وهكذا نرى أنّ ما بدأ به محمّد علي من بناء مؤسسات مدنية غايتها خدمة سلطة العسكر، لا يزال ساري المفعول في مصر إلى يومنا هذا، رغم كلّ الهبّات الشعبية ورغم كلّ تقلّبات الأوضاع التي أعقبت ما سمّي بـ”الربيع العربي“...
سلمان مصالحة ||
عن أحوال مصر المحروسة والجيش
خبر نقلته وكالات الأنباء في الآونة الأخيرة يلقي بعض الضوء على الحالة المصرية. والخبر يقول ”إنّ الجيش المصري قرّر التبرّع بمليار جنيه لصندوق دعا لإنشائه عبد الفتاح السيسي لدعم اقتصاد أكبر الدول العربية سكّانًا“، أي لمصر. ويضيف الخبر أنّ هذا التبرّع قد جاء ”إيمانًا من القوات المسلحة بحتمية تضافر جهود كافّة فئات الشعب المصري وأجهزة الدولة لتجاوز الظروف الراهنة التي يمرّ بها الوطن.“
لنقرأ فحوى الكلام معًا: الجيش المصري يتبرّع لدعم اقتصاد أكبر دولة عربية. إنّ ما يُستشفّ من هذا الكلام هو أنّ الجيش، إضافة إلى كونه مؤسسة عسكرية، فهو ذو وزن نوعي من ناحية اقتصادية ويشكّل مؤسسة اقتصادية مركزية مستقلّة تتبرّع بـ”مكرمات“ منها للدّولة المصرية، كما لو كان دولة قائمة بذاتها لذاتها ولمصالح ذواتها. وإذا رغبنا في طرح الأمور بما تعنيه فعلاً، فإنّ الجيش هو الدولة في نهاية المطاف، لأنّه يملك القوّة العسكرية والقوّة الاقتصادية في آن معًا. فماذا تبقّى إذن؟ المؤسّسة القضائية. غير أنّ هذه المؤسسة أيضًا تلعب دورها في الحفاظ على هذا النّظام المصري الممؤسس الذي يستمدّ سلطته من هذه المؤسسة العسكرية.
جدير بالذكر في هذا السياق أنّ الدولة المصرية، وبخلاف سائر البلدان العربية في المشرق والمغرب، كانت تتميّز دائمًا بتجذّر المؤسسات فيها. فلو تركنا جانبًا التاريخ المصري القديم، ونظرنا فقط في تاريخ بناء الدولة المصرية الحديثة، فإنّ الفضل يعود في ذلك إلى محمد علي باشا الذي انطلق في الثلث الأوّل من القرن التاسع عشر وبدأ بإقامة دور التعليم الحديثة بهدف دعم التنمية الاقتصادية، وبهدف دعم المؤسسة العسكرية في الأساس. لقد أرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا ادراسة شتّى العلوم في جامعاتها، بدءًا بالفنون العسكرية، والهندسة الزراعية والتقنيات الحديثة، بالإضافة إلى دراسة القانون والعلوم السياسية.
لقد انصبّ اهتمام محمد علي في جوهره على تأسيس الدولة استنادًا إلى الجيش، فالمدارس التي أنشأها جاءت لتشكّل رديفًا للجيش الذي دأب على تنظيمه وتأسيسه على أسس عصرية. كما أسّس بمشورة من رفاعة الطهطاوي المدارس التي اهتمّت بتعليم اللغات الأوروبية والترجمة منها، ما كان له كبير فضل على نقل المعارف الأوروبية إلى مصر.
ولكنّ الجيش هو الذي يبقى في صدارة الأوضاع المصرية. فها هو الپروفسور الفرنسي جيل كیپيل (Gilles Kepel)، الذي يُعتبر من كبار المتخصّصين في بحوث الشرق الأوسط، ويحاضر في معهد ساينس پو للعلوم السياسية في پاريس، يروي في مقابلة مع صحيفة ”هآرتس“ الإسرائيلية أنّ النّخبة العسكرية والقضائية في مصر هي التي عملت من وراء الكواليس على إسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر. ”لقد كان الانقلاب مُخطّطًا له“، يقول الپروفسور كيپيل، ولتعزيز رؤيته هذه بشأن ما جرى في مصر من أحداث فإنّه يروي ما سمعه من أقوال في لقائه مع المشير محمد حسين طنطاوي، قائد الجيش المصري حتّى اعتلاء محمد مرسي سدّة الحكم، حيث استبدل هذا الأخير المشير طنطاوي في قيادة الجيش المصري بضابط آخر هو عبد الفتاح السيسي.
يذكر جيل كيپيل أنّ الجنرال طنطاوي قال له أثناء اللقاء، إنّهم - أي المؤسسة العسكرية - سيُتيحون الفرصة للإخوان المسلمين بالصعود واستلام الحكم، سيكشفونهم على الملأ وأمام الرأي العام، وسيكون هؤلاء الإخوان سيّئين للغاية، لدرجة أنّ الشعب المصري سيسأم من الإخوان وسيُطالب بعودة الجيش لاستلام زمام الأمور“. (”هآرتس“، 25.06.2014)
وعلى الرغم من عدم وجود سبب وجيه يدعونا لأن نشكّك في مصداقية ما ينقله كيپيل من كلام طنطاوي، وأيًّا ما تكن موثوقية الكلام المذكور أعلاه، فإنّ الإجراءات الأخيرة التي شهدتها مصر على الساحة القضائية تدعم بصورة أو بأخرى روح هذا الكلام. والإجراءات القضائية التي نعنيها هنا هي تلك المتعلّقة بإصدار أحكام الإعدام بحقّ المئات ممّن ينتمون لتيّار الإخوان المسلمين وعلى رأسهم مرشدهم العام. وقد انضافت إلى هذه الأحكام مؤخّرًا أحكام تعسّفية أخرى بالسجن لمدد طويلة، تتراوح بين سبع إلى عشر سنوات، صدرت بحقّ صحفيّين من شبكة الجزيرة. كما أصدرت أحكامًا تعسّفية أخرى بحقّ ناشطين سياسيين آخرين، من أمثال المدوّن علاء عبد الفتّاح، والذين يعتبرون من رموز الهبّة الشعبية المصرية التي أدّت إلى الإطاحة بحكم مبارك، ولاحقًا إلى الإطاحة بحكم مرسي، ممّا فسح المجال لعودة المؤسسة العسكرية بكلّ ما تمثّله إلى الصدارة.
وهكذا نرى أنّ ما بدأ به محمّد علي من بناء مؤسسات مدنية غايتها خدمة سلطة العسكر، لا يزال ساري المفعول في مصر إلى يومنا هذا، رغم كلّ الهبّات الشعبية ورغم كلّ تقلّبات الأوضاع التي أعقبت ما سمّي بـ”الربيع العربي“.
وخلاصة القول، كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.
*
نشر أيضًا: "شفاف الشرق الأوسط"
0 تعليقات:
إرسال تعليق