من الأرشيف -
في منتصف سنوات التسعينات من القرن المنصرم كنت نشرت عمودًا صحفيًّا في جريدة ”الحياة الجديدة“ الفلسطينية، وأطلقت عليه اسم ”حبل الغسيل“. كثير من الأمور التي نشرتها آنئذ لا زالت على حالها، لقد توقّف الزمن وكأنّ شيئًا لم يتغيّر.
هاكم إحدى هذه المقالات المؤرخة بـ 5 حزيران 1995:
*
سلمان مصالحة ||
عن الوحدة العربية
قد يظنّ البعض أنّ مفهوم الوحدة العربيّة هو التّكاتف الّذي يجمع أبناءها. لكنّ الحقيقة أنّ مفهوم الوحدة هو شيء آخر، وهو في الواقع نقيض لهذا المفهوم السّائد. إنّ أهمّ ما يميّز الشّعوب المتطوّرة هو جعل الفرد في مقدّمة الأولويات. لكنّ الوضع العربي العام والفلسطيني على وجه الخصوص هو بخلاف ذلك تمامًا. ولكي يفهم القارئ العربيّ إشكالات هذا الوضع فهو ليس ملزمًا بالبحث والتّمحيص كثيرًا، بل بدل ذلك، ما عليه إلاّ أن يلتقط مثالاً صغيرًا من بيئته القريبة، فكلّ مثال يضع إصبعه عليه بوسعه من خلاله أن يخرج بنظريّة تلائم الوضع العربيّ من المحيط الفاتر إلى الخليج الخاسر.
في القديم تحدّث الفلاسفة عن الإنسان بصفته عالمًا صغيرًا، أي ميكروكوسموس للعالم، أي الكون -الكوسموس- الكبير. ومن هنا، فإنّ كلّ قرية عربيّة أو مدينة في هذا الوطن إنّما هي ميكروكوسموس أو عالم صغير يمكننا إذا أمعنّا النّظر فيها أن نشاهد العالم العربيّ بأكمله.
يحاول بعض النّاس أحيانًا - ولا أستثني نفسي من ذلك - أن يتشبّث بحبال الرّيح معدّدًا الكرّات الكثيرة من الجماهير العربيّة، معلّلاً النّفس بإمكانيّة قيام وحدة عربيّة لها ميراث عريق ومستقبل زاهر، وهي طفرة يحاول من خلالها أن يسبح في فنطازيا من عالم آخر. لكنّ الحقيقة أنّ هذه الآلاف المؤلّفة والملايين المُليّنة من الأعراب ما هي إلاّ أمر خيالي لا يستند إلى أيّ أساس على أرض الواقع، لأنّ إجراء حساب بسيط يثبت بطلان هذه النّظرة.
فكيف، إذن، نجري هذا الحساب؟
أوّلاً، لنفترض أنّ ثَمّ عددًا معيّنًا، ولنقل مائتي مليون من العرب في هذا العالم. فهل هذا العدد هو عدد حقيقيّ أم أنّه مجرّد وهم؟
الإجابة على ذلك بسيطة. إنّه وهم كبير طالما ربينا عليه، وآن الأوان إلى فضحه.
فكيفَ نفضحه إذن؟
إذا افترضنا أنّ ثَمّ عددًا متساويًا من الرّجال والنّساء فالحساب البسيط يكون مائة مليون رجل، ومثال ذلك من النّساء. ولمّا كانت المرأة في الوطن العربيّ معطّلة عمليًّا، أو هي كالعضو المشلول في الجسد، فلا يمكن حسابها بأيّ حال، إلاّ فيما ندر. ولذلك فإنّ ما يتبقّى هو مائة مليون من العرب. ولكن هل المائة المليون هؤلاء هم حقيقة أم خيال؟ إنّهم وهمٌ أيضًا. فإذا افترضنا أنّ الأمّيّة في الوطن العربي تبلغ ما يقارب التّسعين بالمائة، وهذه حقيقة أيضًا، فمعنى ذلك أنّ تسعين مليونًا من هؤلاء الرّجال يبذلون جلّ وقتهم في البحث عن طعام للفراخ، زغب الحواصل، الّذين لا يذهبون للمدارس بل يكبرون فقط لمجرّد التّفريخ هم أيضًا بغية استنساخ أنفسهم دونما جدوى.
إذن، ما تبقّى لدينا يشكّلون عشرة ملايين من الرّجال. وهؤلاء أيضًا هم وَهْمٌ كبير. هو وهمٌ لأنّ تسعًا وتسعين بالمائة من هؤلاء، أيّ تسعة ملايين وتسعمائة ألف رجل، منتظمون في أحزاب سلطويّة في هذا القطر أو ذاك، جلّ همّها ينصبّ على صبّ الماء على أيدي هذا الزّعيم الزّاعم والمزعوم، بغية الانتفاع بهذا الفتات أو ذاك، وابتغاء الاستمرار في استغلال ما سقط من أعداد فيما ذكرتُ أعلاه من حساب.
وهكذا بقي في أيدينا مائة ألف من العرب. فهل هؤلاء حقيقة؟
الجواب بالنّفي القاطع، يا عزيزي القارئ. ولا شكّ أنّك الآن تسأل لماذا؟
هل هؤلاء المائة ألف من المثقّفين العرب موجودن؟
طبعًا لأ. لأنّ تسعين بالمائة منهم، أي تسعين ألفًا، مهجّرون خارج أوطانهم وتفرّقوا في بلاد اللّه الواسعة، باستثناء بلاد العرب.
وهكذا بقي عشرة آلاف في الوطن العربي، لكنّ تسعًا وتسعين بالمائة من هؤلاء، أي تسعة آلاف وتسعمائة شخص، قد انضمّوا إلى تنظيمات سلطويّة سخّرت هي الأخرى أقلامها لخدمة تلك الفئة المتسلّطة قسرًا في الأوطان العربيّة.
بقي لدينا مائة من العرب. فماذا تفعل هذه المائة؟
تسعة وتسعون منهم، قد بلغ اليأس منهم مبلغًا شلّ حركاتهم فاعتزلوا إلى مكان بعيد عن الأنوار فلا تراهم إلاّ غبًّا.
وهكذا، لم يعد عزيزي القارئ المثابر لهذه الزّواية غيرك في هذا العالم العربيّ.
وهذا هو المفهوم الحقيقي والعميق للوحدة العربيّة، ليس بمعنى التّكاتف، بل الحياة وحيدًا في هذا اليمّ من الأعراب الأشرار الممنوعين من الصّرف في بنوك العالم، المتشبّثين بعدم الإنصراف عن الأنظار.
فما عليك، عزيزي القارئ - وربّما قارئة -، إلاّ أن تبدأ/ئي كلّ شيء من البداية.
*
نشرت: «الحياة الجديدة» الفلسطينية، 5 يونيو 1995
0 تعليقات:
إرسال تعليق