أرشيف - (مايو 1994):
إنّ ما تبقيه إسرائيل للفلسطينيّين والعرب والمسلمين هو تلك التلّة الّتي يقوم عليها الحرم القدسيّ الشّريف، ولكن ليس إلى الأبد، بل فقط في هذه المرحلة التّاريخيّة.
فتوى تحويل القبلة الآن!
الضّجّة المفتعلة الّتي يقوم بها الإعلام الفلسطيني والعربي عامّة في هذه الفترة عن مصادرة الأراضي في القدس المحتلّة، ما هي إلاّ ”سحابة صيف عن قريب تقشّع”. هي ضجّة مفتعلة لأنّ الأمر ليس بجديد، فمنذ العام 67 وإسرائيل هي الّتي تسيطر على القدس المحتلّة، ومنذ العام 67 وإسرائيل، على حكوماتها المتعاقبة من حزب عمل أو ليكود تعمل كلّ ما في وسعها لتغيير الميزان الديمچرافي، وتبديل الخطّ الطوبوچرافي للمدينة المحتلّة. وطوال هذه العقود الماضية لم تكن ردود فعل العرب والمسلمين إلاّ من قبيل دفع الضّرائب الكلاميّة، عن أهميّة القدس وعن أنّ القدس في الوجدان العربي والإسلامي وما إلى ذلك من كلام موزون ”بلا قافية“.
والضّجّة مفتعلة لأنّ العالم العربي لم يهتمّ أبدًا بالقدس، لا في الماضي ولا في الحاضر. ولم يكن إعلان المبادئ في أوسلو والقاهرة إلاّ ليضع المسمار الأخير في تابوت المدينة العربيّة. إنّ من وقّع على تأجيل بحث قضيّة القدس بعد هذه العقود الطّويلة من الاحتلال، ومن الإصرار الإسرائيلي على أنّ القدس ليست مسألة تخضع للتّفاوض، يحصد الآن مغبّة ذلك. وستستمرّ إسرائيل في عقد الاتّفاقات مع السّلطة الفلسطينيّة حول تسليمها السّلطة في هذه المدينة أو تلك، مبقية قضيّة القدس خارج كلّ هذه الاتّفاقات. وحين تُكبّل السّلطة الفلسطينيّة نفسها بأغلال البنود المنصوصة، تبقى القدس وأهلها خارج هذه اللّعبة - الفضيحة.
إنّ ما تبقيه إسرائيل للفلسطينيّين والعرب والمسلمين هو تلك التلّة الّتي يقوم عليها الحرم القدسيّ الشّريف، ولكن ليس إلى الأبد، بل فقط في هذه المرحلة التّاريخيّة. ولهذا السّبب أيضًا سمحت الحكومة الإسرائيليّة لنفسها بتوقيع الاتّفاق مع المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وأبقت على ”الدّور التّاريخي“ للعائلة الهاشميّة في الأماكن الإسلاميّة المقدسة، وفقط الإسلاميّة.
وبهذه الخطوة حوّلت إسرائيل القضيّة من مسارها السياسي العام، إلى مسألة أماكن مقدّسة، ولا يزال يذكر القرّاء ذلك التّوتّر الّذي أعقب التّفاق الإسرائيلي الأردنيّ، بين عرفات وحسين. إنّ تحويل الخلاف إلى مسألة تتعلّق بالهيمنة على الأماكن الإسلاميّة المقدّسة في المدينة هو محاولة إسرائيليّة لسحب البساط من تحت أرجل المطلب الفلسطينيّ والعربيّ بشأن السّيادة السياسيّة في المدينة. وبذلك تتحوّل القدس إلى مجرّد مدينة تحتوي على أماكن مقدّسة إسلاميّة، ويتحوّل المطلب إلى المطالبة بحريّة الوصول إلى الأماكن المقدّسة لإقامة الصّلوات. وهذا بالضّبط ما تريده إسرائيل. فإسرائيل لا تنفيّ قدسيّة الأماكن الإسلاميّة، مع أنّ ثمّ تيّارات يمينيّة دينيّة يهوديّة تحلم بإقامة الهيكل الثّالث على أنقاض هذه الأماكن، ولكنّها مع ذلك تريد أن تبقى السّيطرة السّياسيّة على المدينة في أيديها إلى أبد الأبيد.
وخلال هذه العقود الماضية من الاحتلال الإسرائيلي قامت إسرائيل بخلق وضع جديد في القدس العربيّة المحتلّة، حيث قامت بضمّ القدس ومناطق كبيرة تابعة للقرى االفلسطينيّة المحيطة بها وأجرت عليها القانون الإسرائيلي. وخلال هذه العقود أقامت الحارات الاستيطانيّة في منطقة القدس العربيّة المحتلّة الأمر الّذي غيّر من الميزان الديموچرافي في القدس المحتلّة. والآن وبعد سنين أصبح عدد السكّان اليهود في القدس المحتلّة أكبر من عدد السكّان العرب.
ولا شكّ أنّ تجنّس سكّان القدس الفلسطينيّين بالجنسيّة الإسرائيليّة هو الآخر يندرج ضمن هذه الخطّة المرسومة. فبعد سنين قليلة سيكون غالبيّة سكّان القدس العرب من حاملي الجنسيّة الإسرائيليّة، وممّا لا شكّ فيه أنّ هؤلاء لن يشتركوا في الانتخابات الفلسطينيّة القادمة، هذا إذا جرت، فحتّى لو وافقت السّلطة الفلسطينيّة على اشتراك هؤلاء بالانتخابات رغم حملهم للهويّة الإسرائيليّة، فلا شكّ أنّ إسرائيل ستقف لذلك بالمرصاد وسوف لن تسمح لهم بالاشتراك، وكلّ ذلك من أجل إحكام السّيطرة السياسيّة على المدينة العربيّة. بعد وقت ليس بالطّويل لن يبقى هناك ما يُتفاوض عليه بشأن القدس.
وخلال هذه العقود، لم يفطن العرب إلى ما يجري على أرض الواقع. وفي الواقع لم يفطن العرب للقدس حتّى قبل الاحتلال الإسرائيلي لها، ولم يهتمّ أحد بتعميرها ولا الإنتباه إليها لأغراض في أنفس اليعاقيب، وهكذا آل الأمر بالقدس إلى ما آل إليه حتّى وصلنا إلى هذه المرحلة.
فماذا يمكن للقيادة الفلسطينيّة أن تفعله الآن؟ الجواب على ذلك بسيط. لا شيء.
أمّا الآن فالوضع تغيّر، وعلى ما يبدو فلن تعود إلى سابق عهدها، على الأقلّ في هذا الجيل. وإذا تساءل أحد من النّاس من المسؤول عن ذلك فإنّي أقول، إنّه بالإضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي الّذي عمل طوال سنين على تكريس الاحتلال في القدس وضمّها على أرض الواقع، فإنّ المسؤول الأهم في نظري عن هذا الوضع الّذي آلت إليه هو هذه الأمّة المغلوب على أمرها من قبل حكّامها، ولا نستثني من ذلك جميع المسؤولين الفلسطينيين طوال السّنين.
إنّ التّصريحات الإسرائيليّة بشأن القدس هي تصريحات واضحة، وهي تصويحات لا تقبل التّأويل، وهي تتلخّص بما معناه أنّ على العرب والفلسطينيين أن ينسوا من القدس، لأنّ القدس في نظر القيادات الإسرائيليّة على اختلاف أحزابها هي عاصمة إسرائيل الأبديّة ولا علاقة لمفاوضات السّلام بها. أمّا العالم العربيّ فيستمرّ في دسّ رأسه في الرّمال.
وإسرائيل لا تفعل ذلك إلاّ لعلمها أنّ العالم الغربيّ على جميع دوله وشعوبه يدعمها باتّخاذها هذا الموقف. يجب ألاّ يغيب عن الأنظار أنّ العالم الغربيّ كما ذكرت أكثر من مرّة في الماضي لن يقوم بالضّغط على إسرائيل بأيّ حال من الأحوال لأسباب تاريخيّة تتعلّق بالعلاقة الجوهريّة العميقة الّتي تربط الغرب المسيحي بإسرائيل الممثّلة لليهوديّة الّتي هي الجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والإسلام. فمثلما لا يقوم الغرب المسيحي بالضّغط على صربيا المسيحيّة مقابل البوسنة المسلمة، هكذا لن يقوم الغرب بالضغط على إسرائيل الممثّلة للجذور التاريخيّة للمسيحيّة، مقابل العرب والمسلمين الّذين يشكّلون خطرًا على العالم الغربي، في نظر هؤلاء.
خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين. وإن لم يكن الأمر كذلك فكيف تفسّرون عدم اهتمام العرب والمسلمين بالقدس، فلم يقوموا بتطويرها لتصبح محجّة مزدهرة من النّاحية الحضاريّة والسكّانيّة. إنّ ما فعلته إسرائيل خلال ثلاثة عقود من احتلال المدينة يضاهي كلّ تلك القرون الّتي حكم فيها العرب والمسلمون في المدينة. هذه هي الحقيقة المرّة ويجب التّصريح بها علنًا كي يفهم الجميع أسباب هذا الوضع.
وإزاء هذا الوضع، ماذا يمكن عمله؟
لقد كنت في الماضي أطلقت أكثر من مرّة وفي أكثر من مكان دعوى التّركيز على أهميّة القدس في الوجدان العربيّ، وقد رفعت اقتراحًا عمليًّا بهذا الصّدد، وهو أن يتمّ استصدار فتوى إسلاميّة بتحويل القبلة نحو القدس، والتّوجّة بالصلوات نحو القدس بدل مكّة حتّى تنفرج الغمّة، وأن تُستصدر فتوى بتحويل الحجّ من مكّة إلى القدس وبدل أن يقوم المسلمون بالحجّ إلى مكّة فليحجّوا إلى القدس وليبدأ الفلسطينيّون بذلك أوّلاً، حتّى ينتهي الاحتلال الإسرائيلي من المدينة. فقط باستصدار فتاوى من هذا النّوع تصبح القدس في نفس كلّ عربيّ. حينما يتوجّه المسلمون بالصّلاة نحو مكّة، وحينما يقومون بأداء الحجّ في الدّيار الحجازيّة فإنّما يعبّرون بذلك عن عدم الأهمّيّة المعزوّة للقدس. ولهذا السّبب ثمّ حاجة إلى تحويل القبلة الآن. أمّا أن لم يتمّ ذلك فمصير القدس إلى ضياع للأجيال القادمة، وسيكون مصيرها مصير يافا، وعكّا، أو قل غرناطة في أحسن الأحوال، مكان يؤمّه السوّاح.
ألا هل بلّغت!
*
نشر: ”الحياة الجديدة“، رام الله، مايو 1994
***
0 تعليقات:
إرسال تعليق