البحر، قهقهَ مليًّا وبعد أن هدأ قال: ليس ما ترون هو البحر، إنّما "هذه سقوفُ روميّة، وهي كُلّها مُرَصَّصَة".

عندما يذكر المؤلّفون العرب الرّوم فإنّما هم يقصدون في الواقع سواحل البحر الرّوميّ الشّمالية، أي البلاد والممالك النّصرانيّة الّتي على سواحله، إذ أنّ "أرض الرّوم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقلية... والرّوم كلّهم نصارى".

لكن، ليست سقوف روما فحسب هي ما سحر أهل المشرق حتّى حسبوها لجّة البحر فكبّروا ثلاثًا. حين دخل هؤلاء روما وجالوا في طرقاتها وأسواقها، قصورها وكنائسها وشاهدوا ما تحويه هذه المدينة من الفنون والتّصاوير عادوا ليقصّوا على سامعيهم ما رأته عيونهم، أو دوّنوا مشاهداتهم لتبقى لنا على مرّ الدّهر. فقد روي عن جُبير بن مطعم أنّه قال: "لولا أصواتُ أهل روميّة وضَجّهم لسمعَ النّاسُ صليلَ الشّمس حيثُ تطلع وحيث تغرب، وروميّة من عجائب الدّنيا بناءً وعظمًا وكثرة خلق". فها هي مدينة روميّة تنكشف أمامي وها هم أهلها الّذين تصفهم الرّوايات العربيّة بأنّهم "أهل صناعات وحكم وطبّ، وهم أحذقُ الأمّة بالتّصاوير، يُصوِّرُ مصوّرهم الإنسان حتّى لا يُغادرُ منه شيئًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يُصيِّره شابًّا وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يجعله جميلاً ثُمّ يجعله حلوًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يصيّره ضاحكًا وباكيًا. ثُمّ يفصلُ بين ضحك الشّامت وضحك الخَجِل، وبين المستغرق والمبتسمِ والمسرور، وضحك الهاذي".

مضت قرون طويلة منذ أن كبّر التّجّار المشارقة لمشاهدتهم سقوف روما. حقب من السّلام وحقب من الحروب مضت وانقضت حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم للحديث عن البحر المتوسّط بوصفه بحرًا تلتقي فيه الحضارات تقتبس الواحدة من الأخرى. غير أنّنا كلّما طرحنا هذا الموضوع وتدارسناه أكثر فأكثر، كلّما كشفنا عن حقيقة عميقة تستتر وراء هذه الكلمات والتّعابير الجميلة. إنّ الكلام المتزايد عن هذا الموضوع يكشف تلك الهوّة العميقة الّتي تفصل بين المشرق والمغرب، بين الشّمال والجنوب.

وهذا الشّرخ ليس جديدًا. يجب طرق أبواب الأسطورة ومحاولة سبر أعماقها وأغوارها للتّعرّف على العلاقات المتبادلة بين حضارات المتوسّط. الأسطورة العربيّة الّتي شاعت في القرون الوسطى تحدّثنا أنّه في الزّمان القديم، لم يكن هذا البحر الّذي نجلس حول شواطئه اليوم قائمًا أصلاً. لقد تكوّن هذا البحر نتيجة للصّراع بين الشّمال والجنوب. يروي لنا مؤلّف عربيّ في القرون الوسطى قائلاً: "قرأتُ في غير كتاب من أخبار مصر والمغرب، أنّه ملك بعد هلاك الفراعنة ملوك من بني دلوكة، منهم دركون بن مَلُوطِس وزَمِطْرَة، وكانا من ذوي الرأي والكيد والسّحر والقوّة. فأراد الرّوم مغالبتهم على أرضهم وانتزاع الملك منهم، فاحتالا أنْ فَتَقَا البحرَ المحيط من المغرب، وهو بحر الظّلمات، فغلب على كثير من البلدان العامرة والممالك العظيمة، وامتدّ إلى بلاد الشّام وبلاد الرّوم وصار حاجزًا بين الرّوم وبلاد مصر".

وهكذا، وبعد أن افترقت طريقا الشّمال والجنوب جغرافيًّا وصار البحر حاجزًا بينهما، افترقت على مرّ الدّهور عقائدهما ومفاهيمهما. البحر المتوسّط هذا الّذي يحجزُ بين الوجهين، صار يحجز الآن بين الفرد وبين القبيلة، بين حريّة الفرد في البلاد الديمقراطيّة وبين الاستبداد القبليّ الّذي لا يترك متنفّسًا للأفراد. وفي المكان الّذي يختفي فيه الفرد يختفي فيه التّنوُّع ويفارقه الجمال. لقد صار هذا البحر حاجزًا بين الأعناب والتّمور، بين الخمور وبين الدّثور، بين ما يجودُ مع مرور الوقت وبين التّمر الّذي يعيش الآن ولا يبقي معه أثرًا.

هذا الصّراع بين الشّمال والغرب وبين الجنوب والشّرق خلق في الماضي أسطورة عربيّة أخرى تُفسّر صمود الرّوم أمام أعدائهم. الرّوايات العربيّة تحكي لنا: "ومجلس الملك المعروف بالبلاط تكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبًا، والإيوان الّذي فيه مائة ذراع وخمسين ذراعًا مُلبّس كلّه ذهبًا، وقد مُثّل في هذه الكنيسة مثالُ كلّ نبيّ منذ آدم عليه السّلام إلى عيسى بن مريم عليه السّلام لا يشكّ النّاظر إليهم أنّّهم أحياء.... وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة بالذّهب على كلّ واحد منها صنم من نحاس مُفرّغ، في يد كلّ صنم جرسٌ مكتوب عليه ذكرُ أمّة من الأمم، وجميعها طلسمات. فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرّك ذلك الصّنم وحرّك الجرس الّذي في يده فيعلمون أنّ ملك تلك الأمّة يريدهم فيأخذون حذرهم". غير أنّ مملكة روما، بوصفها رمزًا للعالم الغربي، لم تكتف بالدّفاع عن نفسها بواسطة أصنام الإنذار المسبق هذه فحسب، بل خرجت لاحتلال واستغلال الجنوب والشّرق خلال قرون طويلة.

شهادة تكشف تعامل الغرب مع الشّرق وردت على لسان چرايمس الّذي يقتبسه مارك طوين: "لم أدع الفرصة تفوتني لخلق الإنطباع الشّديد لدى العرب، مُستعينًا بالأسلحة الأميركيّة والإنكليزيّة، من أجل أن يفهموا الخطر من وراء مهاجمة الفرنجة المسلّحين. وأعتقد أنّهم فهموا الدّرس". هل تغيّر شيءٌ من هذه النّظرة منذ ذلك الوقت؟

خريف 2003 يهبط على القدس، وها هو موسم قطاف الزّيتون على الأبواب. أقلب صفحة ثمّ صفحة بعد أخرى مُبحرًا على ظهر الكتب حتّى أكتشف أنْ ليس الحليّ والنّور فحسب حُملا إلى روما. الآن أكتشفُ أن حبّات الزّيتون من قرية المغار في أيّام السّذاجة الطّفوليّة البعيدة تلك قد حُمِلَتْ هي الأخرى إلى روما. ها هي الأسطورة العربيّة تجلو لي ما التبس عليّ في أيّام الطّفولة وتكشف لي نوايا العصافير الّتي حطّت في حقول الزّيتون وطارت محمّلة زادًا للطّريق: "وبين يدي الكنيسة صحنٌ يكون خمسة أميال في مثلها. في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعًا وهذا كلّه قطعة واحدة مفرّغة، وفوقه تمثال طائر يُقال له السّوداني من ذهب. على صدره نقشُ طلسم وفي منقاره مثال زيتونة، وفي كلّ واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوانُ الزّيتون لم يبقَ طائرٌ في الأرض إلاّ وأتى وفي منقاره زيتونة وفي كلّ واحدة من رجليه زيتونة، حتّى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيتُ أهل روميّة وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحنُ عليه أُمناء وحَفَظَة من قِبَل الملك، وأبوابه مختومة. فإذا امتلأ وذهبَ أوانُ الزّيتون اجتمع الأُمناءُ فعصروه. فيُعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزّيت، ويُجعلُ الباقي للقناديل الّتي للبِِيَع. وهذه القصّة، أعني قصّة السّوداني مشهورة، قلّما رأيت كتابًا تُذكر فيه عجائب الدّنيا إلاّ وقد ذُكرت فيه. وقد رُوي عن عمرو بن العاص أنّه قال: من عجائب الدّنيا شجرة بروميّة من نٌحاس عليها صورة سودانيّة في منقارها زيتونة فإذا كان أوانُ الزّيتون صَفَرَتْ فوقَ الشّجرة فيُوافي كُلُّ طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتّى يُلقي ذلك على تلك الشّجرة، فيعصر أهلُ روميّة ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحَوْل".

لم آت من المشرق إلى هذا المنتدى حول البحر المتوسّط، لكي أطالب بإعادة الزّيت والزّيتون والنّور إليّ. بوسع روما ومدن أخرى على السّواحل الشّمالية للبحر المتوسّط أن تمنح قليلاً من النّور الّذي يشعّ فيها، للمناطق الواقعة على سواحله الجنوبية والشرقية، تلك المناطق الّتي بقي الظّلامُ والجوع يخيّمان عليها قرونًا طويلة. وحين أقول تمنح، فلست أتكلّم بمصطلحات اقتصاديّة لشركات عالميّة عابرة للحدود في عصر العولمة الباحثة عن زيادة أرباح لها، إنّما أتحدّث بمصطلحات الرّوح والحريّة، الإزدهار والديمقراطيّة. بوسع أوروپا هذه، أن تقوم بدور إيجابيّ جدًّا في إحلال السّلام في الشّرق الأوسط الّذي ينزف دماءً منذ تهديم حدوده بصورة مصطنعة، وخلق كيانات سياسيّة لا تأخذ بالحسبان المصالح الإجتماعيّة، الإثنيّة والإنسانيّة لشعوب المنطقة. لقد فعل الإستعمار ذلك في الماضي من أجل مواصلة اللّعب بالخيوط كما يحلو له ابتغاء تحقيق مصالحه الّتي لا تتمشّى مع مصالح شعوب المنطقة. واليوم، يبدو أنّ أوروپا قد نفضت أيديها من هذه اللّعبة مُبقيةً هذه المهمّة للقطب الأوحد الّذي ظلّ في العالم. مسؤوليّة أخلاقيّة ملقاة على كاهل أوروپا فيما يتعلّق بالمنطقة، وعليها أن تقوم بها، لأنّ شعوب المنطقة بحاجة إلى أوروپا مثلما هي أوروپا بحاجة إلى شعوب المنطقة.

في الماضي البعيد تعاقد الغرب والشّرق على السّلام، وفي تلك الأثناء منح الغرب هداياه للشّرق. لكنّ تلك الهدايا كانت من نوع آخر، كانت تلك هدايا بقيت آثارها قرونًا طويلة من الزّمن: "ولمّا توادع قُباذُ وقيصر ملك الرّوم أهدى إليه قيصرُ هدايا كثيرة، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب، كانَ إذا كانَ وقتًا من اللّيل يُسْمَعُ لها تَرَنُّمٌ لا يَطنُّ على أُذن أحد إلاّ أَرْقَدَهُ".
يبدو لي أنّ هذا الرّقاد الّذي نزل على المشّرق لا يزال مخيّمًا عليه لا يستطيع منه فكاكًا. وها أنذا أقف أمامكم الآن هنا، في روما، ليس تمثالاً لجارية مغنّية، بل تمثال من نوع آخر، من لحم ودم. وحتّى لا تُنزل عليكم كلمتي هذه سباتًا طويلاً، فقد جلبت معي جرسًا وناقوسًا للحريّة، قبل أن تهبط محنة كبرى على رؤوسنا أجمعين.



***

هذا النّصّ مؤسّس على محاضرة في مؤتمر حول الهويّة المتوسطيّة والعولمة، والذي انعقد في روما في نوڤمبر 2003.

______
نشر في فصليّة "مشارف"، عدد 24، 2004
*
للصيغة العبريّة، اضغط هنا.مقالة مختصرة بالإيطاليّة، اضغط هنا.

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!