الخميس، 26 فبراير 2015

كلام في وداع صديق مغترب




سلمان مصالحة ||

كلام في وداع صديق مغترب



كعادتي هذا الصباح، كما في الصباحات الأخرى، وبعد الفراغ من قراءة الصحيفة الورقية العبرية في هذا البلد الفصامي دلفت إلى الحاسوب لتتبّع ما تنشره بعض الصحف العربية في هذا الفضاء الكبير. لقد وقع نظري على مقالة حملت عنوانًا غريبًا بعض الشيء هذه المرّة. كان في العنوان شيء من الحميمية، غير أنّه كان بمثابة طرف الخيط الذي شددته فاختلطت عليّ كلّ هذه الشبكة من الهواجس ولم أفلح في حلّ خيوطها وتتبّع تشعّباتها.


ليس من عادة الكاتب حازم صاغية أن يضع عنوانًا كهذا لمقالته. وما أن وقع نظري على العنوان الذي حمل الاسم حتّى أخذ الفأر يلعب في العبّ. عندما يحمل العنوان اسمًا لشخص فإنّ شيئًا ما قد حصل. كم وددت أن يُخطئ حدسي! ولكن سدى. وهكذا طفقت الأفكار تتشتّت بين الشرق والغرب، بين القدس وباريس. نعم، هناك في باريس وقبل سنوات كان اللّقاء الأوّل، ثمّ كانت لقاءات أخرى ومكالمات هاتفية ورسائل متبادلة تستفسر عن الأحوال وعن طول غياب.

من أين أبدأ هذا الكلام؟ ليس من السهل الإمساك بخيوط هذه الهواجس الداهمة في هذا الصباح هنا على تخوم الصحراء. فكلّما حاولت الإمساك بطرف خيط ومحاولة شدّه واقتفاء أثره في هذه الشبكة كلّما ازدادت تعقيداتها واشتباكاتها. هل أقول إنّه لبنان؟ قد يكون هذا القول صحيحًا لكنّه ليس كافيًا وافيًا. هل أقول إنّه الشام؟ وهذا أيضًا ليس وافيًا وكافيًا. إذن، هل هو المشرق العربي؟


وهل كلّ هذه التساؤلات التي تعلو وتتحلّق كحلقات دخان السيجارة في فضاء الغرفة في هذه البقعة من المشرق هي تساؤلاتك أنت بحثًا عن الذات، أم هي تساؤلات عن ذلك المشرق القاطن في الغرب، الحائر في الغربة.
لقاء في باريس

لقد كانت اللقاءات مع سائر الأصدقاء المغتربين عن أوطانهم، مكرهين لا أبطالاً، فرصة لجسّ نبض تلك الأوطان التي تلفظ الأنبياء وتلقي بهم على قارعة المقاهي في ذلك الغرب الفسيح. لقد كان بشير هلال واحدًا من هؤلاء الذين حملوا أوطانهم على أكتافهم وأنبتوها على ألسنتهم فأينعت كلامًا حزينًا وعميقًا. كم كُنت أرى ذلك الحزن الذي طالما حاول أن يخفيه خلف ستار كثيف من دماثة الأخلاق وبشاشة الوجه. لقد كان بشير يقطن في الغرب جسديًّا غير أنّه، ككثيرين من زملائه، كان يعيش في المشرق العربي حيثما سار بكلّ جوارحه. ولعلّ في هذه الرسالة التي أرسلها إليّ قبل سنوات ولا زلت أحتفظ بها ما يشي بعمق هذه الآصرة الوجدانية التي كانت تربطه بهذا المشرق الغارق في الظلمة.
*



”عزيزي سلمان

سلام على من جعل العقل منارته والحكمة دواته والتنوير يراعه

أخي العزيز،

حالنا كحال الذي يتنقل بين حلكة وظلمة وديجور. كأننا من فرط ملاحقتنا السراب غدونا ظله وشبحه نعيش كما لو كنا في قافلة ليس لها من راع ولا وجهة ولا قرار. وكأنما لم نعد نعرف حياة غيرها.

لا أعرف إذا كان يجب أن ننسى أو نتذكر. ولكني بكل بساطة أشعر أنه من الظلم الشديد أن يولد المرء لبنانيا أو فلسطينيا أو عربيا أو عبرانيا أو شرق أوسطيا أو ما شئنا في هذه الصحراء التي تحترق هوامشها الخضراء وحواضرها التي كنا نظن لبعض الوقت أنه بمستطاعها الانفكاك عن بداوة تقيم في أثنائها وتحاصرها .

أيها الصديق العزيز،
أود بمقابل هذه المشاعر الكئيبة الماكثة في النفس أن أعلن حبوري بقدومك الى باريس في نهاية نيسان.

أنا كما أسلفت لم أتفرنس في فاكانس أو سواه.

أنا واثق أنك ستحمل معك بعض الشمس أيضا.

بالانتظار

بشير” (6 مارس 2008)

*
هل كانت هذه الشمس التي يحلم بها هاجسًا يقضّ مضجعه في بلاد غربته؟ إنّه هناك، في باريس، يحلمُ بالشمس. غير أنّ نورها الذي كان يبحث عنه في المشرق كان يقلقه أيضًا. إذ أنّ الشمس في المشرق قد تُبشّر بمخاطر أخرى، مخاطر الحروب التي لها أوّل وليس لها آخر. الحروب هنا، كما تعوّدنا عليها، تنشب في الصيف، وليس في الشتاء. لهذا كان بشير قلقًا أيضًا من صيف هذا المشرق.
*



”عزيزي سلمان،

الشمس هنا مُقتّرة كأنها تخبىء إشعاعها في الأيام البيض لأيام سوداء. فيشعر القادمون من شمس قوية الحضور بيتمٍ طالما اعتقدوا أنهم لن يصادفوه باكرًا.

كان لنا أن لا نحزن لذلك لولا أننا نستقبل صيفًا لا ندري ما نفعله به وله وعنه.

كان الصيف سيبدو جميلا على تلال قرنايل وصنوبرها وبين كلام أهلها.
لكنّ لبنان، كما منطقتنا بأسرها، لا يقدم الا الاستعصاء تلو الاستعصاء. استعصاء السلام والدعة والهناء حتى لو كان مؤقتا. بشير“ (21 يونيو 2008)


*
وبعد،
ماذا أقول لربعه، أصدقائه ومحبّيه؟
ليس فقط أنّه لم يتفرنس ولم يتفكنس، بل ظلّ وفيًّا لروحه، لمشاريعه الثقافية والسياسية التي لم تتحقّق، لقد ظلّ وفيًّا لأحلامه الكبرى التي كانت مفتوحة على مصاريعها بانتظار النور الذي سيبزغ من المشرق على أهل المشرق لينتشلهم من هذه الظلمة التي طال أمدها.

مع بداية الهبّات والانتفاضات الشعبية في غير مكان من العالم العربي، كان متفائلاً بعض الشيء. لقد ظنّ بأنّ شيئًا ما جديدًا سيحلّ في هذه الربوع. غير أنّ السنين تمرّ والأجساد تخرّ بينما النّور لم يبزغ بعد في هذه البقعة من الأرض.

وها هو قد رحل عنّا الآن حاملاً على أكتافه أحلامه المتألّقة وأوطانه المتمزّقة.
كم كنت أودّ، قبل أن ترحل عنّا أيّها الصديق، أن أحمل لك شيئًا من هذه الشّمس، بصيصًا من نور يخرج من تخوم هذه الصحراء ليحطّ في مدينة الأضواء.

فماذا أقول؟
هل أقول لك: أنتم السابقون ونحن اللاحقون؟ أم أقول لك وأنت العارف أيضًا: أنت السابق وأنا التالي.
لكن، مهما يكن من أمر هذه الرحلة الأبدية بحثًا عن النّور خلف سدول هذا الديجور المحدق بنا، سيبقى العقل أبدًا وليّ التوفيق.
فَقِرَّ عَيْنًا وَسُرَّ بَيْنًا.
*
نشر أيضًا: شفاف الشرق الأوسط
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع