ڤيسلاڤا شيمبورسكا: قصائد



ڤيسلاڤا شيمبورسكا

قصائد

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


ولدت ڤيسلاڤا شيمبورسكا (Wislawa Szymborska) في العام 1923 في بلدة بنين الواقعة شرق پولندا. ومنذ العام 1931 تسكن في مدينة كراكوڤ، حيث درست هناك الأدب الپولندي والسّوسيولوجيا. في منتصف سنوات الأربعين نشرت محاولاتها الشّعريّة الأولى. وبعد أن وضعت الحرب العالميّة أوزارها استمرّت في نشر قصائدها في الجرائد والمجلاّت الپولنديّة. بالإضافة إلى ذلك، كتبت أعمدة صحفيّة في النّقد الأدبي، ومراجعات دوريّة للكتب الصّادرة. كما ترجمت قصائد كثيرة إلى اللّغة الپولنديّة وخاصّة من الشّعر الفرنسي. لقد نالت جوائز كثيرة منها جائزة وزارة الثّقافة الپولنديّة في العام 1963، جائزة چوتة في العام 1991، دكتوراة فخريّة من جامعة پوزنان في العام 1995، وجائزة نادي پن الپولندي في العام 1996. نشرت مجموعات شعريّة كثيرة وكتبًا ومقالات في النّقد الأدبي، وظهرت أشعارها في دوريّات وأنثولوجيات عديدة. كما تُرجمت أشعارها إلى كثير من اللّغات الأوروپيّة. لُغتها الشّعريّة غنيّة، ولا تقتصر على أسلوب واحد دون سواه. إنّ تعدّد أساليب الكتابة لديها يجعل مهمّة التّرجمة لأشعارها شائكة ومضنية. ولكن، لا مناص في نهاية المطاف من سلوك هذه الطّريق بغية تقديم بعض النّفحات للقارئ العربيّ الّذي يتشوّق إلى التّعرّف على آداب الأمم الأخرى.

القصيدة لدى شيمبورسكا هي تلك السّلسلة الّتي في يد "قرد برويچل". فحينما تُمتحن في التّاريخ الإنساني ويغلبها النّسيان تأتي تلك الرّنّة الخفيفة من السّلسلة لتذكّر بما كان، وبما هو كائن أو سيكون. فالشّعر لديها ليس مجرّد لعبة للتّسلية. إنّه قاموس تُشكّل مفرداته كراتٍ معدنيّة تضرب النّاقوس الّذي يقضّ مضجعها حينما تميل هي إلى النّسيان، وهذا المعدن هو المعدن الحقيقي والأصيل للشّعر، وفيه فقط ضمان النّجاح في هذا الاختبار. وفي هذا العصر وفي هذه الحقبة كلّ شيء له مغزى سياسي، وشيمبورسكا ذات النّفس الحسّاسة لما يجري، تضع أصابعها على تلك المداولات بين أطراف نزاع في كلّ مكان، الّذين يمضون الوقت للتّداول حول شكل الطّاولة، فكلّ ذلك هو سياسة، ولكن خلال هذه السّياسة، والسّؤال حول أيّ طالة "يجدر التّداول / بشأن الحياة والموت، مستديرة أم مربّعة." في هذه الأثناء يُقتَل النّاس وتنفق الحيوانات وتتهدّم البيوت وتُصبحُ الأرض خرابًا يبابًا، كما حال سابق العصور والدّهور.

أمّا عن الشّعر، فما هو هذا السّحر الّذي طالما تساءل النّاس عن جوهره؟ كثير من النّاس من يسأل عن سرّ هذا الفنّ الكلامي. وكثير من الشّعراء يسألون ويبحثون عن إجابة. لكلّ منهم رؤيا، ولكلّ منهم تصوّر أو إحساس بهذا الجانب أو بغيره من حُجيرات هذا الكنز المكنون. "بعض النّاس يحبّون الشّعر"، لكن ليس الجميع، "لكن يمكن أيضًا حبّ مرقة الدّجاج بالمعكرونة"، تستطرد شيمبورسكا. لكنّها لا تقنع بإجابات من هذا النّوع. فكثير من الإجابات الّتي أعطيت حتّى الآن هي إجابات واهية. ولذلك فهي تستمرّ في البحث عن إجابة أكثر دقّة، حتّى تخلص في النّهاية إلى الإجابة اللاّ-إجابة: "وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا / كما بدرابزين مُنقذ".

وهنا، وفي هذا الجواب الّذي يترك الباب مفتوحًا على مصاريعه، تبقى شيمبورسكا على طريق الرّحلة الطّويلة الّتي لا نهاية لها، تبقى متلبّسة بعدم المعرفة وهذا هو الدّليل على معرفتها لحقيقة الشّعر. هذه الحقيقة البسيطة الّتي تقتصر على البحث عن الإجابات لكلّ شيء. البحث عن الإجابات العميقة لماهيّة وجوهر الأشياء. ولأنّ إجابات من هذا النّوع مستحيلة الحصول، فإنّ عمليّة البحث ستبقى خالدة، وهي رحلة في طريق ليس منها رجعة. ولأنّ هذه الرّحلة هي رحلة فرديّة فإنّ شيمبورسكا تشعر بالأمان لدى شقيقتها الّتي "لا تكتب الأشعار". أحيانًا، وحينما يكون في العائلة أكثر من شاعر فهذا يؤدّي إلى "دوّامات في العلاقات العائليّة". ولهذا فإنّ الأمان الّذي تشعر به شيمبورسكا هو هذا التّوتّر الشّخصيّ الّذي لا يقربه أحد. هذه الفردانيّة المُرعبة، ولكن المُبدعة في آن معًا.


***


قردان لبرويچل

دائمًا أفكّر في امتحان التّوجيهي:
في النّافذة يجلسُ قردان مربوطَيْن بسلسلة.
عبر النّافذة تحومُ السّماء.
البحرُ يضربُ أمواجَه.

إنّي أُمتَحنُ في التّاريخ الإنساني:
أُتأتِئُ، وترتعدُ فرائصي.
قردٌ واحد، عيناهُ عليّ، يسترقُ السّمعَ ويسخر.
الثّاني يبدو يغلبُه نُعاس.
وحينَ يعمّ الصّمتُ بعدَ سؤال،
يُشيرُ لي ليذكّرني من خلال
رنّة خفيفة بالسّلسلة.

***

رسائل الميت

قرأنا رسائل الميت كما آلهة بلا أمل،
ومع كلّ ذلك آلهة، لأنّنا نعرفُ المواقيت الآتية.
نعرفُ أيّ دُيونٍ لم تُدفَع.
مع أي رجال هرولت النّساء للزّواج.
يا لهم من مساكين هؤلاء الموتى، موتى الرّؤى الضّيّقة،
مضحوك عليهم، غير معصومين، ويحسبون كلّ شيء.
إنّنا نرى الوجوه، حركات الأيادي وراء الظَّهْر.
آذانُنا تلتقطُ صوت تمزيق الوصايا الأخيرة.
يجلسون أمامنا مُضحكين كما لو كانوا على قطع خبزٍ مطليّة بالزّبدة.
أو مُسرعين للإمساك بالقبّعات المتطايرة فوق رؤوسهم.
ذوقهم السّيّء، ناپليون، بُخار وكهرباء،
أدوية فتّاكة لأمراضٍ قابلة للشّفاء.
سُخْف أشراط السّاعة حسب القدّيس يوهانس.
جنّة اللّه الخادِعة على الأرض، حسب جان جاك...
بهدوء نراقبُ بيادقهم على لوح الشّطرنج.
أنّهم فقط الآن تحرّكوا ثلاث خانات للأمام .
كلّ ما رأته عيونهم خرج مختلفًا تمامًا.
أكثرُهم حماسًا نظروا إلينا بثقة.
اكتشفوا أنّهم سيجدون هناكَ الكَمال.

***


أبناء هذا العصر

نحنُ أبناءُ هذا العَصْر،
إنّه عصرٌ سياسيّ.

كلّ ما يحملُ يومُك من أعباء
أو ليلُك، أعباؤك أعباؤنا، أعباؤكم
هي أعباءُ سياسة.

شِئتَ أمْ أبَيْتَ،
جيناتُك ماضيها سياسي،
لونُ الجلدِ سياسي،
للعَيْن وَجْهٌ سياسيّ.

بهذه الصّورة أو تلك،
لكلّ ما تقول أصداءٌ
لكلّ سَكَتاتِك مضمونٌ أو معنى
سياسي.

حتّى إذْ تخطو في الغابة،
تخطو أنتَ خطواتٍ سياسة
على أرضٍ سياسيّة.

حتّى الأشعار الغَيْر السّياسيّة هي أشعارٌ سياسة،
وفي الأعالي يزهو القمر بنوره،
منذُ زمن، لم يعُدْ قمري بَعْدُ.
أن تكون أو ألاّ تكون، هذا هو السّؤال.
أيّ سؤالٍ يا صديقي، أجب ببساطة.
سؤال سياسيّ.

لستَ مُلزمًا أن تكون من بني البشر
لكي تكون ذا مغزى سياسيّ.
يكفي أن تكون نفطًا خامًا،
هشيمًا مُركّزًا، مادّةً خامًا مُكرّرة.

أو حتّى طاولة جلساتٍ، على شكلها
ثار جدالٌ شهورًا طويلة:
حولَ أيّ طاولة يجدرُ التّداوُل
بشأن الحياة والموت، مُستديرة أمْ مُربّعة.

وفي هذه الأثناء، قُتل أناسٌ،
نفقتْ جوعًا حيوانات،
دُورٌ التهمتها ألسنة النّيران،
وحقولٌ أنبتت البُور،
مثلما في غابر العصور
غير السّياسيّة.

***


بعض النّاس يحبّون الشِّعْر

البعض -
أقصد ليس الجميع.
ليس الغالبيّة، ولا حتّى الأقليّة.
دون أخذ المدارس بالحسبان، فهم مُضطرّون هناك،
والشّعراء أنفسهم،
هؤلاء النّاس إثنان بالألف.

يحبّون -
لكن، يمكن أيضًا حبّ مرق الدّجاج بالمعكرونة،
يحبّون الإطراءات وأزرق السّماء،
يحبّون منديلاً قديمًا،
يحبّون الإصرار على إراداتهم،
يحبّون ملاطفةَ كَلْب.

الشِّعْر -
لكنْ، ما هو الشِّعْرُ في الحقيقة.
كَمْ مرّةٍ أُعطيتْ على هذا
إجابة واهية.
وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا
كما بدرابزين مُنقذ.

***


ڤيتنام

يا امرأة، ما اسمُك؟ لا أعرف.
أينَ وُلدتِ؟ لا أعرف.
لماذا تحفرينَ الأرض؟ لا أعرف.
كم من الوقت تختبئين هنا؟ لا أعرف.
لماذا تعضّين يدَ المحبّة؟ لا أعرف.
ألا تعرفين أنّنا لن نمسّك بسوء؟ لا أعرف.
مع أيّ طرفٍ أنتِ؟ لا أعرف.
ثَمّةَ حربٌ فعليكِ أن تختاري. لا أعرف.
هل ما زالت قريتك قائمة؟ لا أعرف.
هل هؤلاء هم أولادك؟ نعم.

***


في مديح ذمّ الذّات

ليسَ للدّأية ما تتّهم به نفسَها.
التّساؤلات غريبة في نظر الفَهْد الأسود.
سمكة الپيرانْها لا تُشكّك بمصداقيّة أعمالِها.
الأفعى يُمدح نفسَه دونما اعتراضات.

لا يوجد ابنُ آوى ذو نَقْدٍ ذاتيّ.
الجراد، التّمساح، الشْعريّة وذبابُ الخيل
كلّها تعيشُ حياتها راضيةً مرضيّة

قَلْبُ حوت الأورْكا يزنُ مائة كيلو
لكن من جهة أخرى، فهو خفيف.

لا يوجد شيء أكثر حيوانيّة
من ضمير نقيّ
على الكوكب الثّالث في المجموعة الشّمسيّة.

***


في الثّناء على شقيقتي

شقيقتي لا تكتُب الأشعار
ولا يبدو أنّها فجأة ستنظم القصائد.
سارت على خطى والدتها الّتي لم تكتب الأشعار.
وعلى خطى والدها الّذي هو الآخر لم يكتب الأشعار.
تحتَ سقف شقيقتي أشعر بالأمان:
لا شيء سيدفعُ زوج شقيقتي لكتابة الأشعار.
ومع أنّ الأمر يُذكّر بقصيدة لآدم مكدونسكي،
لا أحد من أقربائي مشغول بكتابة الأشعار.

على مكتب شقيقتي لا توجد أشعار قديمة.
ولا توجد جديدة في حقيبتها.
وحينما تدعوني شقيقتي للعشاء،
أعرفُ أنّّها ليست عازمة على قراءة الأشعار لي.
إنّها تعمل مرقة رائعة، ودونما أن تُحاول
ولن تندلق قهوتها على المخطوطات.

في كثير من العائلات لا أحد يكتب الأشعار.
ولكن، حين يفعلون عادةً ما يكونون أكثر من واحد.
أحيانًا يفيضُ الشّعر كشلاّلات الماء عبر الأجيال،
صانعةً دوّاماتٍ في العلاقات العائليّة.

شقيقتي تعتني بالنّثْر الدّارج والمُحترم.
كلّ نتاجها الأدبي يقتصر على البطاقات البريديّة.
يكرّرُ الشّيء ذاتَه كلّ عام:
أنّها حينما ستعود،
ستروي لنا كلّ شيء،
كلّ شيء،
كلّ شيء.

***

النّهاية والبداية

في نهاية كلّ حرب
أحدٌ ما يجبُ أن يُنظّف.
النّظام أيًّا ما كان
لن يحدثَ من ذاته تلقائيًّا.

أحدٌ ما يجبُ أن يدحرَ رُكامَ الخراب
إلى جوانب الطّرقات،
حتّى تعبرَ فيها
العرباتُ الملأى بالموتى.

أحدٌ ما يجبُ أن يتلطّخ
بالطّين وبالرّماد،
برفّاصات الأرائك،
شظايا الزّجاج
والخِرَق النّازفة.

أحدٌ ما يجبُ أن يجرّ لوحًا من خشب
ليدعمَ الحائط،
يُثبّت الزّجاج في النّافذة
يُركّبَ البابَ في محوره.

هذا لا يبدو جميلاً في الصّورة
ويحتاج سنين طويلة.
كلُّ الكاميرات قد نزحتْ من زمان
إلى حربٍ أخرى.

ثَمّ حاجة للجسور من جديد
ولمحطّات القطار.
ستتمزّقُ الأكمام
من كثرة التّشمير.

أحدٌ ما، يحملُ مكنسةً في يده،
يتذكّرُ كيف كان.
أحدٌ ما يتنصّتُ
ويهزّ رأسَه الّذي لم يُنْزَع من مكانه.
لكنّ البعضَ هناك
يبدأ هذا الشّأن
يُثيرُ المللَ لديهم.

بين الفينة والأخرى، يحفرُ أحدٌ
ما تحتَ شُجَيْرَة
حُججًا قد صَدِئَتْ
ينقُلُها لأكوام الوَرَثَة.

مَنْ كانَ منهم على عِلْمٍ
بما قد حدثَ هنا ولماذا،
يجبُ أن يُفرعُ مكانًا لِمَنْ
كانَ قليلاً ما يعلم.
وأقلّ من قليل،
وأخيرًا، لا شيء.

على الأعشاب الّتي غطّت
الأسباب والنّتائج،
أحدٌ ما يجبُ أن يستلقي
سُنبلةٌ بين أسنانه
ويتأمّل الغيوم.

***


عن الموت، دون مبالغة

هو لا يفهمُ في النّكات،
لا يفهم في النّجوم، في الجسور،
في النّسيج، في حفر المناجم، في فلاحة الأرض،
في بناء السّفُن، وخَبْز الكعك.

عندَ حديثنا عن برامج الغد
يدسّ كلمتَه الأخيرة الّتي
لا علاقة لها بالموضوع.

هو لا يعرفُ حتّى في الأمور،
المتعلّقة مباشرةً بمهنته:
حَفْر القبور،
نقش التّوابيت،
لا يعرفُ التّنظيف وراء نفسه.

غارقٌ في التّقتيل،
يفعل ذلك بكثير من عدم الدّراية،
دونما أسلوب أو خبرة،
وكأنّه يتمرّن، لأوّل مرّة، على كلّ واحد منّا.

الانتصارات هي انتصارات،
لكنْ كم من الهزائم،
والضّربات الّتي أخطأت الهدف
والمحاولات المتكرّرة.

أحيانًا تنقصه القوّة
لإسقاط ذُبابَة في الهواء.
مع غير قليل من الزّواحف
خسرَ المُباراة في الزّحْف.

جميع هذه البصيلات، الأكواز
السّداسيّات، الزّعانف، قصبات التّنفّس،
ريش المُداعبة، فِراء الشّتاء
تشهد على التّأخير
في عمله الجاري بلا مبالاة.

لا تكفي الغرائز المُبيّتة،
وحتّى المُساعدة الّتي نُقدّمها له في الحروب والثّورات
هي، للآن، ضئيلة جدًا.

قلوبٌ تنبض في البَيْض.
هياكل الأطفال تنمو وتكبر.
البُذور، بكدٍّ واجتهاد، تصلُ إلى وُريقتين أولَيين.
أحيانًا إلى شجرتين سامقتين على خطّ الأفق.

مَنْ يظنّ أنّ الموت قادرٌ على كلّ شيء،
فهو بنفسه برهانٌ حيّ،
على أنّه ليس بقادر.

لا يوجد ثَمّ حياةٌ،
ولو لِرمشة عين واحدة فقط،
ليست خالدةً.

الموتُ
دَوْمًا يتأخّر في الرّمشة عينٍ هذه.

سُدًى يهزّ ألأيادي
للأبواب اللاّ مرئيّة.
كلّ ما قامَ به أحدٌ ما
لن يقدر أن يُعيده للوراء.

***


كتابة سيرة حياة

ما المطلوب؟
المطلوب أن تكتب طلبًا
وأنْ تُرفق طيّه سيرة حياة.

ودون علاقة بطول الحياة
على السّيرة أن تكون قصيرة.

تلخيص الحقائق وفرزها أمر ضروري.
إستبدال المناظر بالعناوين
والذّكريات الواهية بتواريخ ثابتة.
من بين جميع قصص الحبّ يجب تسجيل الزّواج فحسب،
ومن الأولاد فقط الّذين قد وُلدوا.

مَنْ يعرفُكَ ذو شأنٍ أكبر ممّن تعرفُهُ.
والسّفرُ فقط إن كان لخارج البلاد.
الإنتماء لـ"ماذا"، لكن ليس لماذا.
شهادات التّقدير دون التّبريرات.

أُكتبْ كما لو أنّك لم تتحدّث مع نفسك أبدًا
وكأنّك التففتَ على نفسك من بعيد.

تجاهل الكلاب، والقطط والعصافير،
الهدايا القديمة، الأصدقاء والأحلام.

السِّعْر وليس القيمة
العنوان وليس المضمون.
رقم الحذاء وليسَ الغاية الّتي يذهبُ
إليها هذا المفروض أن يكون أنت.

مع ذلك يجب إرفاق صورة مع أذنٍ مكشوفة.
شكلها فقط يُؤخذ بالحسبان، ليس ما يُسمَع
ماذا يُسمَع؟
صرير الماكنات الّتي تطحن الورق.

***



نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 13، 1997


Wislawa Szymborska, "Selected Poems", translated by Salman Masalha, Masharef 13, Haifa 1997

حاييم غوري: "خلخال ينتظر الكاحل"، قصائد



حاييم غوري

"خلخال ينتظر الكاحل"

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة



ولد حاييم غوري (Haim Gouri) في تل أبيب في العام 1923، وبهذا يكون قد نشأ وترعرع في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين فكان شاهدًا على ما جرى فيها من أحداث مصيريّة حتّى حصول النّكبة الفسطينيّة وقيام دولة إسرائيل. في العام 1941 إنضمّ چوري إلى كتائب الـ "پلماح" (وهي تعبير عبري مركّب من كلمتين، پْلُوچُوت ماحَتْس، أي الكتائب السّاحقة، أو الصّاعقة)، الّتي حاربت إبّان الانتداب البريطاني قبل قيام دولة إسرائيل، ولاحقًا انخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي حتّى تمّ تسريحه. درس حاييم غوري الأدب في الجامعة العبريّة في القدس، كما درس الأدب الفرنسي في جامعة السّوربون في پاريس. حاز جوائز أدبيّة مختلفة، منها جائزة "بيالك" للعام 1975، ثمّ جائزة إسرائيل للعام 1988.

النكبة الفلسطينية هي نكبة قيادة


سلمان مصالحة

النكبة الفلسطينية هي نكبة قيادة


لن نعود كثيرًا إلى
الوراء لاقتفاء آثار هذه النكبة المتواصلة على الشعب الفلسطيني. فمنذ بداية هذا الصّراع على هذه الأرض لم يَرْقَ الشعب الفسطيني المتشكّل حديثًا على خلفية هذا الصّراع إلى إفراز قيادات ترقى به إلى قراءة دقيقة للعالم من حوله. وعندما أقول قراءة العالم فإنّي أبدأ بالعالم العربي أوّلاً ومن ثمّ سائر القوى الأخرى الفاعلة في هذه المنطقة. فالعالم العربي، الّذي خرج للتّوّ من الاستعمار الغربي، قد دخل فورًا وعلى خلفيّة لعبة القطبين المتشكّلين إثر الحرب العالمية الثانية وقيام إسرائيل في هذا الجزء من العالم، في "حرب باردة" بين هذين القطبين اللّذين صدّراها وأشعلاها "حربًا حارّة" في هذه المنطقة ليكتوي بلظاها أهل هذه البقعة.

وهكذا، سرعان ما بدأنا
نسمع عن ثورة تنشب هنا وثورة تهبّ هناك في مشرق العرب ومغربهم. غير أنّ هذه الثّورات لم تكن ثورات حقيقيّة بقدر ما هي تمرّدات على أنظمة حاكمة هي من مخلّفات المرحلة السّابقة. لقد أوصلت هذه التّمرّدات بعض الضبّاط إلى سدّة الحكم، ليس إلاّ. أيّ أنّها بدّلت استبدادًا واحدًا تقليديًّا باستبداد جديد من نوع أصحاب البزّات العسكريّة والنّياشين الّتي يوزّعونها على صدورهم وصدور المقرّبين المبايعين لهم. وبقدر ما كانت تتّسع مساحة النّياشين المُثبَتَة على صدور العساكر بقدر ما كانت البلاغة التّليدة والبليدة تتّسع اطّرادًا في وسائل إعلام هؤلاء النّفر من البشر مدغدغةً عواطف الجماهير على وقع دوزنات وموازين موسيقيّة وكلاميّة مُغرقة في جهلها وجاهليّتها.

وعلى خلفية هذه البلاغة
الّتي انتُكبَ بها العرب منذ القِدَم، وخلفية النكبة الفسطينية الأولى، وجد الفلسطينيون أنفسهم لقمة سائغة في أيدي هؤلاء العسكر في ساحة شرق-أوسطية شديدة التّناقض هي إحدى أهمّ مناطق العالم، لما تحويه من موارد طاقة حيوية، تتصارع عليها قوى عظمى ذات مصالح لا يُستهان بها. وهكذا أضحت القضيّة الفلسطينيّة ورقة اللّعب الرّابحة بأيدي أنظمة العساكر القائمة حديثًا في الكيانات العربيّة المتشكّلة إثر جلاء الاستعمار عن هذه الأصقاع. فها هو عبد النّاصر، الضّابط الشّاب الّذي وصل إلى سدّة الحكم في مصر، قد صدّق نفسه وصدّق البلاغة العربيّة الّتي أطلقها في خطبه النّارية، وبدل أن يتحكّم هو في البلاغة تحكّمت هذه البلاغة فيه وفي جماهير العواطف الّتي سارت خلفه. وسرعان ما وجد نفسه في مواجهة ما أطلق عليه "حرب سيناء" إثر تأميم قناة السّويس. ولم تمرّ سنوات كثيرة حتّى أرسل عشرات آلاف الجنود المصريّين إلى اليمن في مرحلة "المدّ الثّوري" البلاغي، الّذي رافقه استخدام أسلحة كيماوية ضدّ العرب في جنوب جزيرة العرب.

المهمّ في نظر عبد النّاصر: شكله وهيبته.
والشّكل والهيبة هما من مخلّفات ذات البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة. إنّ الكلام عن اهتمام عبد النّاصر فقط بشكله وهيبته، ليس منّي بل ممّن هو أدرى منّي بشعاب هذه الزّعامات. هذا ما يصرّح به الفريق عبد المحسن مرتجي، والفريق مرتجي عارف ببواطن الأمور فهو قائد القوّات البريّة المصريّة في حرب 67، وهو قائد القوّات في حرب اليمن الّتي سبقتها. وهذا ما يرويه الفريق مرتجي: "كان من المفترض أن نرسل 200 جندي فقط لليمن، من أجل أن يقال إن مصر شاركت في ثورة اليمن. لكن العدد وصل إلي 95 ألف جندي... سافرنا إلي اليمن دون أن نعرف شيئًا عنها ولا عن طبيعتها أو طبيعة الحرب التي سنخوضها، ولم نكن مستعدين لها تمامًا". ويواصل الفريق مرتجي روايته قائلاً: "عبدالناصر كان يرسل أموالاً وذهبًا من خزانة الدولة إلينا حتى ندفعها للقبائل اليمنية، وعندما طلبنا منه الانسحاب من اليمن لأن الخسائر أصبحت كبيرة، قال: مش ممكن ننسحب، آور پريستيج هيضيع". ويلخّص الفريق مرتجي توصيفه لحال عبد النّاصر بأنّه "لم يكن يهتم سوى بشكله وهيبته فقط أمام الدول العربية، حتى لو كان هذا على حساب الدولة." (نقلاً عن: "المصري اليوم"، 23 أبريل 2008).

وبعد أن ضاع "پريستيج" عبد النّاصر
في اليمن، أخذ يبحث لنفسه عن پريستيج عربي جديد في مكان آخر. هكذا دخلت "قضيّة فلسطين" على الخطّ، وهكذا تمّ إنشاء منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في مؤتمر القمّة العربي الّذي دعا إليه عبد النّاصر في العام 1964. في هذا المؤتمر تمّ تكليف أحمد الشّقيري بالاتّصال بالفلسطينيّين وكتابة تقرير عن ذلك، وفي المؤتمر التّالي من ذات العام قدّم الشّقيري تقريره عن إنشاء المنظّمة، والتأكيد على الجوانب التّعبويّة والعسكرية والتّنظيمية لتحرير فلسطين، ووافق المؤتمر على التّقرير وأقرّ الدّعم المالي للمنظّمة.

وهكذا، ومنذ العام 1964 
بدأت العلاقات تتوتّر مع إسرائيل. وكما يروي الفريق عبد المحسن مرتجي ذاته عن ملابسات حرب 67، فإن عبد النّاصر "لم يكن صاحب فكر سياسي ولا اقتصادي وأنه لم يكن يختلف عن الملك كثيرًا، وكان لا يسمع سوى صوته... كان مقتنعًا بأن إسرائيل تخاف منه، ولن تدخل في حرب لهذا قام بإرسال قوات إلى شرم الشيخ، وأمر بإغلاق القناة، لأنه كان يتصور أن إسرائيل لن تدخل الحرب، وسيصبح هو بطلاً في نظر الدول العربية... عبدالناصر لم يدرس الحرب لا من النواحي السياسية ولا العسكرية ولا الاقتصادية، ولا من حيث العلاقات الدولية أو التأثير المعنوي علي الشعب المصري، كذلك لم يقم بدراسة الجانب الإسرائيلي، وكل القادة لم تتوفر لهم معلومات من أي نوع". (نقلاً عن: المصري اليوم)

وهكذا دخل العرب مجتمعين
في طور النّكسة. أثّرت النّكسة على المنظّمة الفلسطينيّة وظهرت الخلافات في صفوفها ما أدّى إلى تقديم الشّقيري استقالته. وبعد أن كان الحديث يدور عن الـ 48 وحلّ مشكلة اللاّجئين وجد العرب أنفسهم متحدّثين عن الـ 67 وإزالة آثار العدوان و"لاءات الخرطوم"، وما إلى ذلك. كما انبرى كالعادة شعراء العرب واستلّوا ألسنتهم حتّى أصابت أرانب أنوفهم مكيلين الصّاع صاعين بالأشعار متباكين على حال العربان، وكان ما كان.

ومرّت الأيّام
وظهر عرفات في مقدّمة القيادة الفسطينيّة. منذ البداية كان عرفات يؤمن باستقلالية القرار الفلسطيني، وهو أمر لم تكن ترضاه زعامات الجوار العربي. ومنذ البداية كانت علاقات عرفات متوتّرة مع نظام البعث السوري، فقد زجّ هذا النّظام بعرفات ورفاقه في السّجن في العام 1966. إنّ قيادة عرفات النّزقة للنّضال الفلسطيني، إضافة إلى انعدام استراتيجيّة واضحة للنّضال الفلسطيني واستفراده بالقرار الفلسطيني دفعته ودفعت الفلسطينيّين في أماكن تواجدهم في دول الجوار إلى تصادمات، بدءًا بأيلول الأسود في الأردن، مرورًا بلبنان والحرب الأهليّة، وانتهاءً بدعمه لصدّام إبّان غزو الكويت، وهي أمور جلبت الكوارث على الفلسطينيّين الّذين كانوا في غنى عنها. ورغم كلّ هذه الكوارث بقي عرفات في رأس الهرم الفلسطيني إلى أن زجّ بالفلسطينيّين في نفق أوسلو، لإنقاذ قيادته، وإقامة السلطة الفلسطينيّة الّتي اتّسمت أكثر ما اتّسمت به بالشّكليّات، وفوق كلّ ذلك بالفساد الكبير، ما أدّى في نهاية المطاف إلى تذمّر فلسطيني واسع.

هكذا ظهرت حماس
فأعادت الفلسطينيّين إلى المربّع الأوّل. مرّة أخرى تعود القيادات الفلسطينيّة إلى ذات البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة الّتي تستعطف الجماهير العربيّة ناسية تجربة عقود طويلة وفاشلة على هذه التّجربة البلاغية. مرّة أخرى ترهن هذه القيادات مصير الفلسطينيّين وتضعه في أيدي أنظمة هي الأسوأ على جميع الأصعدة، إذ أنّه لا همّ لهذه الأنظمة سوى مصالحها الضّيّقة في البقاء في الحكم. وهي أنظمة على استعداد أن تحارب إسرائيل حتّى آخر فلسطيني، مثلما فعلت وتفعل في لبنان، من أجل هذه المصالح. التّناقضات الّتي تتحكّم في العالم العربي أكثر من أن تُحصى، ولذلك فإن الشّعب الفلسطيني الّذي عانى ما فيه الكفاية لا يستطيع أن يراهن على هذا العالم العربي لأنّه سيواجه الخيبة تلو الخيبة.

آن الأوان
لظهور قيادة فلسطينيّة حكيمة تعرف قراءة العالم من حولها، تتحدّث بصراحة إلى شعبها وتعرف الحديث بلغة العالم كي يتعاطف العالم مع قضيّتها. آن الأوان لطرح البلاغة والأساطير جانبًا، والدّخول في التّاريخ المعاصر. إنّ اللّغة الّتي يفهمها العالم اليوم هي دعوة العالم لدعم الفلسطينييّن لانهاء كامل للاحتلال الإسرائيلي، وقيام دولة فلسطينيّة كاملة السّيادة في الضفّة والقطاع بما فيها القدس الشرقيّة، واعتراف متبادل بين فلسطين وإسرائيل وإنهاء حالة الصّراع بدعم من العالم العربي والعالم أجمع. أمّا ما دون ذلك فسيجرّ الكوارث تلو الكوارث.

والعقل ولي التوفيق!

***
 إيلاف، 1 يناير 2009


‬الطفلة من‮ ‬غزّة


سلمان مصالحة ||


‬الطفلة من‮ ‬غزّة


الطّفلةُ‮ ‬من‮ ‬غزّة
تَبْني‮ ‬أَعْشاشًا‮ ‬
مِنْ‮ ‬ريشِ‮ ‬البَحْر‮. ‬
والواقفُ‮ ‬خَلْفَ‮ ‬السّورِ‮ ‬
يُخَبّئُ‮ ‬في‮ ‬عينيهِ‮ ‬قلادَةْ‬
منْ‮ ‬وَرَقِ‮ ‬التّذكارْ‮.


‬بَعْدَ‮ ‬مُرورِ‮ ‬الشّارِعِ‮ ‬تَحْتَ‮
‬الخُطُواتِ‮ ‬البَرّيَّةْ،‮ ‬
تَفقِسُ‮ ‬في‮ ‬الأَعْشاشِ‮
‬حَكايا،‮ ‬يَتَراكضُ‮ ‬أطفالٌ‮ ‬
داخلَ‮ ‬لَوْنِ‮ ‬العَصْر‮. ‬
يَلْتَقِطُونَ‮ ‬الصَوْتَ‮ ‬الخافِتَ‮ ‬
مِنْ‮ ‬رَمْلِ‮ ‬الصّحْراء‮.


عِنْدَ‮ ‬مَساءْ،‮ ‬يَنْفَرطُ‮ ‬العِقْدُ‮ ‬
من‮َ ‬العَيْنَينِ،‮ ‬يُبلّلُ‮
‬دَرْبَ‮ ‬البَحْر‮.‬
البَسْمَةُ‮
‬يُرْسلُها اللّيْلُ‮ ‬
إلى المَنْفَى‮. ‬
الشّاعِرُ‮ ‬
يَلْفظُ‮ ‬أَنْفاسَهْ‮.‬

---
*من مجموعة "ريش البحر"، منشورات زمان، القدس 1999


للترجمة العبرية، اضغط هنا.
للترجمة الإنكليزية، اضغط هنا.
للترجمة الفرنسية، اضغط هنا.
 
للترجمة الألمانية، اضغط هنا.

______

أهارون شبتاي | شيزوفرينيا الوطن


أهارون شبتاي


"شيزوفرينيا الوطن"



(قصائد)


ترجمة وتقديم

سلمان مصالحة



ولد أهارون شبتاي في تل-أبيب في العام 1939. درس التراث الإغريقي والفلسفة في الجامعة العبريّة وهو يعمل الآن مُدرّسًا للأدب العبري في جامعة تل-أبيب. ينتمي إلى جيل الشّعراء العبريّين الّذين ترعرعوا مع قيام دولة إسرئيل، ويُعدّ من أبرز مترجمي الدّراما الإغريقيّة إلى اللّغة العبريّة حيث يواصل مشروعه هذا منذ سنوات، وقد ترجم حتّى الآن 24 عملاً دراميًّا إغريقيًّا من الأصل الإغريقي إلى اللّغة العبريّة. له مؤلّفات شعريّة كثيرة حيث نشر منذ العام 1966 ستّ عشرة مجموعة شعريّة بالإضافة إلى مؤلّفات وكتابات أخرى.

كل الطيور تؤدي إلى روما


سلمان مصالحة || 

كلّ الطّيور تُؤَدّي إلى روما


كنت لا أزال طفلاً يافعًا في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ولم تكن تنقصني سذاجة من سذاجات تلك الأيّام الغابرة. آنذاك لم يخطر أبدًا على بالي العربيّة الغضّة طرفُ خيط أمسك به، أو فكرة تحملني على معرفة النّوايا الخفيّة لأسراب الطّيور الّتي كانت تحطّ في حقول الزّيتون لقرية المغار الجليليّة المطلّة على بحيرة طبريّة مع اقتراب موسم القطاف. عندما كانت غمامةٌ سوداء من الطّيور تعبر الأفق وتحطّ في الحقول مع نهايات الخريف، كان أهالي البلد يخرجون مهرولين حاملين كلّ ما تطاله أيديهم من أطباق معدنيّة، أو أغطية طناجر أو كلّ ما يمكّنهم من أن يعزفوا عليه لحن ضجيجهم، ليس فرحًا باستقبال الطّيور، بل عزمًا على طردها من الحقول المثمرة الّتي كانت تشكّل مصدر رزق أساسي معيلاً لهم. ولكن، ما أنْ كان الأهالي يصلون إلى الحقول في أطراف القرية حتّى كانت الطّيور، في هذا الوقت الضائع، تكونُ أفلحت بالفوز بما لذّ وطاب من هذا الثّمر الزّيتي. ثمّ ما تلبث أن تطير حاملة معها زادًا للطّريق.

كانت غمامةُ الطّيور تنسلخ عن ذرى أشجار الزّيتون، تتسلّق الهواء أعلى التلّة، تحوم في السّماء قليلاً ثمّ سرعان ما تختفي وراء الأفق. وهكذا، حَوْلاً بعد حول، موسمًا بعد موسم عادت الأسرابُ لعادتها القديمة، تناولت ما يسدّ رمقها وعادَ الأهالي هم أيضًا إلى صنوجهم وضجيجهم. بين فينة وأخرى كانوا يمهرون أصوات الصّنوج بفرقعات من جفت، وهو بندقيّة مزدوجة القصبات يستخدمونها عادة للصّيد، غير أنّها كثيرًا ما استُخدمت لأغراض أخرى غير ما أنيط بها، فكان لها دور وخيم العواقب في حال حصول مناوشات بين القبائل. في مواسم القطاف تلك، كنّا نحن الأطفال أيضًا نحظى بفرصة المحافظة على دورة الغذاء في الطّبيعة، وكثيرًا ما سددنا رمقنا من لحوم تلك الطّيور السّوداء الّتي كانت تقع فرائس سائغة في فوهات البنادق المزدوجة القصبات.

مواسم قطاف كثيرة مضت وانقضت ومعها أسراب كثيرة حطّت في الحقول وانسلخت عنها، حتى ترعرعتُ ووضعتُ نصب عينيّ فكرة الارتحال إلى القدس لمواصلة الدّراسة العليا والتزوُّد بزاد الحكمة من جامعتها العبريّة. ولكن، ومع اقتناء الحكمة طارت تلك السّذاجة إلى بقاع بعيدة ولـَمّا تَعُدْ أبدًا. وها أنذا، بعد سنوات غير قليلة، أجدني مُبحرًا مرّة تلو أخرى في رحلات بحث عن تلك السّذاجة، عن تلك الجنّة المفقودة.

أقول لنفسي مُبحرًا، ولكنْ من الصّعب على ساكن القدس استعمال تعبير مُعارٍ من عالَم البحار. القدس تبعد عن البحر المتوسّط ساعةً سَفَرًا، والإبحار منها لا يمكن أن يتأتّى إلاّ على أجنحة الإستعارة. ورغم ذلك، فالّذي يصرّ على الإبحار، فبوسع أوراق الكتب أن تكون له كما الأشرعة. روائح الأوراق المصفرّة في الكتب القديمة مثلها مثل الرّوائح الّتي تعلو من البحر، وفي كلّ تقليب صفحة منها تنشأ ريح. الكلمات أمواج بحر مترامي الأطراف، وكلّما قلّبت الصفحات أكثر فأكثر كلّما اشتدّت عليك الرّيح فتحملك إلى أصقاع نائية وعوالم ساحرة.

كم كانت كبيرةً دهشةُ مارك طوين الّذي جاء من أطراف العالم القصيّة في منتصف القرن التّاسع عشر وحلّ زائرًا حاجًّا في هذه المدينة. لقد جاء مارك طوين إلى هذه الأصقاع المشرقيّة وإلى هذه المدينة ودوّن كلّ مشاهداته في صفحات كتاب له نشره بعد عودته: "يبدو لي أنّ كلّ الأجناس، الألوان والألسنة الموجودة على وجه البسيطة قد وَجَدتْ تمثيلاً لها بين أربعة عشر ألف نسمة تعيش في القدس. الأسمال البالية، البؤس والفقر ... هي علامات شاهدة على حضور السّلطة الإسلاميّة فيها... الجُذْمُ، المجانينُ، العُميانُ وذوو العاهات الّذين تلتقي بهم في كلّ ركن منها يعرفون كلمةً واحدةً فحسب، بلغة واحدة فحسب، هي الكلمة الأبديّة: بقشيش. القدس مدينة حزينة، تثير الاكتئاب ولا روح فيها. ما كنتُ أرغبُ العيش هُنا"، لخّص مارك طوين حال هذه المدينة في ذلك الأوان.

غير أنّي، خلافًا لمارك طوين، أعيش هنا في مدينة القدس إيّاها منذ ثلاثة عقود. وها هو ليلٌ كئيبٌ حالك آخر يهبط الآن على المدينة. لكن، يبدو لي الآن أنّ هذه الحلكة الّتي تكتنف المدينة في بداية الألفيّة الثّالثة قد هبطت عليها من زمان آخر ومن عالَم آخر. فقد رُوي عن عبد اللّه عبّاس، ابن عمّ الرّسول العربيّ أنّه قال: "حليةُ بيت المقدس أُهبِطَتْ من الجَنّة، فأصابتها الرُّوم فانطلقتْ بها إلى مدينةٍ لهم يُقال لها روميّة، قالَ وكان الرّاكبُ يسيرُ بضوء ذلك الحليّ مسيرةَ خمس ليالٍ".

خمسَ ليالٍ بالتّمام والكمال يسير الرّاكبُ في روميّة، لا يعثر في طريقه، إذ يطرد بريق حليّ بيت المقدس الظّلام في البلاد الرّوميّة. وها أنذا أتساءل في هذا اللّيل المقدسيّ، كيف ذا يُروَى في القرن السّابع عن الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس إلى روما لتنشر فيها أنوارها مسافة خمس ليالٍ؟ فلا أملك الفرار من التّفكير في أنوار مقدسيّة أخرى. أليست هذه هي كلّها أصداء لروايات تناقلَ رجعُها في المشرق عن الجواهر والحليّ الّتي كانت في بيت المقدس في العام ٠٧ للميلاد وكانَ أنْ سلبتها الرّوم؟ وما هو هذا الضّوء الّذي ينفضُ الظّلام عن الرّاكب مسيرةَ خمس ليالٍ؟ أليس هو ضوء ذلك الشّمعدان الذّهب الّذي أُنير بالزّيت في هيكل سليمان، والّذي لا يزال نقشُهُ مخلّدًا على بوّابة طيطوس في روما؟

ألفان من الأعوام مرّا هُنا، وها أنا جالس الآن، على بعد سنوات ضوئيّة من تلك الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس لتضيء مدينة الرّوم. وها هو الخريف يهبط الآن مرّة أخرى، ويهبط معه موسم قطاف جديد، وموسم زيت جديد يطرق الباب. في ليل مقدسيّ أَحلكَ ممّا عهدنا منذ زمنٍ أوّلَ، أحاولُ أن أشقّ طريقي في ثنايا الماضي السّحيق. نعم الماضي، لأنّنا نحن في المشرق دائمًا نبحث عن الآتي في الماضي. نحنُ نفعل ذلك رُبّما لأنّنا نملك مواضيَ كثيرةً، بل رُبّما لأنّنا نملك من المواضي أكثر ممّا يحتاج له المرء على هذه الأرض. نعم، نحن في المشرق نخطو إلى الأمام غير أنّ عيوننا مثبتة في أقفية رؤوسنا. وهكذا نتعثّر، نقع ونقوم ثمّ نتعثّر ونقوم ونمضي دون أن نتوقّف للحظة ونفكّر في تحويل رؤوسنا وعيوننا إلى الأمام.

ها أنا أجلسُ في القدس وأبحر إلى أصقاع بعيدة باحثًا عن ذلك النّور المكنون والمسلوب. ربّما أفلح هذه المرّة، ربّما يحالفني الحظّ فأعيد ولو بصيصًا من ذلك النّور السّماويّ الّذي اختفى من ربوعنا وحطّ منذ ذلك الوقت في الشّاطئ الآخر من البحر المتوسّط.

كثيرون جابوا الآفاق راحلين بين المشرق والمغرب عَبْرَ التّاريخ، في أوقات الحرب وفي أوقات السّلام. ومثلما شدّ الشّرق أنظار أهل الغرب وسحرهم بعد أن وطأت أرجلهم هذه البلاد، اقتبسوا أنواره وحملوها إلى بلادهم (بخلاف مارك طوين طبعًا)، كذا وجد أهل المشارق الّذين حلّوا في الجانب الآخر من المتوسّط سحرًا كثيرًا.

في القرن التّاسع الميلادي يروي الوليد بن مسلم الدّمشقي، مولى بني أميّة، عن أحد التّجار الّذين أبحروا من المشرق بحثًا عمّن يتّجرون معه، فيروي على لسان التّاجر: "ركبنا البحر وألقتنا السّفينةُ إلى ساحل روميّة. فأرسلنا إليهم، إنّا إيّاكم أردنا، فأَرْسَلوا إلينا رسولاً فخرجنا معه نريدها. فَعَلَوْنا جبلاً في الطّريق فإذا بشيءٍ أَخْضَرَ كهيئة اللّجِّ، فَكَبَّرْنا. فقال الرّسول: لِمَ كَبَّرْتُم؟ قلنا: هذا البحرُ، ومن سبيلنا أن نُكبِّر إذا رأيناهُ". وها أنذا أحاولُ اقتفاء أثر هؤلاء التّجّار إلى الوراء، لعلّي أعرفُ كيف ذا من سبيل العرب أن يكبّروا إذا رأوا البحر، ومن أين جاء هذا التّكبير؟

قبل أن يجتمع أمرُ الشّام كلّه إلى معاوية بن أبي سفيان حدّثته نفسه في أن يغزو البحر، فكان كثيرًا ما يلحّ على الخليفة عمر بن الخطّاب في أن يأذن له في تجييش الجيوش وتسفين السّفن عامدًا إلى ركوب البحر وغزو الممالك البحريّة. وبينما كان معاوية في حمص كتب إلى الخليفة في شأن قبرص: "إنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباحَ كلاب قبرص وصياحَ دجاجهم". لم يشأ عمر بن الخطّاب أن يُعطي الأمر دون سماع آراء أخرى، "فكتب عمرُ إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه: هو خَلْقٌ كبير يركبه خَلْقٌ صغير، ليس إلاّ السّماء والماء، إن ركدَ فلقَ القلوبَ وإن تحرّكَ أزاغ العقولَ". بعد سماع هذا الوصف للبحر، أعاد الخليفة النّظر في أمر غزو البحر، "فكتب عمر إلى معاوية: والّذي بعث محمّدًا بالحقّ لا أحملُ فيه مسلمًا أبدًا، وقد بلغني أنّ بحر الشّام يُشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذنُ اللّهَ كلّ يوم وليلة في أن يُغرقَ الأرضَ، فكيف أحملُ الجنودَ على هذا الكافر"!

هذا الكافر؟ أقرأ الخبر فتحضرني صيحة أرخميدس، فأقول لنفسي: أويريكا أويريكا - وجدتها وجدتها. إذن، هو ذا الكفرُ البحريُّ ما يدعو العربَ إلى التّكبير إذ يقع نظرهم عليه، كما لو كانوا يغزون "الكفّار". فمن عادتهم أن يكبّروا ساعة بدء الغزو والسّلب. غير أنّ هؤلاء الّذين يروي عنهم الوليد بن مسلم الدّمشقي لم يأتوا إلى روما هنا غازين، بل جاؤوا تجّارًا ألقت بهم السّفينة على شاطئ روميّة. إلاّ أنّ التّكبير عادة متوارثة ولا بدّ من السّير على هديها. ولكن، عندما سمع رسول أهل روميّة ما أطلقه التّجّار من تكبيرات، وبعد أن سمع شرحًا وافيًا عن عاداتهم وتقاليدهم إذ يرون البحر، قهقهَ مليًّا وبعد أن هدأ قال: ليس ما ترون هو البحر، إنّما "هذه سقوفُ روميّة، وهي كُلّها مُرَصَّصَة".

عندما يذكر المؤلّفون العرب الرّوم فإنّما هم يقصدون في الواقع سواحل البحر الرّوميّ الشّمالية، أي البلاد والممالك النّصرانيّة الّتي على سواحله، إذ أنّ "أرض الرّوم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقلية... والرّوم كلّهم نصارى".

لكن، ليست سقوف روما فحسب هي ما سحر أهل المشرق حتّى حسبوها لجّة البحر فكبّروا ثلاثًا. حين دخل هؤلاء روما وجالوا في طرقاتها وأسواقها، قصورها وكنائسها وشاهدوا ما تحويه هذه المدينة من الفنون والتّصاوير عادوا ليقصّوا على سامعيهم ما رأته عيونهم، أو دوّنوا مشاهداتهم لتبقى لنا على مرّ الدّهر. فقد روي عن جُبير بن مطعم أنّه قال: "لولا أصواتُ أهل روميّة وضَجّهم لسمعَ النّاسُ صليلَ الشّمس حيثُ تطلع وحيث تغرب، وروميّة من عجائب الدّنيا بناءً وعظمًا وكثرة خلق". فها هي مدينة روميّة تنكشف أمامي وها هم أهلها الّذين تصفهم الرّوايات العربيّة بأنّهم "أهل صناعات وحكم وطبّ، وهم أحذقُ الأمّة بالتّصاوير، يُصوِّرُ مصوّرهم الإنسان حتّى لا يُغادرُ منه شيئًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يُصيِّره شابًّا وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يجعله جميلاً ثُمّ يجعله حلوًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يصيّره ضاحكًا وباكيًا. ثُمّ يفصلُ بين ضحك الشّامت وضحك الخَجِل، وبين المستغرق والمبتسمِ والمسرور، وضحك الهاذي".

مضت قرون طويلة منذ أن كبّر التّجّار المشارقة لمشاهدتهم سقوف روما. حقب من السّلام وحقب من الحروب مضت وانقضت حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم للحديث عن البحر المتوسّط بوصفه بحرًا تلتقي فيه الحضارات تقتبس الواحدة من الأخرى. غير أنّنا كلّما طرحنا هذا الموضوع وتدارسناه أكثر فأكثر، كلّما كشفنا عن حقيقة عميقة تستتر وراء هذه الكلمات والتّعابير الجميلة. إنّ الكلام المتزايد عن هذا الموضوع يكشف تلك الهوّة العميقة الّتي تفصل بين المشرق والمغرب، بين الشّمال والجنوب.

وهذا الشّرخ ليس جديدًا. يجب طرق أبواب الأسطورة ومحاولة سبر أعماقها وأغوارها للتّعرّف على العلاقات المتبادلة بين حضارات المتوسّط. الأسطورة العربيّة الّتي شاعت في القرون الوسطى تحدّثنا أنّه في الزّمان القديم، لم يكن هذا البحر الّذي نجلس حول شواطئه اليوم قائمًا أصلاً. لقد تكوّن هذا البحر نتيجة للصّراع بين الشّمال والجنوب. يروي لنا مؤلّف عربيّ في القرون الوسطى قائلاً: "قرأتُ في غير كتاب من أخبار مصر والمغرب، أنّه ملك بعد هلاك الفراعنة ملوك من بني دلوكة، منهم دركون بن مَلُوطِس وزَمِطْرَة، وكانا من ذوي الرأي والكيد والسّحر والقوّة. فأراد الرّوم مغالبتهم على أرضهم وانتزاع الملك منهم، فاحتالا أنْ فَتَقَا البحرَ المحيط من المغرب، وهو بحر الظّلمات، فغلب على كثير من البلدان العامرة والممالك العظيمة، وامتدّ إلى بلاد الشّام وبلاد الرّوم وصار حاجزًا بين الرّوم وبلاد مصر".

وهكذا، وبعد أن افترقت طريقا الشّمال والجنوب جغرافيًّا وصار البحر حاجزًا بينهما، افترقت على مرّ الدّهور عقائدهما ومفاهيمهما. البحر المتوسّط هذا الّذي يحجزُ بين الوجهين، صار يحجز الآن بين الفرد وبين القبيلة، بين حريّة الفرد في البلاد الديمقراطيّة وبين الاستبداد القبليّ الّذي لا يترك متنفّسًا للأفراد. وفي المكان الّذي يختفي فيه الفرد يختفي فيه التّنوُّع ويفارقه الجمال. لقد صار هذا البحر حاجزًا بين الأعناب والتّمور، بين الخمور وبين الدّثور، بين ما يجودُ مع مرور الوقت وبين التّمر الّذي يعيش الآن ولا يبقي معه أثرًا.

هذا الصّراع بين الشّمال والغرب وبين الجنوب والشّرق خلق في الماضي أسطورة عربيّة أخرى تُفسّر صمود الرّوم أمام أعدائهم. الرّوايات العربيّة تحكي لنا: "ومجلس الملك المعروف بالبلاط تكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبًا، والإيوان الّذي فيه مائة ذراع وخمسين ذراعًا مُلبّس كلّه ذهبًا، وقد مُثّل في هذه الكنيسة مثالُ كلّ نبيّ منذ آدم عليه السّلام إلى عيسى بن مريم عليه السّلام لا يشكّ النّاظر إليهم أنّّهم أحياء.... وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة بالذّهب على كلّ واحد منها صنم من نحاس مُفرّغ، في يد كلّ صنم جرسٌ مكتوب عليه ذكرُ أمّة من الأمم، وجميعها طلسمات. فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرّك ذلك الصّنم وحرّك الجرس الّذي في يده فيعلمون أنّ ملك تلك الأمّة يريدهم فيأخذون حذرهم". غير أنّ مملكة روما، بوصفها رمزًا للعالم الغربي، لم تكتف بالدّفاع عن نفسها بواسطة أصنام الإنذار المسبق هذه فحسب، بل خرجت لاحتلال واستغلال الجنوب والشّرق خلال قرون طويلة.

شهادة تكشف تعامل الغرب مع الشّرق وردت على لسان چرايمس الّذي يقتبسه مارك طوين: "لم أدع الفرصة تفوتني لخلق الإنطباع الشّديد لدى العرب، مُستعينًا بالأسلحة الأميركيّة والإنكليزيّة، من أجل أن يفهموا الخطر من وراء مهاجمة الفرنجة المسلّحين. وأعتقد أنّهم فهموا الدّرس". هل تغيّر شيءٌ من هذه النّظرة منذ ذلك الوقت؟

خريف 2003 يهبط على القدس، وها هو موسم قطاف الزّيتون على الأبواب. أقلب صفحة ثمّ صفحة بعد أخرى مُبحرًا على ظهر الكتب حتّى أكتشف أنْ ليس الحليّ والنّور فحسب حُملا إلى روما. الآن أكتشفُ أن حبّات الزّيتون من قرية المغار في أيّام السّذاجة الطّفوليّة البعيدة تلك قد حُمِلَتْ هي الأخرى إلى روما. ها هي الأسطورة العربيّة تجلو لي ما التبس عليّ في أيّام الطّفولة وتكشف لي نوايا العصافير الّتي حطّت في حقول الزّيتون وطارت محمّلة زادًا للطّريق: "وبين يدي الكنيسة صحنٌ يكون خمسة أميال في مثلها. في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعًا وهذا كلّه قطعة واحدة مفرّغة، وفوقه تمثال طائر يُقال له السّوداني من ذهب. على صدره نقشُ طلسم وفي منقاره مثال زيتونة، وفي كلّ واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوانُ الزّيتون لم يبقَ طائرٌ في الأرض إلاّ وأتى وفي منقاره زيتونة وفي كلّ واحدة من رجليه زيتونة، حتّى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيتُ أهل روميّة وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحنُ عليه أُمناء وحَفَظَة من قِبَل الملك، وأبوابه مختومة. فإذا امتلأ وذهبَ أوانُ الزّيتون اجتمع الأُمناءُ فعصروه. فيُعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزّيت، ويُجعلُ الباقي للقناديل الّتي للبِِيَع. وهذه القصّة، أعني قصّة السّوداني مشهورة، قلّما رأيت كتابًا تُذكر فيه عجائب الدّنيا إلاّ وقد ذُكرت فيه. وقد رُوي عن عمرو بن العاص أنّه قال: من عجائب الدّنيا شجرة بروميّة من نٌحاس عليها صورة سودانيّة في منقارها زيتونة فإذا كان أوانُ الزّيتون صَفَرَتْ فوقَ الشّجرة فيُوافي كُلُّ طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتّى يُلقي ذلك على تلك الشّجرة، فيعصر أهلُ روميّة ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحَوْل".

لم آت من المشرق إلى هذا المنتدى حول البحر المتوسّط، لكي أطالب بإعادة الزّيت والزّيتون والنّور إليّ. بوسع روما ومدن أخرى على السّواحل الشّمالية للبحر المتوسّط أن تمنح قليلاً من النّور الّذي يشعّ فيها، للمناطق الواقعة على سواحله الجنوبية والشرقية، تلك المناطق الّتي بقي الظّلامُ والجوع يخيّمان عليها قرونًا طويلة. وحين أقول تمنح، فلست أتكلّم بمصطلحات اقتصاديّة لشركات عالميّة عابرة للحدود في عصر العولمة الباحثة عن زيادة أرباح لها، إنّما أتحدّث بمصطلحات الرّوح والحريّة، الإزدهار والديمقراطيّة. بوسع أوروپا هذه، أن تقوم بدور إيجابيّ جدًّا في إحلال السّلام في الشّرق الأوسط الّذي ينزف دماءً منذ تهديم حدوده بصورة مصطنعة، وخلق كيانات سياسيّة لا تأخذ بالحسبان المصالح الإجتماعيّة، الإثنيّة والإنسانيّة لشعوب المنطقة. لقد فعل الإستعمار ذلك في الماضي من أجل مواصلة اللّعب بالخيوط كما يحلو له ابتغاء تحقيق مصالحه الّتي لا تتمشّى مع مصالح شعوب المنطقة. واليوم، يبدو أنّ أوروپا قد نفضت أيديها من هذه اللّعبة مُبقيةً هذه المهمّة للقطب الأوحد الّذي ظلّ في العالم. مسؤوليّة أخلاقيّة ملقاة على كاهل أوروپا فيما يتعلّق بالمنطقة، وعليها أن تقوم بها، لأنّ شعوب المنطقة بحاجة إلى أوروپا مثلما هي أوروپا بحاجة إلى شعوب المنطقة.

في الماضي البعيد تعاقد الغرب والشّرق على السّلام، وفي تلك الأثناء منح الغرب هداياه للشّرق. لكنّ تلك الهدايا كانت من نوع آخر، كانت تلك هدايا بقيت آثارها قرونًا طويلة من الزّمن: "ولمّا توادع قُباذُ وقيصر ملك الرّوم أهدى إليه قيصرُ هدايا كثيرة، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب، كانَ إذا كانَ وقتًا من اللّيل يُسْمَعُ لها تَرَنُّمٌ لا يَطنُّ على أُذن أحد إلاّ أَرْقَدَهُ".
يبدو لي أنّ هذا الرّقاد الّذي نزل على المشّرق لا يزال مخيّمًا عليه لا يستطيع منه فكاكًا. وها أنذا أقف أمامكم الآن هنا، في روما، ليس تمثالاً لجارية مغنّية، بل تمثال من نوع آخر، من لحم ودم. وحتّى لا تُنزل عليكم كلمتي هذه سباتًا طويلاً، فقد جلبت معي جرسًا وناقوسًا للحريّة، قبل أن تهبط محنة كبرى على رؤوسنا أجمعين.



***

هذا النّصّ مؤسّس على محاضرة في مؤتمر حول الهويّة المتوسطيّة والعولمة، والذي انعقد في روما في نوڤمبر 2003.

______
نشر في فصليّة "مشارف"، عدد 24، 2004
*
للصيغة العبريّة، اضغط هنا.مقالة مختصرة بالإيطاليّة، اضغط هنا.

لا نبيّ في وطنه


وبخلاف الفلسطيني اللاجئ الّذي يكتشف إنّه قد رسم صورة خيالية لوطن لا يعرفه، فإنّ الفلسطيني الباقي يكتشف على مرّ السنين أنّ البلاد هي الّتي لا تعرفه، هي التي تتنكّر إليه...

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!