شهادة من المأساة السورية -
"نحن نتابع التظاهرات منذ أربعة أسابيع فلم نر أيّ متظاهر يحمل عصا في يده. العصابات التي شاهدناها بأعيننا، واضحة، وبإذن الله أنا أقول الصدق، هي من المخابرات ونظام الأمن التابع للرئيس بشار..."
صبحي حديدي ||
داريا، 22/4/2011
«الجمعة العظيمة»، أو «جمعة الآلام» مناسبة مسيحية سنوية تستذكر مسير يسوع على درب الجلجلة، وصولاً إلى الصلب؛ ويوم 22/4/2011، شاء الحراك الشعبي السلمي السوري أن يؤكد على التضامن المسيحي ـ المسلم في سوريا، فأطلق على جمعة التظاهر تلك اسم «الجمعة العظيمة»؛ وقبلها كانت قد مرّت خمس جُمَع، منذ 18 آذار (مارس) 2011: «الكرامة»، «العزّة»، «الشهداء»، «الصمود»، و«الإصرار». لكنّ تلك الجمعة سجّلت، أيضاً، دخول بلدة داريا في سجلّ شهداء الانتفاضة؛ إذْ استُشهد ثلاثة من فتيانها: عمار محمود، وليد خولاني، والمعتز بالله الشعار؛ كما استنشقت البلدة، بستان العنب البلدي وحاضنة كروم عمرها 7000 سنة، غاز النظام المسيل للدموع، ممتزجاً بزخات الرصاص الحي.
واليوم، في هذا الطور الطروادي من تاريخ ارتباط داريا بالانتفاضة، أستعيد (مع نقل العامية إلى الفصحى) شريط فيديو/ شهادة شخصية للمواطن السوري محمد بشار الشعار، في وصف استشهاد ولده المعتز بالله: «قبل أربعة أسابيع كنّا في دمّر، وعدنا منها، فأدركتنا الصلاة، ودخلنا إلى جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي. صلّينا، وكانت خطبة هادئة ومرتبة وليس فيها إثارة. عند خروجنا، فوجئنا بأعداد من رجال الأمن كبيرة جداً، وكانوا مسلّحين بعصيّ كهربائية وهراوات وسلاسل. شاهدنا قتل الأبرياء، وكبر ذلك في أعيننا كثيراً، رغم أننا لا ننتمي إلى أي تنظيم أو أي شيء ضدّ الحكومة، لكن رأينا أهلنا يُقتلون. والمعتز بالله، وعمره 22 سنة، طالب في جامعة دمشق، كلية الحقوق، تأثر كثيراً لمرأى الأمن يضربون الأهالي بدون رحمة، بالعصيّ، على الرأس، وأينما وصلت العصا».
ومع ذلك، لم يشارك الأب وابنه في التظاهرات، تلك الجمعة، لكنه يتابع وصف الجمعة التالية: «كانت أعداد عناصر الأمن أكبر، وكانوا أيضاً قد جلبوا معهم عمّالاً من المحافظة، سلّحوهم بالعصيّ والسلاسل والهراوات، لكي يضربوا الناس ويبطشوا بهم. الشاب المعتز بالله لم تهن عليه هذه المشاهد، ودم الأبرياء الذي يُراق، فقال لي يا أبي هذا لا يجوز. هذه دماء وليست ماءً، وهؤلاء أهلنا هنا وفي درعا وكلّ مكان، وينبغي علينا أن نخرج في التظاهرات. فقلت له يا بنيّ، العين لا تقاوم المخرز، وهؤلاء في أيديهم بنادق وأسلحة ولا طاقة لنا عليهم. فردّ عليّ: يا أبي، دعني أموت شهيداً، ولا أكون نذلاً مع أهلي وأقربائي وأبناء بلدي. نحن لا نريد شيئاً سوى أن نقف معاً، وتكون أعدادنا كبيرة، لكي لا يستفردوا بنا، لأنهم مجرمون ولا يخافون الله».
في هذه الجمعة، يتابع الأب: «صلّينا في جامع الحسن [حيّ الميدان، في دمشق]. خرجنا من الصلاة، فوقعت بعض الاحتجاجات، ولم يكن المتظاهرون يحملون أي شيء، غير المسير بصدورهم العارية. مضينا إلى بيتنا في داريا، حيث نسكن، فوجدنا الطريق مغلقاً والناس محتشدة، فقال لي المعتز: دعنا ننزل ونشارك معهم، فالطريق أصلاً مغلقة. وهكذا نزلنا، ووقفنا مع الناس، وكانت شعاراتهم كلها سلمية! سلمية! حرّية! حرّية، ولم يردّد المعتز إلا هذه الهتافات، ولم يمسك بيده أي شيء يمكن أن يؤذي الأمن. كان نصيبه هاتين الطلقتين [في الصدر]، فسارعت لإسعافه، فهجم عليّ عناصر الأمن بالعصيّ، وهذه هي العلامات على ظهري، وعلى رأسي، وعلى رجلي. صرت أهتف: يا جماعة الفتى ينزف! أسعفوه على الأقلّ! ظلّ المعتز ينزف طيلة ربع ساعة، وظلّوا غير مكترثين، وبكلّ دم بارد رفضوا إسعافه، وحين وصلنا إلى المستشفى كان قد فارق الحياة».
ويختم الأب أنّ مشاركة الشهيد المعتزّ بالله انطلقت من باعث وحيد هو «نصرة أهله الذين كانوا يُقتلون، هنا وفي بقية المحافظات. وبالنسبة إلى ما يقولونه عن عصابات مسلّحة، نحن نتابع التظاهرات منذ أربعة أسابيع فلم نر أيّ متظاهر يحمل عصا في يده. العصابات التي شاهدناها بأعيننا، واضحة، وبإذن الله أنا أقول الصدق، هي من المخابرات ونظام الأمن التابع للرئيس بشار. هذه هي القصة بحذافيرها، لا يوجد أناس مسلّحون ولا عصابات مسلّحة ولا مندسون، كلّ هذا كذب وتلفيق على العباد. كلّنا مسالمون، طلبنا الحرّية، وأن يُفرج عن الناس الذين في السجون منذ 40 سنة، هذا هو الكفر بنظر الدولة».
جدير بالإشارة أنّ اثنين من أشقاء المعتزّ بالله اعتُقلا أيضاً، الأوّل في الصفّ التاسع (15 سنة) والثاني في الصفّ الحادي عشر (17 سنة).
ولستُ أعود إلى هذه الشهادة، اليوم، لاقتباس برهان إضافي على همجية أجهزة الأمن السورية، بل لأنها ـ إلى جانب ما تختزنه من معانٍ جبّارة تمزج الأسى العميق بحسّ المقاومة الأعمق ـ تعيد تظهير البدايات السلمية النبيلة التي اكتنفت انخراط داريا في الانتفاضة، ونهايات الدمار والخراب والإبادة التي انتهت إليها البلدة على يد همج النظام وبرابرة روسيا وإيران و«حزب الله». كذلك تعيد الشهادة التشديد على أنّ داريا جرح غائر، أسوة بجراح سورية كثيرة، هيهات أن تندمل بدون تكريم الشهيد، بوسيلة أولى لا بديل عنها: استكمال نصرته واكتمال انتصاره، مرّة وإلى الأبد.
*
القدس العربي، 29 أغسطس 2016
0 تعليقات:
إرسال تعليق