ولمّا كانت هذه القوى، بطبيعة الحال، تنظر هي الأخرى بمنظار مصالحها، نجد لزامًا علينا ألا نغرق في بحر من الأوهام التي تحاول هذه القوى إشاعتها.
سلمان مصالحة ||
سياسة التلاعب بالعواطف العربية
لا شكّ في أنّ المتتبع للكلام المنثور في وسائل الاتصال العربية، وعلى كافّة
تنويعاتها، قد يتفاجأ من حجم العواطف المكدّسة فيه. قد تكون اللغة العربية التي
نشأت وترعرعت على بلاغتها الأجيال العربية منذ قرون طويلة لم تتغيّر بعد.
فالكلام في السياسة نثراً، كالكلام في الشعر نظماً ونثراً، محشوّ بعواطف جيّاشة
يفقد فيها القارئ/المستمع القدرة على التفكّر في ما يقوله، أو لا يقوله،
الكلام. إذ يكتسح ذهنه جرس الألفاظ، وتتابع النعوت والاستعارات. إنّ هذه
الخاصية في الكتابة العربية هي جزء من المأزق الذي يعيشه العرب منذ عقود طويلة.
لا نريد العودة إلى الماضي البعيد لكي نبرهن على ما نقول، بل يكفي أن ننظر في
أحوالنا الراهنة.
لنترك جانباً لبعض الوقت القوى العظمى، أميركا وروسيا اللتين تتحدد نشاطاتهما
على الساحة الشرق أوسطية استناداً إلى مصالحهما الكبرى على النطاق الكوني، وليس
بالاستناد إلى الأخلاق، وما إلى ذلك من مقولات. بدل ذلك لننظر بعض الشيء في
القوى الكبرى الأخرى الفاعلة في هذه الساحة، ونعني بهذه القوى إيران وتركيا
وإسرائيل وهي قوى إقليمية مؤثّرة في المنطقة، لكنّها غير عربية.
ولمّا كانت هذه القوى، بطبيعة الحال، تنظر هي الأخرى بمنظار مصالحها، نجد
لزاماً علينا ألا نغرق في بحر من الأوهام التي تحاول هذه القوى إشاعتها. ولمّا
كان العالم العربي رجل المنطقة المريض جسديّاً وعاطفيّاً، فمن الطبيعي أن
تتحوّل باحة بيته إلى سوق لعرض أدوية علاجية توهمه بالشفاء.
وهكذا دخلت على الخط هذه القوى الإقليمية محمّلة بالشعارات الإسلامية في محاولة
لدغدغة العواطف العربية. إنّ الشعارات الإسلامية القادمة من تلك القوى هي
بمثابة القشرة الخارجية التي تخفي لبّ مصالحها القومية الجوهرية التي تحاول
اقتطاعها من الكيانات العربية المشوهة. فبالنظر إلى الخطاب الإيراني. فقد كانت
لغة الثورة الإسلامية التي أشيعت تخفي من ورائها لغة قومية فارسية، فالخطاب
الإيراني كثيراً ما يُشدّد على مصطلح «ملة إيران» أي الأمّة الإيرانية. وعلى
الجانب الآخر، بعد صعود الإسلاميين في تركيا، عادت إلى الظهور هناك اللهجة
العثمانية وتصدّرت الخطاب التركي، وعلى وجه الخصوص في اللغة الإردوغانية
السنّية.
لقد عملت هاتان القوّتان الإقليميتان على استغلال القضية الفلسطينية فطرحت كلّ
واحدة منهما شعارات فلسطين للتلاعب بمشاعر عامّة العرب الذين طالما تغنّوا
بفلسطين واصفينها بقضية العرب الأولى. هكذا شاع استخدام «يوم القدس» والأيام
الفلسطينية الأخرى في الخطاب الإيراني كما لو أنّ إيران تقف في مقدم الدفاع عن
قضية العرب الأولى.
ومع صعود الإسلاميين في تركيا، أخذوا يدلون بدلوهم في قضية العرب، وعلى وجه
الخصوص بعد الانقلاب «الحمساوي» في غزة. فقد أخذ العثمانيون الجدد يلعبون على
الوتر ذاته، كما لو أنّهم حامو حمى فلسطين. ولم تكن محاولات إرسال السفن لـ
«كسر الحصار» على غزة سـوى ورقـة أخرى من أوراق اللعب على العواطف العربية
والفلسطينية. لقد التقط العرب والفلسطينيون هذه الألغام المنصوبة فوقعوا في فخّ
التعاطف مع تركيا، لدرجة رفع صور أردوغان في غزة وغيرها من المواقع كما لو كان
زعيم الأمة الجديد.
وها هم العثمانيون الجدد يبحثون الآن عن وسيلة لإعادة العلاقات الاستراتيجية مع
إسرائيل ضاربين عرض الحائط بكلّ الشعارات الرنانة السابقة لأنّها أثبتت فشلها
على الصعيد التركي، ولأنّ مصلحتهم القومية التركية فوق كلّ شيء في نهاية
الأمر.
لا يمكن أن يتحوّل العرب إلى قوّة فاعلة وهم على هذه الحال من التشرذم السياسي.
يجب أن نرى الواقع كما هو، وليس كما هو في المخيلة والأوهام البلاغية. لا يوجد
ولاء عربي واحد، فالولاءات السياسية هي بعدد هذه الكيانات السياسية، ولهذا من
السهل التلاعب بها.
وهكذا وصل العرب في هذه الأيام إلى وضع تفرقوا فيه أيدي سبأ، فقد أضاعوا فيه
بوصلتهم الوطنية والقومية. فبين حانا ومانا، أو بين إيران وتركيا، أضاع العرب
لحاهم وأُلقيت عروبتهم على قارعة الطريق.
*
الحياة، 28 يونيو 2016
0 تعليقات:
إرسال تعليق