الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

هل يتعلّم العربي من أخطائه؟


على العموم، يمكن وصف الحال العربية بأنّها حال طفوليّة على جميع الأصعدة. والأنكى من كلّ ذلك هو أنّها طفولة ممنوعة من التعبير عن ذاتها، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وعاطفيًّا إلى آخر قائمة مسالك التعبير البشري.

سلمان مصالحة ||

 هل يتعلّم العربي من أخطائه؟


الإجابة على هذا السؤال
 ليست بالأمر السّهل. إذ أنّ الأمر يحتاج إلى خلفيّة ذهنيّة فرديّة، تستند إلى موروث حضاري واجتماعي، تدفعه إلى مساءلة نفسه وإلى إجراء حساب نفس. إنّ حساب النّفس الفرديّ يخلق في نهاية المطاف مجتمعًا كاملاً يجري حسابًا ذاتيًّا. من هنا فإنّ المساءلة الذاتية الفرديّة، أي حساب النّفس، هي جوهر وأساس عمليّة الإصلاح الذّاتي. وعندما تكون هذه الركيزة قائمة في حضارة ما، اجتماعيًّا أو دينيًّا، عندئذ تكون لدى الفرد المنتمي لهذه الحضارة آليّة للإصلاح الذاتي وتجاوز الأخطاء والخطايا على شتّى أنواعها. 

المعضلة الكبرى التي تواجه العربيّ منذ أن ظهر على مسرح التاريخ هي انعدام وجود مثل هذه الآليّة، أي آلية حساب النفس، في حياته منذ فترة الجاهليّة مرورًا بالإسلام وانتهاء بحاله في هذه الأيّام. وعندما تكون الحال على هذا المنوال مضافًا إليها جوهر في التركيبة المجتمعيّة العربيّة يحكمها ويُحدّد مسيرها ومصيرها، ألا وهو المبدأ الأعلى، مبدأ الأنساب البيولوجيّة دون غيرها، أي مبدأ القبليّة على ما يشتمل من عصبيّات، فإنّ الحال العربية تُضحي أكثر عواصة. 
ولمّا كانت هذه البقعة من الأرض تضمّ خليطًا غريبًا عجيبًا من الإثنيّات والملل والنّحل الغارقة في الغيبيّات دون أن تستطيع الإفلات منها، فإنّ الطريق إلى التّفتُّت البشري تصبح سالكة داخليًّا، أيّ داخل هذه المجتمعات فيما بينها. كما وتصبح الطريق سالكة أمام قوى خارجية للولوج من هذه النافذة إلى هذه البقعة من الأرض بغية الحفاظ على المصالح وفوق كلّ ذلك تحقيق الأطماع.

 لا شكّ أنّ الحنين
إلى الماضي هو جزء من الطبيعة البشريّة على العموم. هذا الحنين يطرق الذهنية البشرية مع تقدّم الإنسان في السنّ، ولذا يمكن أن نضع هذه الحالة في خانة الصراع مع الزّمن الذي يسير دائمًا وأبدًا قُدمًا، ولا يرجع للوراء قيد أنملة أو ثانية. كذا هي حال الزمن السيّار إلى ما لا نهاية، وهو لا يفرّق بين العرب والعجم ولا بين البيضان والسودان.

ولكن، ومن جهة أخرى،
فإنّ الحنين إلى الماضي قد يضحي مرضًا عضالاً إذا تحوّل إلى حال من الشلل العام في التّعامل مع حاضر الفرد واستشراف مستقبله. وعندما تكون هذه الحال ليست حالاً فرديّة بل حال مجموع بشريّ - قوم أو شعب أو أمّة - فقد يمسي هذا المجموع شراذم بشرية تهيم على وجهها في خضمّ محيط بشري مترامي الأطراف ومتلاطم الأمواج في آن.

فلو نظرنا إلى هذا الحنين العربي الإسلامي إلى ذلك الماضي البعيد، أي إلى مرحلة البداية الإسلامية مرحلة الخلافة الراشدة، والتي يعتبرونها ذروة الطموحات، ويقومون بتجميلها في ذهنية العامّة بكلّ أصناف التشبيهات والاستعارات، فذلك يعني أنّ عيون العرب والمسلمين مشدودة دومًا نحو الوراء. فإذا كانت الطموحات هي الماضي، فما من دافع يدفع المرء إلى استشراف المستقبل.

غير أنّ النّظرة
إلى عصر الراشدين وكأنه عصر ذهبيّ ليس سوى شعار لا يستند إلى حقائق تاريخية، بل هو مجرّد وضع مساحيق تجميلية على تلك الفترة بغية إخفاء قبح الحاضر والماضي معًا. يكفي أن نقرأ خبرًا واحدًا عن ذلك ”العصر الذهبي“ لكي نفهم مدى زيف هذه النّظرة إلى ذلك الماضي. فها هو الطبري يروي لنا في تاريخه خبر مقتل عثمان: ”وأمّا عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات. قال عمرو: فأمّا ثلاث منهنّ فإنّي طعنتهنّ إيّاه لله، وأمّا ستّ فإنّ طعنتهنّ إيّاه لما كان في صدري عليه.“

ليس هذا فحسب، بل لقد ألقيت جثّة عثمان في دمنة حتّى نهشت الكلاب قدمه. وقد بقي مرميًّا ثلاثة أيّام، كما يذكر ابن أعثم في كتاب الفتوح: ”وبقي عثمان ثلاثة أيّام دون أن يُدفن حتّى كاد أن يتغيّر. وقال أحد كبار الخارجين من أهل مصر ويدعى عبد الله بن سحراد: لن نرضى بدفنه في مقابر المسلمين لأنّه ليس مسلمًا“. وهذا مجرّد غيض من فيض ممّا ينضح به هذا التاريخ العربي وتلك ”العصور الذهبية“ التي يطمح إليها من يحنّ إلى الماضي. ألا تذكّر هذه الأخبار بما يجري في هذا الأوان؟ ألا تذكّر بما كان من حال قتل وسحل القذافي على سبيل المثال، وبما سيؤول إليه مصير من هم على شاكلته في بلاد العرب والمسلمين؟

إنّ جذور العنف هذه
قائمة في أساس التركيبة المجتمعيّة. فنحن العرب لم نعرف طوال تاريخنا القديم والحديث معنى ”الدولة“، بما يحمله هذا المصطلح من معانٍ. إنّ الأنساب البيولوجية هي التي تتشكّل منها الدولة في الذهنية العربية، أي إنّ القبيلة هي الوحدة السياسية التي يتحرّك فيها العربي ويتعامل مع العالم من خلالها. وليست العلاقات القائمة بين القبائل سوى شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية بين الدول. وهي قبائل - دول - قد تتكاتل أحيانًا ثمّ ما تلبث أن تتقاتل، كما هي حال العرب على مرّ التاريخ.

من هنا، فإنّه ومنذ نشوء الإسلام كان الصّراع على السلطة في هذه البقعة من الأرض صراعًا قبليًّا في الأساس، ولم يكن في يوم من الأيّام صراعًا حول رؤيا أو أيديولوجية بعينها. لقد ألبس طالبو السلطة صراعهم بلباس ديني هنا وهناك غير أنّ الجوهر كان جوهرًا قبليًّا ليس إلاّ.

على العموم، يمكن وصف الحال العربية 
بأنّها حال طفوليّة على جميع الأصعدة. والأنكى من كلّ ذلك هو أنّها طفولة ممنوعة من التعبير عن ذاتها، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وعلميًّا وعاطفيًّا إلى آخر قائمة مسالك التعبير البشري. ولهذا السبب فإنّ التعبير الوحيد الذي تبقّى أمام هذا المجموع البشري هو تعبير العنف، وهو العنف الذي نشاهد إسقاطاته في كلّ صقع من أصقاع العرب.

لا مناص من العودة إلى 
التأكيد على طريق الخروج من هذه الدوامات اللانهائية. إنّها طريق فصل الدين عن الدولة، فصل الطائفة عن الدولة، فصل القبيلة عن الدولة، وإقامة الدستور المدني الذي يتساوى فيه الأفراد، رجالاً ونساء، في كلّ مناحي الحياة، أمام القانون المدني.

هذه هي الطريق ولا طريق سواها. وهذه هي الحقيقة المرّة، ولا يمكن المضيّ في دسّ الرؤوس في هذه الرمال العربية.
أليس كذلك؟

*
نشر: ”إيلاف“، 6 نوفمبر 2012



مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع