وصف يوم ماطر

سلمان مصالحة || وصف يوم ماطر


الأبخرة الّتي أخذت تُغطّي زجاج
النّافذة المُطلّة على التلّة المقابلة، سترت تلك المشاهد الرّبيعيّة الّتي تعود إلينا في هذه الأيّام كسابق عهدها وديدبانها كلّ عام. القطّة السّياميّة تواصل المواء مع أنّ شباط قد انسلخ منذ ليالٍ معدودات، وتركني مع الدّودات الأرضيّة اللّواتي يواصلن محاولاتهنّ اليائسة لتسلّق أصيص أثبتّهُ في الشّرفة رحمةً بالچيرانيوم الّذي لم يحظ بوجبات كافية من الماء في الصّيف الفائت، وذلك درءًا للإسراف في تبذير هذا المورد الوطني والقومي. لقد فعلتُ ذلك لأنّي أيقنتُ في أحد تلك الأيّام من أيّام آب المُنصرم أنّنا بلا شكّ نجلس على تخوم الصّحراء، رغم أنّ البعض منّا قد يركنُ إلى طمأنينة بعد أن تعوّد عليها لكثرة الاستعمال في وسائل الإعلام. ألم تُشبعنا تلك الوسائل منذ أيّام السّلف الأوائل أنّنا، وحمدًا للّه على نعمته، محظوظون لوقوعنا في هذه البقعة الّتي شاع اسمها على الملأ "الخطّ الأخضر"؟



وهكذا، ولأنّنا ذهبنا
مع الذّاهبين الأوّلين من السّنين البوالي، دون أن تكون لدينا بصائر، وألقينا عصا التّرحال في هذه المدينة الّتي لا تلبث أن تتعرف فيها، على جلدك، على مزايا هذا الخطّ الفاصل بين الأخضر والأصفر. فالواقف على جبل سكوپس مُستقبلاً القبلة، وهي الحرم القدسيّ الشّريف، إذا التفت شمالاً يسرح نظره في تلك الهضاب الّتي تجرّدت من لباسها سوى من أديم الأرض الّذي امتلس مع آخر قطعة من نور الغروب كما لو كان غانية لعوبًا تستغيث الشّاعر الدّعوب. أمّا إن أملتَ برأسكَ نحو الغرب فإنّه لا شكّ سيقع نظرك على تلك المباني الشّاهقة الّتي أخذت تتسرّب في العقود الأخيرة إلى فضاء المدينة سادّةً على الرّائي خطّ الأفق. وكان هذا الأفق في الماضي غير البعيد قد علا رؤوس الجبال والتّلال في مغرب القدس. وهكذا تستعيد ذكريات من هنا وذكريات من هناك حينما كنتَ تعرّج على هذه التّلّة أو تصعد ذلك الجبل غير آبهٍ بالصّخور ولا بالعلّيق الّذي تعلّق بك مناشدًا إيّاك ألاّ تتركه لوحده. غير أنّ التّعرّجات هذه لم تعد سوى ذاكرة الآن. فها أنت تقفُ هناك معيدًا ذكرياتك الدّافئة وراء هذا الزّجاج الّذي وضعت هذه الطّبيعة الشّتويّة على صفحته غشاوةً فلا ترى ما يدور في الخارج عبرها، ولا يرى الخارجُ ما يدور في الدّاخل داخلك.

والآن، وبعد أن انقطع
التّيّار الكهربائي بقدرة قادر، أو قل لصعقة وقعت غير بعيد انفرطت على إثرها "سناسلُ" حجريّة طالما عملوا على نظمها في هذه المنحدرات اتّقاء لسقوط الدّواب في الحرث، وحفظًا للتّراب الّذي يُطلقون عليه تراب الأجداد. نعم، أليس أديم الأرض من هذه الأجساد الّتي ولّت ولم تترك لنا شيئًا سوى تلك الشّواهد الّتي تشهد حتّى الآن، تحت هذه الزّيتونة أو جنب ذلك الصّبّار عمّا جرى وصار؟ وحين ستهدأ هذه العواصف والزّعازع، ستُشعلُ سيچارتك الّتي لا تعرف رقمها، وستتقدّم نحو النّافذة الّتي ما زالت مُبهمة لا تبوح لك بالسرّ الّذي تُخبّئه لك في الخارج. وما أن تصل إليها وتمدّ يدك لتسمح ذلك البخار والغشاوة حتّى تعود حرارة النّور في الخيوط والمصابيح وكأنّ شيئًا لم يكن.

غير أنّ برودة الزّجاج
تتسلّل إلى أصابعك الّتي مسحت ببطء غشاوة النّافذة. تقترب من تلك الصّلعة الّتي انفرجت في غشاوة البخار فلا تُصدّق. كيف ذا بين ليلة وضحاها اختفت التّلال والهضاب، وكلّ ذلك بين ليلة وضحاها؟ كيف ذا يحصل والجميع نائمون راقدون مفرّخون تحت زوجاتهم. فهناك برز حيّ جديد، وإلى الشّرق كتلة كبيرة من الإسمنت، وشمالاً لم يبق شجرٌ ترتاح تحته في سفراتك الجبليّة وغيرها وغيرها. لم يعد هناك تراب، بل تحوّل كلّه إلى باطون مسلّح بأسلحة غير تقليديّة. تعود أدراجك إلى مكتبك هاذيًا في قرارة نفسك:
ألم أقل لكم من زمان، إنّه في "أوسلو" راحت القدس؟

***
هذا النص نشر في منتصف التسعينات من القرن الماضي.
***

"سبحان الذي أسرى"


سلمان مصالحة ||

"سبحان الذي أسرى"

لا شكّ أنّ حدث الإسراء  
كما ورد ذكره في الآية: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" والتي تفتتح السورة القرآنية التي سُمّيت به، هو أحد أهمّ الأحداث التي رافقت بدايات نشوء الدّعوة الإسلاميّة. كما أنّه يندرج في صلب التّصوّرات الّتي انبنت عليها هذه الدّعوة منذ البداية في جزيرة العرب. فمثلما كنّا أسلفنا من قبل، في معرض حديثنا عن القبلة والتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، والوقوف على أنّ هذا التوجّه نحو بيت المقدس كان بهدف استمالة قلوب اليهود، لأنّ محمّدًا كان يعتقد في قرارة نفسه أنّه هو النبيّ الأمّي - المسيح اليهودي المنتظر - الّذي يؤمن اليهود بأنّه سيعود في آخر الزّمان. يمكننا القول أيضًا، إنّ قصّة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس تندرج ضمن هذه المحاولات التي هدفت إلى التأكيد على هذه الرؤيا الإسلاميّة، وتشير إلى عمليّة البحث الحثيثة عن شرعيّة يهوديّة لدعوته، في الوقت الّذي رفض فيه اليهود القبول به بوصفه هذا "النبيّ الأمّي" التّوراتي، بحسب الرواية الإسلامية.

لقد جاءت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس بالذّات، التي هي "قبلة اليهود" كما أشار إليها محمّد نفسه، مثلما فصّلنا الحديث في هذه المسألة من قبل، للتأكيد على شرعيّة هذه الدعوة التي كانت ستضفيها عليها رحلة الإسراء إلى "قبلة اليهود" على وجه التّحديد.لقد نزلت سورة الإسراء بمكّة كما تذكر الروايات، كما أنّ اسمها الأصلي يعكس تلك التوجّهات الأوليّة، إذ يذكر المفسّرون بشأن هذه السّورة أنّ اسمها هو "سورة بني إسرائيل"، كما أنّها تُسمّى بأسماء أخرى: "تسمّى الإسراء وسبحان أيضًا" (روح المعاني للألوسي: ج 14، 238؛ أنظر أيضًا: تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير النسفي: ج 2، 277؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 181). ليس هذا فحسب، بل وكما تفيد الرّوايات فإنّه حتّى بعد أن خُتمت "سورة بني إسرائيل"، فقد نزلت بضع آيات في المدينة لها علاقة بالموضوع، وألصقت بهذه السّورة لتصبح جزءًا منها، ما يشير إلى عمق هذا التوجّه الإسلامي باستجداء الاعتراف اليهودي بنبوّة محمّد. حيث يذكر الرّواة بشأن الآية 76 من سورة الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}، أنّها نزلت بعد أن قال بعض اليهود للنّبي: "إنّ أرض الأنبياء أرض الشّام وإنّ هذه ليست بأرض الأنبياء"، أو كما ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا له: "إن كنت نبيا فالحَقْ بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". وتضيف الرّواية أنّ هذه الأقوال كانت السّبب من وراء غزوة تبوك لأنّ محمّدًا كان ينوي الوصول إلى الشّام جريًا وراء ما قالت له اليهود من أنّ الشّام هي أرض الأنبياء، فقد ذكرت الرّوايات: "فصدّق رسول الله صلعم ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة... فأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها محياك وفيها مماتك وفيها تبعث." (الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 320؛ أنظر أيضًا: تفسير الثعالبي: ج 2، 354؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 5، 69-70؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293).أمّا بشأن سورة بني إسرائيل - الإسراء - فيُروى عن ابن عبّاس أنّه قال: "إن التّوراة كلّها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثمّ تلا: ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر." (تفسير الطبري: ج 17، 590؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 287؛ روح المعاني للألوسي: ج 15، 2). وهذه الآية التي تلاها ابن عبّاس بحسب الرّواية، "{ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر}"، ليست سوى ترجمة من اللغة العبريّة لإحدى الوصايا العشر التّوراتية: "لا يَكُنْ لكَ إلهٌ آخرُ سِوَاي!" (سفر الخروج، فصل 20، 3). وعلى ما يبدو، فلم يكن ابن عبّاس ليصرّح بأنّ التّوراة كلّها في سورة الإسراء ثمّ يتلو هذه الآية لولا علمه ويقينه بأنّ هذه الدعوة الجديدة إنّما هي دعوة يهوديّة توراتيّة في الأساس.
 مهما يكن من أمر، فإنّ قصّة الإسراء تشير إلى تلك الرحلة التي اقتاد بها جبريل محمّدًا، بحسب الروايات الإسلاميّة، على ظهر تلك الدابّة الأسطوريّة المُجنّحة، البراق، من مكّة إلى بيت المقدس ومن ثمّ التّعريج به للسموات ولقاء الأنبياء السابقين، وإيحاء الله له بما أوحى له به. حتّى أنّ هذه الدّابّة الأسطوريّة، البراق، كما تفيد الرّواية الإسلاميّة هي دابّة سليمان بن داود: "كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر." (تفسير مقاتل: ج 2، 247)، وذلك من أجل إضفاء شرعيّة يهوديّة نبويّة عليها من خلال ركوبه على دابّة سليمان بن داود الّذي تنظر إليه الرّواية الإسلاميّة بوصفه نبيًّا بخلاف النّظرة اليهوديّة الّتي تراه ملكًا ليس إلاّ. يشار هنا إلى أنّ كون الدّابّة مُجنّحة يندرج أيضًا ضمن الخرافات الإسلاميّة التي تفيد بأنّ سليمان بن داود كانت له خيول مُجنّحة، قيل إصابها وقيل ورثها عن أبيه داود، وقيل أخرجت له من البحر: "عن عوف رضي الله عنه قال : بلغني أن الخيل التي عقر سليمان عليه السلام كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده." (الدر المنثور: ج 7، 177؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 21، 193؛ تفسير البغوي: ج 7، 88؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 386؛ تفسير القرطبي: ج 15، 193؛ تفسير الألوسي: ج 17، 331). 
قصّة الإسراء: يذكر مقاتل في تفسيره بشأن الإسراء: "أنّ النبى صلعم أصبح بمكة ليلة أسرى به من مكة، فقال لأم هانئ ابنة أبى طالب، وزوجها هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لقد رأيت الليلة عجبًا، قالت: وما ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: لقد صليت فى مصلاي هذا صلاة العشا، وصلاة الفجر، وصليت فيما بينهما فى بيت المقدس، فقالت: وكيف فعلت؟ قال: أتاني جبريل، عليه السلام، وقد أخذت مضجعى من الفراش قبل أن أنام، وأخذ بيدى وأخرجنى من الباب وميكائيل، عليه السلام، بالباب ومعه دابّة، فوق الحمار ودون البغل، ووجهها كوجه الإنسان، وخدها كخد الفرس، وعرفها كعرف الفرس... لها جناحان، ذنبها كذنب البقر، وحافرها كأظلاف البقر، خطوها عند منتهى بصرها، كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر، فحملاني عليها، ثم أخذا يزفان بي حتّى أتيت بيت المقدس، ومُثّل لي النبيون، فصلّيت بهم، ورأيت ورأيت..." (تفسير مقاتل: ج 2، 247-248؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 332-333؛ تفسير البغوي: ج 5، 55-62؛ تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير ابن كثير: ج 5، 5-7؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 182).

وعندما روى محمّد على مسامع قريش عن رحلته هذه حاولت قريش استجوابه حول أمور تتعلّق ببيت المقدس، لم يعرف الإجابة عليها فاغتمّ لذلك كثيرًا، حتّى مثّل اللّه له بيت المقدس أمامه فطفق محمّد يصفه لهم بالتّفصيل: "روى الصحيح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلعم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربتُ كربًا ما كربت مثله قط. قال فرفعه الله لي أنظرُ إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به." (تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 1، 57). 
وكالعادة، فيما يتعلّق بالأحداث الإسلاميّة، هنالك اختلاف حول حيثيّات الرّحلة كما تظهر في الرّوايات. فمن خلال النّظر في الرّوايات الإسلاميّة لا نستطيع الجزم بتاريخ الإسراء ولا الموقع الّذي انطلقت منه هذه الرّحلة الأسطوريّة ولا أين نزل وحلّ في الطّريق، إلى آخر هذه القضايا التي عادة ما تثير الكثير من الاختلافات.لقد شهدت الرّوايات على كلّ تلك الاختلافات في تاريخ ونقطة انطلاق الإسراء: "وقد اختُلف أيضًا في تاريخ الإسراء فروي أنّ ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ حول اختلاف الروايات بشأن تاريخ الإسراء، انظر تفسير البغوي: ج 1، 57؛ تفسير مقاتل: ج 2، 247؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير الألوسي: ج 10، 356-357). كما أنّ ثمّة روايات تذكر أنّ الإسراء حدث من بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب، وهنالك روايات تقول إنّ الإسراء قد حدث من المسجد الحرام (تفسير الطبري: ج 17، 331-332؛ أنظر أيضًا: الكشاف للزمخشري: ج 1، 673-674؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 429). وهنالك خلاف أيضًا حول ما إذا كان الإسراء قد تمّ بالجسد أم بالرّوح، أم بكليهما، وقد وقف القدماء على هذه القضايا الخلافية: "وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلعم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق... وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالرّوح." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 348-351؛ تفسير القرطبي:ج 10، 180؛ شرح البخاري لابن بطال: ج 20، 187؛ تفسير الرازي: ج 9، 494).ولا تتوقّف الاختلافات عند هذا الحدّ، بل تتعاظم بحسب الرّوايات حيث نشهد اختلافات فيما إذا كانت الرحلة مباشرة إلى بيت المقدس أمّ أنّه كانت له محطّات نزل فيها في الطّريق. فبينما الروايات القديمة تذكر الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس مباشرة، تأتي روايات لاحقة فتذكر محطّات أخرى يهوديّة ومسيحيّة على الطّريق، نزل فيها وصلّى بأمر من جبريل: "فأتاني جبريل عليه السّلام بدابّة... ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا... حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت... ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل، فنزلت. ثم قال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت... ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله." (تفسير ابن كثير: ج 5، 26؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 452؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 185-186؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 80-81).حتّى مسألة الصّلاة في المسجد لا يوجد إجماع عليها. فبينما تذكر الرّوايات دخول الرسول المسجد الأقصى والصّلاة فيه، إلاّ أنّ ثمّة من يرفض هذه الأقاويل استنادًا إلى القرآن ذاته، كما رُوي عن هزء حذيفة بن اليمان بمن يقول بدخول الرسول المسجد والصلاة فيه: "عن زر بن حبيش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلعم، وهو يقول: فانطلقنا حتى أتينا بيت المقدس. فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلعم ليلتئذ وصلّى فيه. قال: ما اسمُكَ يا أصْلَع، فإني أعرفُ وجهك ولا أدري ما اسمُك؟ قال: قلت: أنا زر بن حبيش. قال: فما علْمُك بأنّ رسول الله صلعم صلّى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآنُ يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن أفلح، اقرأ. قال: فقلت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، قال: يا أصلع، هل تجد "صلّى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلّى فيه رسول الله صلعم ليلتئذ. ولو صلّى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق. والله ما زايَلا البراقَ حتّى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادَا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه." (تفسير ابن كثير: ج 5، 21؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 349).وفي رواية أخرى يهزأ حذيفة أيضًا من الرّواية القائلة بأنّ الرسول ربط الدابّة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء. إذ عندما قيل لحذيفة إنّ الرسول ربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، قال حذيفة: "أوَكانَ يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها؟" (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 335؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 51، 58؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 35، 1؛ أخبار مكّة للفاكهاني: ج 3، 296؛ الردّ على الجهمية للدارمي: 62؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 11، 215؛ الإسراء والمعراج للألباني: ج 1، 63).***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى المسجد الأقصى وسنجيب على السؤال، ما هو هذا المسجد؟والعقل ولي التوفيق
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***

مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
 المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
 المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

مرگ بر ديكتاتور

سـلمان مصـالحة

مرگ بر ديكتاتور

أيًّا ما كانت النتائج
التي سيتمخّض عنها الوضع في إيران إثر الانتخابات الأخيرة والمظاهرات الشعبية المطالبة بإعادتها عقب دعاوى تزوير ملالي النّظام لها، فما من شكّ في أنّ أمرًا واحدًا قد ظهر جليًّا على الملأ وهو هذه الحيويّة الشّعبيّة التي تسم الإيرانيين، والتي لا يسع الفرد العربي إلاّ النّظر إليها مشدوهًا بنوع من الغيرة. العالم بأسره يشاهد كيف يقوم النّظام الإيراني بتقييد الصحافة ومنعها من إيصال الأحداث، غير أنّ الأجيال الإيرانية الشابّة المتمكّنة من تقنيّات الاتّصالات الحديثة التي تقدّمها الثورة التكنولوجية تتخطّى كلّ القيود وتوصل إلى العالم بالصوت والصورة كلّ ما يريد نظام الملالي إخفاءه عن أعين العالم.

لقد كنت كتبت في الماضي وقبل أكثر من ثلاث سنوات، وعلى وجه التّحديد في سپتمبر 2006، مقالة أشرت فيها إلى أنّ رياح التّغيير في هذا الشّرق لن تأتي من البلدان العربيّة وإنّما من إيران ومن الشّعب الإيراني بالذّات. كما نوّهت إلى تلك التوجّهات العنصرية العربية المقيتة الّتي تسم كتابات الكثيرين من العرب العاربة والمستعربة التي تنهل من روافد الجهل والجاهلية الجهلاء تجاه الآخرين وتجاه الشعب الإيراني على وجه الخصوص.

***

ليس دفاعًا عن إيران هذا الأوان

لا يشكّ أحد في أنّي أمقت
نظام الملالي الّذي أناخ بكلكله على صدور الشّعب الإيراني منذ عودة الخميني من منفاه الأوروپي. إنّ نظام الملالي هذا تمقته أيضًا الأجيال الإيرانية الشابّة. وبوسع المرء أن يستنتج ذلك من خلال التّقارير الّتي تُنشر عن أجواء وأهواء هذه الشّريحة الإيرانيّة الكبرى في صحف أجنبيّة كثيرة، مثلما قد يلاحظها المتتبّع للبلوچات الإيرانيّة على الإنترنت. لقد كنت كتبت في الماضي إلى أنّه لو قيّض لأن يحدث تحوّل جذري في هذه المنطقة، فما من شكّ في أنّ هذا التّحوّل سيأتي من إيران بالذّات. نعم من إيران، ليس من ملالي إيران بل من الأجيال الإيرانيّة الشّابّة الّتي ستُحدث ثورة حقيقيّة في هذه المنطقة. كما بوسعنا أن نقول إنّ تحوّلاً من هذا النّوع لا يمكن أن يأتي من البلدان العربيّة وذلك لطبيعة هذه المجتمعات القبليّة، ولعلّ في ما يجري في العراق، بعد أن جُدعت قبضة السّفّاح التّكريتي، خير شاهد على ذلك. وكذا هي الحال في سائر البلاد العربيّة الّتي تشكّل في حقيقة الأمر فيدراليّات قبليّة محكومة بالحديد والنّار، أكثر منها دولاً وشعوبًا حقيقيّة يجمعها وحدة هدف ووحدة مصير.



وفي الآونة الأخيرة،
ولأسباب سياسيّة وقبليّة، وفئويّة مذهبيّة في ظاهرها وفي باطنها، بدأت تظهر على السّطح في وسائل الإعلام العربيّة ظاهرة مقيتة تشهد على هذا الدّرك العنصري الّذي وصل إليه هؤلاء الكتبة من مدّعي القومويّة العربيّة. لا شكّ أنّ القرّاء قد بدؤوا يلاحظون تلك النّبرة الّتي تتحدّث عن الفرس وأطماعهم مستعيدين مقولات من غابر العصور عن مؤامرات الفرس والعجم الّتي تُحاك ضدّ العرب. طالما أشبَعَنا هؤلاء وأمثالهم في الماضي بشعارات أخوّة الشّعوب والدّيمقراطيّة وما إلى ذلك من كلام معسول، بينما ها هي اليوم كتاباتهم تنضح بمقولات لا يمكن أن ندرجها إلاّ في خانة العنصريّة العربيّة، تجاه الفرس حينًا وتجاه الأكراد حينًا آخر، إلى آخر قائمة البشر الّذين يعيشون في بلدان العربان أو حولها.

يجب أن نضع النّقاط
على الحروف المبهمات فنقول إنّ كلّ تلك الدّعاوى الّتي يشيعها هؤلاء إنّما هي نابعة من تلك العقيدة العنصريّة الّتي يترعرع العرب عليها وينهلونها من منابع ثقافتهم قديمة كانت هذه الثّقافة أم معاصرة. في الحقيقة لم يتحرّر العرب من هذه الدّعاوى العنصريّة في يوم من الأيّام. فقد تخبو هذه النّظرة ردحًا من الزّمن، ولأسباب عديدة ليس هنا المجال لطرحها، لكنّ هذه النّعرة سرعان ما تعلو وتثور من جديد مع كلّ أزمة وجوديّة يجد العرب أنفسهم فيها.

ألا يمكننا أن نقول إنّه لولا الفرس لما عرف العرب نحو وقواعد لغتهم هم، ولولا الفرس لما عرف العرب الفنون والعمارة والتّاريخ والعلوم. فها هو سيبويه في النّحو، وها هو الطبري في التّاريخ وفي تفسير القرآن، وها هو إبراهيم الموصلي في الموسيقى والغناء، وها هو الخوارزمي في الرّياضيّات والفلك، وها هما الفارابي وابن سينا في الفلسفة والعلوم، وها هو الرازي في الطب والكيمياء والفلسفة، وها هو البيروني وها هو الإصفهاني وبوسعنا أن نعدّد الأسماء تلو الأسماء مديدًا طويلاً. فلولا هؤلاء الفرس الّذين رفدوا الحضارة العربيّة بكلّ ما هو نافع ماكث في الأرض، كيف كانت ستكون أحوال هذه الحضارة الّتي يتبجّح بها هؤلاء العنصريّون الآن؟

والعنصريّون القومويّون العرب هم هم من تنضح كتاباتهم صبح مساء بتلك النّظرة العنصريّة تجاه سائر الإثنيّات الغير العربيّة الّتي تعيش في الفضاء العربي وفي الجوار العربي. كيف ينظر هؤلاء العنصريّون القومويّون إلى أكراد سورية، أو إلى أكراد العراق؟ يتشدّق هؤلاء بصلاح الدّين ناسين متناسين كونه كرديًّا وليس عربيًّا. وكيف ينظر هؤلاء إلى الأمازيغ في المغرب وقبائل شمال أفريقيا؟ ناهيك عن السُّمر في السّودان، وأهل دارفور؟ كذلك، انظروا ما آلت إليه حال الأقباط، وما أدراكم ما حالُ الأقباط؟

إنّ نطام الملالي زائل لا محالة،

لأنّ هذه هي سنّة التّاريخ. لن يستطيع نظام الملالي في إيران من مجاراة العصر رغم ما قد يبدو لأوّل وهلة. إنّ هذا النّظام قادم من عصور قديمة، وهو نظام عائد إلى عصور قديمة، ولذلك فإنّ كلّ توجّهاته هي توجّهات صِدامٍ مع الحضارة المعاصرة مع مستقبل البشر. إنّ زرع هذه الأيديولوجية الصّدَاميّة لدى الشّعب الإيراني هي الأفيون الّذي يخدّر به هؤلاء الملالي أهل هذه البقعة من الأرض. وهذه البقعة هي البقعة الّتي وضعَ الإسلامُ السّياسي (وفي الحقيقة لا يوجد إسلام غير سياسي) على عقول أهلها حجابًا حاجزًا يحجب عنهم حقائق هذا العالم، من أجل حملهم إلى العودة إلى الماضي المُتَخَيَّل. إنّ الحنين إلى ذلك الماضي الموهوم هو خير شاهد على العياء المعاصر، الحاضر في كلّ مجال من مجالات الحياة العربيّة؛ كما أنّه خير شاهد على انسداد الأفق الحضاري العربي للمستقبل المنظور. لهذا السّبب بدأنا نرى شيوع كلّ تلك التّعابير العنصريّة الّتي تنضح من كتابات بعض القومويّين الّذين آن الأوان إلى كشف عنصريّتهم البغيضة المتستّرة خلف شعاراتهم وبلاغتهم البليدة. إنّ هذه التّعابير والمقولات العنصريّة هي خير شاهد على بلادة ّهؤلاء وعلى عمق جهلهم. وعلى ما يبدو فإنّ طَبْعَ هؤلاء يغلب تَطَبُّعَهم، مهما تظاهروا بغير ذلك.
وعندما تكون الحال على هذا المنوال، فبئس المآل!


***


ولقد ذكرت أكثر من مرّة
أنّه ورغم كلّ ما يقال عن النظام الإيراني إلاّ أنّه يبقى والشعب الإيراني أكثر تعدّديّة وديمقراطيّة من جميع الأنظمة والشّعوب العربيّة كافّة. كما أشرت في أكثر من مناسبة إلى أنّ البلد الوحيد في هذه المنطقة الّذي قد تحدث فيه ثورة ديمقراطيّة حقيقيّة هو إيران بلا أدنى شكّ. إنّ الشّعب الإيراني المتحضّر والمنفتح على الحضارات بحاجة إلى دعم جميع المتنوّرين في هذا العالم، وهو بحاجة إلى دعم المتنوّرين العرب على وجه التّحديد، لأنّ الثّورة التّنويريّة الحقيقيّة في هذا الشّرق ستأتي من إيران بالذّات، بعد أن يطيح الشّعب الإيراني بنظام الملالي القابع في غياهب الماضي (إقرأ:
"لا فضل لعربي على أعجميّ إلاّ بالقهوة"). وها هي الجماهير الإيرانية قد خرجت إلى الشّوارع صارخة على الملأ: "مرگ بر ديكتاتور" (الموت للدكتاتور)، وذلك بخلاف الجماهير العربيّة التي تخرج فقط لتصرخ صرخة مختلفة، وهي صرخة أضحت ماركة مسجّلة عليها وباسمها، ألا وهي صرخة "بالرّوح بالدّم نفديك يا فلان"، كائنًا من كان على رأس قبائل العربان. ربّما كان هذا هو الفرق بين معدن الإيرانيوم ومعدن العربانيوم.

وأخيرًا، لا يسعنا سوى أن نقول نحن العرب أيضًا، لقد آن الأوان لأن نصرخ: "مرگ بر ديكتاتور"، لكلّ المستبدّين من العربان، كائنًا من كان ذلك المستبدّ، أكان رئيسًا يورّث الرئاسة لأبنائه من الولدان، أو كان ملكًا جاهلاً لا يعرف القراءة والكتابة ولا حتّى التّفوّه بجملة عربية سليمة في ممالك وأمارات وسلطنات جزيرة العربان، إلى آخر قائمة سلالات الكذب والبهتان.

والعقل ولي التوفيق.

***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!