الأربعاء، 23 مايو 2012

حماس في خدمة إسرائيل


في المستقبل المنظور، ولسنوات طويلة قادمة، سيغرق العالم العربي، كلّ قطر على حدة، في قضاياه الداخلية الملحّة. الأجيال العربيّة الشابّة الخارجة من رحم عولمة المعلومات لن تقبل بعد الآن إغراقها بشعارات رنّانة عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة...

سلمان مصالحة || 

حماس في خدمة إسرائيل


يلاحظ الجميع هذا الهدوء
الذي يسود منذ شهور الحدود بين قطاع غزّة وإسرائيل. قبل أسابيع نشرت الصحافة العبرية في إسرائيل تقريرًا يُفيد بأنّ حكومة حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزّة قد شكّلت وحدة خاصّة وظيفتها حماية الحدود مع إسرائيل ومنع أي تجاوزات وخرق للهدوء من قبل فصائل إسلامية أخرى موجودة في الساحة.

لا شكّ أنّ الجميع أيضًا يتذكّرون كيف كانت قيادات حماس هذه ذاتها، قبل سنوات، تتّهم السلطة الفلسطينيّة بالتعاون مع الاحتلال وخدمة الاحتلال عندما كانت آنئذ السلطة الفلسطينيّة تحاول ضبط الحالة الأمنية على الحدود مع إسرائيل. فها هي حكومة حماس التي تحكم غزّة تفعل الشيء ذاته الآن، وربّما بصرامة أكبر. ولا يسع المرء والحال هذه سوى أن يقول باللهجة العامية الفلسطينية: ”سبحان اللّي بغيّر ما بتغيّر“.

فهل خانت حماس الآن القضيّة الفلسطينيّة؟
والإجابة على ذلك هي بالنّفي طبعًا. وذات الأمر ينطبق أيضًا على ما كانت تفعله حركة حماس من تخوين للسلطة الفلسطينية وحركة فتح قبلئذ. إنّ شعارات التخوين لا مكان لها عندما يدور الحديث عن رؤى مختلفة تهدف إلى إنجاز مصلحة فلسطينية عامّة. لقد كانت كلّ شعارات التخوين في الماضي تُطلق جزافًا لدغدغة العواطف، وذلك لأغراض سياسيّة بحتة هدفها الوصول إلى السّلطة، ليس إلاّ. فها هي حماس وصلت للسلطة في غزّة، وها هي تسير على تلك الخطى. إنّ المأساة الفلسطينيّة هي أنّ هذا الشّعب المنكوب لم يفلح حتّى الآن في إفراز قيادات مسؤولة تملك جرأة المصارحة وتفهم عمق المأزق الفلسطيني في هذا العالم من حولها وتعرف استنادًا لذلك التعامل مع هذا العالم.

الغالبية العظمى من الفلسطينيّين في المناطق المحتلة تعرف أنّ السلطة الفلسطينيّة التي خرجت من رحم اتفاقات أوسلو قد جلبت معها كلّ فساد أنظمة العالم العربي إلى فلسطين. نعم، جلبت فساد تلك الأنظمة المستبدّة والمفسدة في الأرض والتي انتفض عليها العرب أخيرًا في ما يسمّى ”الربيع العربي“.

لقد كُتب ونُشر من قبل الكثير عن قضايا الفساد السلطوي الفلسطيني، وكتب الكثير عن سرقات الأموال التي قُدّمت من الدول المانحة للشعب الفلسطيني. ولكن، ورغم كلّ ذلك لم نسمع شيئًا عمّا آلت إليه كلّ ملفّات الفساد تلك، ولم نسمع أنّ أحدًا ما أعاد تلك الأموال المنهوبة.

ولماذا أقول إنّ حكومة حماس
تخدم إسرائيل؟ والإجابة على السؤال في غاية البساطة. عندما قرّر شارون تفكيك المستوطنات الإسرائيلية والانسحاب من قطاع غزّة، لم يكن ذلك القرار قد جاء فقط لمجرّد التكلفة الباهضة التي تدفعها إسرائيل في مواصلة احتلال القطاع. لقد كانت التكلفة جزءًا واحدًا من الصورة، غير أنّ الأجزاء الأخرى والأهمّ هي ما تبع ذلك، وما هو قائم الآن على أرض الواقع.

ليس صدفة أنّ شارون لم يرتّب الانسحاب من غزّة مع السلطة الفلسطينية. لقد انسحب شارون من غزّة لكي يفسح المجال لحركة حماس بالاستيلاء على القطاع، فيصيب بذلك عصفورين بحجر واحد. فمن جهة يضعف السلطة الفلسطينيّة، ومن جهة ثانية يقسم الأرض الفلسطينية الموعودة للدولة الفلسطينية إلى شطرين لا رابط سياسيًّا وجغرافيًّا بينهما. بعدئذ يفسح المجال أمام إسرائيل لتركيز وتعميق الاستيطان في القدس والضفة الغربية.

وهكذا، ومنذ استيلاء حماس على القطاع وترسُّخ هذا الانقسام، فلا يوجد من يتحدّث باسم فلسطين والقضية الفلسطينية. هكذا وقع الفلسطينيوّن مرّة أخرى في الشباك الذي نُصب لهم، فلا هنيّة يستطيع الحديث باسم فلسطين والفلسطينيّين ولا أبو مازن يستطيع الحديث باسمها وباسمهم. من هذا المنطلق، فإنّ استمرار الانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني هو أكبر هديّة تقدّمها القيادات الفلسطينيّة المتشرذمة للسياسة الإسرائيليّة.

في الماضي، ربّما صدّق الفلسطينيّون
المنكوبون أنّ فلسطين هي قضيّة العرب الأولى، كما درجت عليه أبواق الأنظمة الفاسدة وكما درج من والاها من إعلاميين ومثقّفين على دغدغة مشاعر العرب المنكوبين بهذه الأنظمة وهذه الثقافة. لقد استغلّت الأنظمة الفاسدة والمستبدّة اسم فلسطين لمواصلة النهب والتسلّط والاستبداد واستعباد العباد، ليس إلاّ. والنّظام السياسي الفلسطيني كان لا يختلف كثيرًا عن هذه الأنظمة وعن هذه المحسوبيّات، فقد انبنى أصلاً على مقاسها وسار على منوالها.

لقد نسيت القيادات الفلسطينيّة أنّ العالم العربي، زعامات وشعوبًا، مشغول في الحقيقة بأمور داخلية أخرى. كذلك فإنّ العالم بأسره مشغول بقضايا عالمية أخرى إضافة إلى القضيّة الفلسطينية. بل ربّما تكون تلك القضايا أكثر أهميّة بنظر العالم من قضيّة فلسطين هذه. فها هي القضايا الأخرى، أحوال الانتفاضات العربية، والمسألة النووية الإيرانية، وغيرها الكثير تأخذ مركز الصدارة العالمية بينما تهبط المسألة الفلسطينية إلى درجات سفلى في سلّم الأولويّات. ليس هذا فحسب، بل قد تطرأ أحداث كبرى أخرى تصرف النّظر كلّيًّا عمّا يجري في فلسطين.

في المستقبل المنظور،
ولسنوات طويلة قادمة، سيغرق العالم العربي، كلّ قطر على حدة، في قضاياه الداخلية الملحّة. الأجيال العربيّة الشابّة الخارجة من رحم عولمة المعلومات لن تقبل بعد الآن إغراقها بشعارات رنّانة عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة، وما إلى ذلك من بلاغة بليدة لم تُطعم في يوم من الأيّام جائعًا، ولم تردّ إلى أهله ضائعًا. الأجيال العربية الجديدة تريد أماكن عمل، تريد عيشًا كريمًا، تريد حرّية التعبير والتفكير وتنشد العلم والفنّ والإبداع. لا تريد البقاء في حالة الضياع التي فرضتها سنوات طويلة أنظمة عربية سائدة خرجت من قرون عربية بائدة.

وخلاصة القول، لقد حوّلت سلطة حماس في غزّة من جهة وسلطة فتح في رام الله من الجهة الأخرى القضيّة الفلسطينية إلى مهزلة أمام العالم. فباستمرار الوضع على ما هو عليه، لا يوجد من يتحدّث باسم فلسطين أمام العالم. وهكذا يمكن القول إنّ هاتين السّلطتين، كلّ منهما على حدة والاثنتين معًا، تخدمان موضوعيًّا السياسات الإسرائيلية المتعاقبة. لهذا السبب، لقد آن الأوان لأن يقول الشعب الفلسطيني المنكوب لكلّ هذه الزعامات: كفى! إذ أنّ هذه الزعامات الفلسطينيّة قد أضحت هي نفسها نكبة جديدة مسلّطة على رقاب الفلسطينيّن. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 23 مايو 2012
----
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف23/5/12 10:37

    الرئيس محمود عباس يتحدث دوما باسم كل الفلسطينين و يمثل الشعب الفلسطيني في كل المحافل العربية و الدولية... لماذا تشبه هنيه بالرئيس أبو مازن و ليس كما كتبت أبو مازن و كأنه صديقك، أكتب عن الحق مش بس عبارات و كلام فاضي!!!!

    ردحذف
  2. غير معرف10/6/12 09:02

    كن منصفا اخي السلطة وقعت في اخطاء كثيرة على طريق بناء المؤسسات و هذا طبيعي في بداية بناء اي دولة المهم ان يتم تصحيح الاخطاء و وضع الرجل المناسب في المكان المناسب و المحاسبة و هذا ما يحدث الان الرئيس محمود عباس من اشرف و انقى السياسين في فلسطين
    بس الله يخلصنا من حركة التكفيرين و المخونيين التي اضاعت القضية بالانقسام و عبادة الكرسي

    ردحذف
  3. غير معرف14/6/12 13:38

    اعتقد ان القضية الفلسطينية تسير وفق منهج ومخطط رباني
    وهل يعتقد البعض ان هذه القضية التي يمتد عمرها لاكثر من 100 عام منذ مؤتمر بازل في سوير كانت لتصمد ضد كل المؤامرات والتي تقودها دول عظمى لولا ان الله هو الذي يسيرها.. لو كان الذي يديرها الفصيل الفلاني والحزب العلنتاني لكانت عظام القضية القلسطينية قد اصبحت ترابا منذ دهر ...ولكن السؤال الاهم هنا :- وبعد اعتراف السلطة باسرائيل هل حياة القضية مرهونة باعتراف حماس ؟؟؟!!!!

    ردحذف

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع