لقد أزاحت هذه الرياح كثبان البلاغة من طبقة العروبة الخارجية وكشفت ما كانت تُخفي تحتها من حقائق هذه المجتمعات. ولذا، يُخطئ من يسمّي هذه الحروب الدائرة حروبًا أهليّة...
سلمان مصالحة ||
في مديح الربيع العربي
قد يستغرب البعض هذا العنوان بعد كلّ ما شاهدناه من أحداث ضربت هذه البقعة من الأرض، غير أنّ السنوات الخمس المنصرمة على هذا الحدث الذي كسا مشارق العرب ومغاربها بحلّة قشيبة من الأحمر القاني قد أثمر لدى الأجيال العربية الناشئة ذهنية عربية حديثة صرمت حبل السرّة الذي كان يربطها بشعارات طالما تغنّت بها على مرّ عقود من البلاغة العروبية البليدة، بدءًا بوحدة الهدف وانتهاءً بوحدة المصير.
يسعنا القول، إنّ هذا الربيع ما كان ليحصل لولا طفرة الاتصالات الحديثة التي هدمت حدود الانغلاق في أركان معتمة على هذه الأرض. وكما قيل، فقد أضحى العالم قرية صغيرة يستطيع كلّ فرد في أنأى بقعة منها أن يقرأ، يسمع وفوق كلّ ذلك أن يرى بحاسوبه أو بهاتفه الذكيّ كلّ ما يدور حوله في هذا العالم. إنّ هذه الطفرة تدفع المرء إلى إجراء مقارنات بين حاله وبين أحوال سائر البشر من قاطني هذه الكرة الأرضية. ولمّا كانت أحلام العربيّ، بوصفه بشريًّا، لا تختلف عن أحلام سائر أبناء جلدته من البشر، فقد استفزّته المقارنات، وعلى جميع الأصعدة: الاجتماعية، الثقافية، السياسية والاقتصادية. ورغم أنّ شرارة هذا الربيع التي انطلقت من تونس قد اندلعت على خلفيات اقتصادية، إلاّ أنّه يسعنا القول أيضًا إنّ أكثر ما استفزّ الإنسان العربي في مواطنه هو موضوع الحريّة المنعدمة في كلّ أماكن تواجده، والمُستبدَلة بالكبت والاضطهاد منذ عقود طويلة.
هكذا، وفي خضمّ هذه الزلزلة الوجدانية التي ضربت أركان الصرح العروبي الذي انبنى على رمال تذروها الرياح الهابّة من جهات الانفتاح الكوني، وفي خضمّ الثوران البركاني الذي انطلق من أعماق هذه الأرض، فقد انكشفت كلّ الأوراق البالية التي سُجّلت فيها حقائق هذه المجتمعات والركائز التي انبنت عليها منذ نعومة أظفارها التاريخية.
فالمثال الظاهر للعيان في هذا الركن الأرضي وفي أبشع صورة، في كلّ من العراق وسورية، من ناحية زهق الأرواح وهدم الحجر والشجر والبشر، هما القاعدة وليسا الاستثناء. صحيح أنّ العقود الطويلة من الاستبداد قد أفلحت بالحديد والنّار، ولأجل مُسمّى وقصير، أن تحافظ على هدوء ما. غير أنّه كان الهدوء الذي سبق هذه العاصفة التي لا زالت تأكل الأخضر واليابس.
لقد أزاحت هذه الرياح كثبان البلاغة من طبقة العروبة الخارجية وكشفت ما كانت تُخفي تحتها من حقائق هذه المجتمعات. ولذا، يُخطئ من يسمّي هذه الحروب الدائرة حروبًا أهليّة. إنّ مردّ خطأ التسمية هذه هو كلّ تلك الأوهام والشعارات التي طالما شنّفت آذان المستمع العربي عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة، ناهيك عن اعتبار البشر المنضوين في هذه الحدود المصطنعة أهلاً. إنّهم، في الحقيقة، لم يكونوا في يوم من الأيام أهلاً، لأنّ الأنظمة التي استبدّت بهم لم تبنِ شعبًا ولم تخلق أهلاً، إذ لم يكن هذا همّها أصلاً. كما إنّ هذا الصنف من الأنظمة، بطبيعتها القبليّة الطائفية الاستئثارية، لا يمكن أن تفعل ذلك. إنّها تفهم طبيعة المجتمع الذي تستبدّ به، وتعرف أنّها إن فعلت ذلك فستخسر كلّ الامتيازات التي استفردت بها خلال سني سلطانها.
إنّ حال هذا النوع من الأنظمة العربية أكثر شبهًا بعصابات المافيا منها بكيان مدنيّ يُسمّى دولة في العلوم السياسية. ليس من عجب، إذن، أن نرى هذا التصدُّع المجتمعي النازف في غير مكان من هذا العالم المسمّى عربيًّا. بعد كلّ هذه السنوات من السحل والتقتيل، أضحى الجرح الوجداني عميقًا في هذا الجسد المجتمعي، وليس من السهل مداواته. لقد خبا البصيص في آخر النفق.
لم تعد الشعارات التي ترعرعت عليها الأجيال العربية الشابّة تقنع أحدًا في هذا العصر. وما كان لن يعود. فقط من هذه النقطة التي تقطع بها الأجيال العربية كلّ الحبال التي تربطها بهذا التراث الدموي، يمكن أن يبدأ جيل عربي جديد. ولهذا، فلعلّ في هذا الربيع الدّامي ما يُبشّر بقطيعة تذوّتها الأجيال العربية عن هذا الماضي وعلى جميع الأصعدة. هذا هو البصيص الذي يمكن أن تسترشد به الأجيال القادمة، إذ بدون هذه القطيعة، لن يخرج العرب من النفق المعتم، ولن يصل العرب إلى سواء السبيل.
*
0 تعليقات:
إرسال تعليق