الثلاثاء، 30 مارس 2010

ميكروكوسموس العرب


سـلمان مصـالحة

ميكروكوسموس العرب



لبنان هو ميكروكوسموس العرب.

نعم، هو عالم صغير يكشف حال عالم عربيّ كبير من حوله. فإذا ما رغب المرء في معرفة أحوال العرب، فما عليه إلاّ معرفة أحوال لبنان. وكما قالت العرب قديمًا، فإنّ البعير من البعرة، والبعرة من البعير.

التّناقضات العربيّة أكبر وأكثر من أن تُحصى. غير أنّ السؤال الكبير الّذي يقضّ مضاجع كلّ ذي بصر وبصيرة يتمحور حول مسألة الهويّة، وبكلمات أخرى: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟ وماذا يعني أن تكون مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، إلى آخر هذه الكيانات غير المحدّدة المعالم؟

وهذا الكيان السياسي الذي يسمّى لبنان هو ميكروكوسموس العرب في مسألة الهويّة هذه. إنّ مصيبة لبنان ليست تقتصر على أنّه كيان مصطنع، فكلّ الكيانات والدّول في العالم بعامّة، وفي هذا العالم العربي بخاصّة، هي كيانات مصطنعة. لقد رسم الاستعمار حدود بلدان هذه المنطقة، بل وأنشأ لها جامعة عربيّة ورسم لها أعلامًا ورايات خفّاقة يتغنّى بها العرب. إنّ مصيبة لبنان هي في الحقيقة مصيبة كلّ كيانات العربان ذات كلّ هذه الطوائف والإثنيّات المتعدّدة. إنّها الكيانات الّتي، رغم مرور عقود على إنشائها، لم تصل بعد إلى سنّ الرّشد من النّاحية المدنيّة. وبدل بلوغ سنّ الرّشد المدنيّ فقد استطالت سنّ مراهقتها القبليّة والطائفيّة حتّى شاخت، فتحوّلت إلى مهزلة عصريّة في نظر العالم أوّلاً وقبل كلّ شيء. والخطير في الأمر أنّها أضحت مهزلة في نظر شرائح عربيّة واسعة وأجيال عربيّة شابّة وبالغة. لقد فقدت كلّ هذه الشّرائح العربيّة الأمل في إمكانيّة بناء كيانات عابرة للطوائف والقبائل والإثنيّات، عابرة لكلّ هذه التّشكيلات المجتمعيّة التي تنخر جسدها صباح مساء.

لقد كنت أشرت مرّة إلى مسألة لغويّة ذات دلالة كبرى بخصوص لبنان، فهذا البلد ورغم صغر مساحته وعدد سكّانه القليل، فإنّ قارئ الصحافة اللبنانيّة يُصدم عندما يقرأ تعابير مثل: "الرئيس سليمان"، و"الرئيس الحريري" و"الرئيس بري". فكم رئيسًا يوجد لهذا البلد؟ إنّ التأكيد على هذه الصفة-المنصب في الخطاب العام هو خير مثال على هذا التّفتّت والتّذرّر. لا يوجد بلد في العالم برأسين، فكم بالحري بثلاثة رؤوس. فحتّى في الطبيعة، عندما يولد مولود برأسين أو ثلاثة فهو لا يعيش طويلاً، بل سرعان ما يموت، إذ تقوم الطبيعة بتصحيح هذا الخلل الطارئ عليها. ومثلما هي الحال في الطبيعة، كذا هي الحال في الطبيعة السياسيّة. فإمّا بلد برأس واحد وإمّا هو وليد مسخ مصيره الهلاك والزّوال.

غير أنّ النّظام السّياسي الّذي انبنى عليه هذا البلد، منذ نشأته مع رحيل الاستعمار، كان نظامًا طائفيًّا يأخذ بالحسبان هذه التركيبة الغريبة العجيبة الّتي لا تأتلف بقدر ما تختلف. لم يستطع، أو لم يرغب زعماء طوائف وقبائل هذا البلد الخروج من قفصهم الطائفي، ولم يبنوا هويّة مدنيّة واحدة جامعة لأبنائه. وبعد أن تغيّرت الموازين الديمغرافيّة فيه مع مرّ الزّمن صارت الطريق سالكة إلى حروب أهليّة، هي طائفيّة في الأساس، رغم الشعارات الكاذبة الأخرى.

وحال لبنان هذه هي حال هذا المشرق العربي. إنّها حال العراق المتعدّد الطوائف والإثنيّات. إنّها حال سورية كذلك. إنّها حال كلّ هذه الدول التي خلقها الاستعمار ورسم لها هويّات مشوّهة. لقد لعب ما يسمّى "اليسار العربي"، أو ما يسمّى "التيّار القومي" دورًا هامًّا في فقدان الأمل لدى هذه المجتمعات لأنّ هذه التيّارات تعاونت مع هذه الأنظمة القبليّة الطائفيّة المستبدّة، ولم تطرح بديلاً مدنيًّا لها. فدائمًا كانت شعارات البعث القوميّة، في العراق وسورية، وشعارات التيّارات المتعاونة معها ومع مثيلاتها في بلدان هذه المنطقة شعارات كاذبة تتستّر خلفها الأنظمة القبليّة الطائفيّة الاستبداديّة، وهي الأنظمة التي لا تختلف عن أنظمة السّلطنات والممالك التّوريثيّة الأخرى. وهكذا، وبدل استبدال الهوية القبليّة الطائفيّة بهويّة مدنيّة جامعة لأفراد المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، تجذّرت الطائفيّة والقبليّة في هذه المجتمعات.

ولمّا كانت هذه هي الحال الرّاهنة في هذا العالم العربي، ولمّا كان الحكم للطائفة والقبيلة عسفًا واستبدادًا وقتلاً وسحلاً، فإنّ كلّ من ينتمي إلى قبيلة وطائفة غير قبيلة وطائفة الحاكم فإنّه لا يشعر بأيّ انتماء إلى أيّ من هذه الأنظمة الحاكمة. وهكذا أضحت جميع هذه الأنظمة أكثر شبهًا بأنظمة أجنبيّة هي الأخرى، وصارت غالبيّة المجتمعات مهمّشة ومُهشّمة.

لهذا السّبب، ليس من الغريب أن تنهار جيوش هذه الأنظمة بسرعة في المعارك. إنّها تنهار بسرعة لأنّها جيوش لا تنبني على الانتماء للوطن والأرض، بل هي تنبني على الانتماء للنّظام القبلي الطائفي. لذلك، فعندما تشتمّ هذه الجيوش رائحة سقوط النّظام، فهي سرعان ما تنهار فيخلع كلّ فرد فيها بزّته ويذهب فارًّا نحو قبيلته، طائفته وربعه. هذا ما جرى في العراق، وهذا هو مصير جيوش كلّ هذا النّوع من الأنظمة القبليّة الطائفيّة.

وخلاصة القول، لا يمكن أن تكون عربيًّا وطائفيًّا في الآن ذاته. ليس بمعنى عدم الانتماء، فالأفراد ينتمون بالطبع إلى قبيلة أو طائفة، لكنّ المقصود هو أن تبقى هذه الانتماءات خارج المؤسّسة المدنيّة الجامعة التي هي الدّولة. كما لا يمكن أن تكون عربيًّا ومسلمًا في الآن ذاته، وعلى وجه الخصوص في البلدان المتعدّدة الطوائف والديانات، لأنّ "العربيّة" كهويّة ثقافيّة سابقة للإسلام وغيره من الديانات وجامعة حضاريّة لهذه المجتمعات على اختلاف مللها وأهوائها. من هنا، لا يمكن أن تنبني دول عصريّة ومدنيّة إلاّ خارج هذه الانتماءات التي تُفرّق أكثر ممّا تجمع. كما لا يمكن أن تنبني دولة مدنيّة وعصريّة إلاّ بفصل الدّين وكلّ هذه الانتماءات عن الدولة التي يجب أن تكون دولة مدنيّة، ليس إلاّ.

ما لم يتمّ ذلك، فلن تقوم قائمة لهذه المجتمعات، بل ستبقى هائمة على وجهها، في هذا الفضاء المتصحّر اجتماعيًّا، سياسيًّا وثقافيًّا، تنتقل مع كلّ هذه التّناقضات من حال إلى حال ككثبان الرّمال.

والعقل ولي التوفيق.

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع