مصارعة مع الوهم

سلمان مصالحة

مصارعة مع الوهم


في صَباحٍ لا لَوْنَ لَهُ، وَلا طَعْمَ لَهُ
أَيضًا، أَحُكُّ رَأْسي قَليلًا، عَبَثًا
أَبْحَثُ عن حيلةٍ تَسْنحُ لي، كَيْ
أَقْتلعَ  كُلَّ هٰذهِ الأوْهامَ الّتي
عَلِقتْ بِبَقايا أَحْلامٍ مُبْهَمَة.

جالِسًا إزاءَ نافِذَةٍ مُطِلَّةٍ عَلَى
ساحَةٍ مَتْروكَةٍ، أَنْتَظرُ غَفْلةً مِنْها
عابرةً، رُبّما أَكُونُ مَحْظُوطًا،
فتَتَملّكُ الخَواطِرَ الدّاهمَةَ عَلَى
حينِ غرّة. بِلا شَكٍّ، سَأنْتَهزُها
فُرْصَةً. وَكَماكُنْتُ خَبرْتُ
أَيّامِي الخَوالِي، قَدْ لا تَتَكَّرّرُ
إنْ أَبْطَأْتُ فِي اتّخاذِ القَرار.

سَأُسْرِعُ أنا بِٱسْتِلالِ سَيْفِي،
هٰذا الَّذِي سَنَّهُ الشَّكُّ دُهُورًا،
إنّهُ سِلاحِي الوَحِيد فِي مُصارَعَةِ
الأَوهامِ. سَأَنْقَضُّ عَلَيْها،
لِأُجْهِضَ عَلَيها قَبلَ خُروجي
عَلِيلًا إلى بَحْرِ يَومٍ جَديد.

أُطْلقُ من عَيْنيَّ سِهامًا حادّةً،
رائِشةً بِخَليطٍ من أفكارٍ عَتِيقَةٍ،
بلا خُيوطٍ تَرْبطُها، بلا حُروفِ
عَطْفٍ، بِلا أَسْماءَ مَوْصولةٍ،
بلا أَفْعالٍ مَعْلولةٍ، كَتِلْكَ الَّتِي
قَدْ تَتَقلّصُ مَعَ وُقُوعِها فِي
شِباكِ جُمَلٍ مُرْبِكَة. تَعَرّضَتْ
لٱحْتلالِ جُيُوشٍ جَرّارَةٍ تَأْمُرُ
بالمَعْروفِ، أَوِ كَتائِبِ لا شُغْلَ
لَها سِوَى ٱلنَّهْي عَن المُنْكَر.

نَظَراتي الغابِشةُ، سَهْوًا مِنْ
مَشاغِلَ يَوْمِي، تَخْترقُ زُجاجَ
نافِذَتي الكَسْلَى. ها هي تَحُطُّ
على شَجَرٍ مُنْهَكٍ في ساحةِ
البَيْت. عُنْوةً أَخذَ الشُّحوبُ
يَتَسلّلُ إلَى فُرُوعِهِ، يَهُزُّ أَوْراقِهِ
المُرْبَكَة مِنْ تَبَدُّلِ المَواسِم.

ها أنَذا أرَاها عَيَانًا آيِلةً للسُّقوطِ
لهُبوبِ نَسَماتِ صَيْفٍ قَدِيمٍ،
مُثْقَلٍ بِحاضِرٍ كَسِيحٍ. ما أشبهَ
هذا الشُّحُوبُ بأوْراقي المُسَجّاةِ
عَلَى طاوِلَةٍ أَكَلَ عليها الدَّهْرُ
وَشَرِبَ. وَعَلَيْها أَكَلْتُ أَنا فُتاتًا
مِنْ كَلامِ الصُّحُفِ، وَشَرَبْتُ
مَعَها أَخْبارَ بَشَرٍ ذَهَبُوا مَعَ
الرِّيح، وَذَهَبْتُ أَنا مَعَهُمْ إلَى
حَيْثُ ٱرْتَحَلُوا.

وَلأَنَّهُمْ لَمْ يَعُودُوا، لَمْ أَجِدْ
مَنْ يَدُلُّنِي إلى طَرِيقِ الرُّجُوع.
يا لَهُ مِنْ خَيالٍ عابِرٍ، صابِرٍ
عَلَى بُرَهٍ لا تَكِلُّ.  يَحْتَفِي
وَهْلَةً بِالحُلمِ الغارِقِ فِي
زَمَنٍ بِلا مكانٍ، فِي مَكانٍ
لا تَغِيبُ فيهِ الشَّمْسُ.

ها هُوَ رُوَيْدًا رُوَيْدًا يَخْتَفِي فِي
هَدْأَةِ الحُزْنِ. فِي يَقْظَةِ الصُّبْحِ
يَكْتَوِي سَفَرًا فِي خَيالٍ فَسِيحٍ،
فِي زَوْرَقٍ هَشٍّ رَمَتْهُ الرِّيحُ،
بِلا وُجْهَةٍ، هائِمًا فِي رِحْلَةِ
الوَهْمِ، عارِفًا كُلَّ شَيْءٍ،
ماضِيًا فِي الطَّرِيقِ لا يَضِلُّ.
وتارَةً، كما قَمَرٍ قَدِيمٍ،
يَنْزَوِي فِي أُفُقِ الغَيْبِ،
يَضْمَحِلُّ.
*

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!