الأحد، 1 مارس 2015

ربيع الممالك العربية


سلمان مصالحة || 

ربيع الممالك العربية




ها نحن نقترب من نهاية العام الرابع على الانتفاضات التي ضربت أكثر من قطر في أنحاء العالم العربي مشرقه بمغربه. أقول انتفاضات ولا أقول ثورات عن سابق قصد، إذ إنّ ما جرى في الأعوام الأخيرة في كلّ تلك الأقطار لا يمكن بأيّ حال أن يُسمّى ثورة بما تعنيه هذه الكلمة في العلوم السياسية.

غير أنّ نظرة إلى نوعية السلطات في الأقطار العربية التي انتفضت فيها الشعوب تدفعنا إلى مواجهة التحدّي بطرح أسئلة جوهريّة ومحاولة الإجابة عليها بصدق ودون مواربة وإلقاء شعارات عاطفيّة كاتمة للعقول. والأسئلة التي لا مناص من طرحها على الملأ هي: لماذا ضربت هذه الهبّات والانتفاضات أقطارًا عربيّة محدّدة دون أخرى؟ وما الفرق بين تلك الأقطار؟ ثمّ، ما الذي جعل أقطارًا أخرى تخرج من هذه الهبّة دون إراقة دماء بخلاف أخرى لا تزال إراقة الدماء سمتها المميّزة؟

بنظرة من بعد أربعة أعوام على كلّ ما يجري، يلاحظ المراقب بعض أبعاد تلك الصورة المتبلورة، وهي تتعلّق بطبيعة النّظم السياسية السائدة في هذا العالم. إذ يتّضح بحسبها انقسام هذا العالم العربي إلى قسمين. إنّ ما يثير التساؤل هو حقيقة كون هذه الانتفاضات الشعبية العربية قد ضربت بالذات الأقطار التي اتبعت أنظمة جمهورية، بينما بقيت الممالك والإمارات خارج هذه الهبّة. إنّ هذه الظاهرة حريّة بالدراسة المعمّقة، وحريّ بنا نحن العرب أن نقف على حيثيّاتها، فلا يكفي أن ندسّ رؤوسنا في الرمال أو نلقي بها عرض الحائط وكأنّ شيئًا من هذا القبيل لم يكن.

لأجل فهم هذه الظاهرة علينا أن ننظر في طبيعة المجتمعات العربية بعيدًا عن الشعارات التي وإن كانت تدغدغ العواطف فإنّها لا تجدي نفعًا ولا تشقّ لنا طريقًا لسبر أغوار ما يجري حولنا بغية الخروج من مآزقنا العربية. وعندما نقول طبيعة المجتمعات فإنّما نعني بها هذا الميراث الاجتماعي المتواصل منذ قرون طويلة، وهو ميراث عابر من الجاهلية إلى الإسلام وحتّى هذا الأوان.

ولمّا كانت طبيعة المجتمعات العربية هي طبيعة قبلية، فالنظام الملكي، أو الأميري، على كافّة تنويعاته هو الاستمرار الطبيعي لهذه البنية الاجتماعية المتجذّرة. فالولاء القبلي سابق على أيّ ولاء آخر. لذلك، فمع خروج الاستعمار من الأقطار العربية فإنّ الممالك والإمارات هي التي حلّت مكانه كخطوة طبيعية تتلاءم مع طبيعة المجتمع القبلي.

غير أنّ الصّراع الكوني بين القطبين الخارجين من الحرب العالمية الثانية قد زعزع المنطقة العربية. ونتيجة لذلك، حصلت انقلابات عسكرية أطاحت ببعض الممالك. لم تكن تلك ثورات كما أُطلق عليها، بل كلّ ما في الأمر أنّها كانت تمرّدات عسكرية استولت على السلطة متخفّية وراء شعارات رنّانة، مثل الاشتراكية، والحرية والديمقراطية وما إلى ذلك من بلاغة فارغة من أيّ مضمون حقيقي. في الحقيقة، كانت كلّ تلك الانقلابات مجرّد اغتصاب لمجتمعات عربية بأسرها. فكلّ تلك الأنظمة العروبية البلاغية لم تُحقّق أيًّا من الشعارات التي رفعتها، بل على العكس فقد استولت على موارد الشعوب وافقرتها، كما لم تأت بأيّ شكل من الحرية ولا الاشتراكية. وفوق كلّ ذلك فقد حكمت بالحديد والنّار واستبدّت بالبشر والحجر.

نعم، إنّ أقطار الدجل العروبي هذه هي بالذّات التي ثارت عليها الشعوب العربية. بينما الممالك والإمارات العربية بقيت خارج هذه المآزق. لقد بقيت الممالك خارج هذه الهبّة وبعيدة عن إراقة الدماء، ليس بسبب أموال النفط، كما يحاول بعض جهلة اليسار العربي الترويج له. فهنالك ممالك عربية ليست غنية بأيّ حال، كالأردن مثلاً، بقيت بعيدًا عن هذا التضعضع أيضًا.

إذن، فما السبب من وراء ذلك؟
والإجابة على ذلك بسيطة للغاية. فبالإضافة إلى ما ذكرنا آنفًا، يجدر بنا أن نجري مقارنة بين علاقة الأنظمة الملكية بشعوبها وبين علاقة أنظمة الدجل الجمهورية. إنّ مقارنة بسيطة ستجعل الكفّة تميل لصالح الأنظمة الملكية بالذّات. لقد شكّل البطش والاستبداد واستعباد وإفقار العباد السمة المميّزة لأنظمة الشعارات الزاجلة الداجلة. بينما كانت الأنظمة الملكية وعلى مرّ السنين أكثر رحمة بشعوبها، على الرغم ممّا قد يُقال وبحقّ أيضًا ضدّ إخفاقات تلك الأنظمة الملكية. ولكن، إذا توخّينا الصدق مع أنفسنا ومع البشر من حولنا، فيجدر بنا أن نرى هذه الحقيقة كما هي، بما لها وبما عليها.

كما إنّ طبيعة المجتمعات العربية القبليّة مغرقة في القدم وهي ضاربة جذورها في التاريخ العربي ومنذ فترة ”الجاهلية“ العربية. ولعلّ الأقوال المنسوبة إلى الملك السعودي الجديد، سلمان بن عبد العزيز، كما أوردها طلال سلمان في مقالة له في صحيفة السفير تصرّح بكلّ شيء حول هذه المسألة. لقد كان طلال سلمان التقى قبل حوالي أربعة عقود الأمير سلمان، ويقتبس من أقواله: ”وقد اختصر لي الأمير سلمان (الذي وُلّي الآن ملكاً) قضية الصراع بجمل بسيطة: «نحن هنا أبناء الأرض. لسنا وافدين من الخارج، ولسنا محتلين. لسنا من الألبان، كأسرة محمد علي التي حكمت مصر لمئة وخمسين عاماً. إننا أبناء الرمل والنخيل. أبناء الشمس والقمر..». صمت لحظة ثم أضاف ضاحكاً: «يكفي أن أقول لك إن بين أجدادنا مسيلمة الكذاب!»“ (السفير، 26.1.2015). وبكلمات أخرى، فإنّ الجذور القبلية التي تمتدّ في التاريخ هي جذور عربيّة أصيلة، وليست إسلامية فقط. نعم، إنّها وبصراحة الملك الجديد تمتدّ لتصل أيضًا إلى مسيلمة الكذاب ذاته، بكلّ ما يمثّله هذا من معانٍ. إنّ هذه الصراحة تشهد على عمق هذا التجذُّر.

لهذا السبب، يجب أن ننظر بعيون بصيرة إلى جذورنا الحضارية بكلّ ما تمثّله وبكلّ ما تشتمل عليه، لا أن ننفي ذلك من وجودنا ومن كياناتنا الثقافية، الاجتماعية والسياسية. نعم، فقط برؤية الحقائق كما هي، بقمحها وزؤانها، نستطيع التعامل مع بعضنا البعض بغية الوصول إلى سواء السبيل.

وبالإضافة إلى كلّ ما ذكرنا آنفًا، وبسبب هذه الطبيعة القبلية والولاءات القبلية في المجتمعات العربية، فلا يوجد ما يوحّد هذه التشكيلات المجتمعية القبلية في بوتقة واحدة سوى النظام الملكي. ولهذا السبب أيضًا، فإنّنا نرى كيف خرجت الأنظمة العربية الملكية سالمة من الانتفاضات العربية الأخيرة.

والحقيقة التي لا مناص من ذكرها هنا هي أنّ الأنظمة الملكية العربية ومنذ جلاء الاستعمار عن هذه البقعة من الأرض كانت على مرّ السنين أكثر رحمة بالعباد من كلّ الأنظمة الأخرى التي كانت سمتها الاستبداد فقط.

هذه هي الحقيقة والشجاعة الأخلاقية تلزمنا بقولها على الملأ، بلا لفّ أو دوران.
*
نشر أيضًا: شفاف الشرق الأوسط

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع