لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا، غير أنّه قد آن الأوان لنضع النقاط على الحروف المبهمات، وذلك لكي تتضّح الصورة لمن يبحث عن حقائق يحاول البعض إخفاءها عن أعين العامّة.
سلمان مصالحة
مجازر السويداء كشفت جنبلاط على حقيقته
لقد خرج علينا وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة بتصريحات تشي، على ما يبدو، بأنّه بدأ يشعر بزعزعة قد تطيح بزعامة قد ورثها من والده ويرغب في تعزيز توريثها إلى ابنه، سيرًا على ما جرت عليه عادة زعماء العربان منذ قديم الزمان ولا زال البعض منهم متمسّكًا بها رغم تبدّل الأحوال في هذا الأوان.
حريّ بنا أن نؤكّد أوّلًا أنّ ثقافة توريث الزعامات، أكانت هذه زعامة سياسية، دينية، قبلية أو طائفية هي سوس بلاء مجتمعات هذه البقعة من الأرض. وما لم تتجاوز مجتمعاتنا هذه الثقافة وتلقي بها في سلّة مهملات الماضي البليد فلن تقوم لها قائمة في عالمنا الجديد الذي لم تعد تنطلي على أجياله الناشئة كلّ هذه الموروثات التي عفا عليها الزمن.
يظهر أنّ جنبلاط قد بدأ يتخبّط بشأن الدروز في هذا المشرق، فهو يبدو في الظاهر كمن يرفع راية العروبة ويحمل همّ الدروز في هذه البقعة من الأرض، غير أنّ كلّ همّه في حقيقة الأمر ينصبّ على الإبقاء على زعامة متوارثة ليس إلا. فأيّ حزب هو هذا الذي يتسمّى بالـ”تقدمي” والـ”اشتراكي”، يرث زعامة الحزب ويورّثها لابنه، وربّما لحفيده لاحقًا؟
لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا، غير أنّه قد آن الأوان لنضع النقاط على الحروف المبهمات، وذلك لكي تتضّح الصورة لمن يبحث عن حقائق يحاول البعض إخفاءها عن أعين العامّة.
لقد كشفت مجازر جرمانا وأشرفية صحنايا، وما تلاها من مجازر بحقّ الدروز في محافظة السويداء أنّ جنبلاط كان بعيدًا عن الهمّ الدرزي إثر المجازر التي ارتكبتها عصابات الجولاني ومليشياته التكفيرية. ليس هذا فحسب، بل رأيناه يتفوّه واصفًا من هبّ واقفًا في وجه هذه العصابات دفاعًا عن أهله وأرضه في السويداء، أو من انتفض لدينا في الجليل والكرمل لنجدة الجبل وأهله بأنّهم تيّار انعزالي. لقد هبّ الأهل هنا للدفاع عن ربعهم في محافظة السويداء إثر الهجمة البربرية والمجازر التي ارتكبتها بحقّهم المليشيات الإرهابية التكفيرية المؤتمرة بإمرة الجولاني، أو من بعض شراذم العشائر التي شحنتها زمرته الباغية بفتاوى ابن تيمية. لقد نسي جنبلاط ومن يتّبعه من المقتاتين على فتات زعامته أنّ التيّار الانعزالي العربي هو ذلك التيّار الذي رضع كراهية بني البشر منذ نعومة مخالبه الدينية، ونشأ على ثقافة تكفير كلّ من لا يرغب في التشبّه به لا ثقافيًّا، ولا دينيًّا، ولا اجتماعيًّا أو حضاريًّا. فهؤلاء هم الانعزاليون الذين، وبذهنيّتهم التكفيرية لسائر البشر، قد عزلوا أنفسهم عن الانتماء لبني البشر أصلاً.
لقد هبّ أهلنا هنا وفي كلّ مكان، سادقين بلسانهم حافظين لإخوانهم في محافظة السويداء الذين تعرّضوا لهجمة بربرية إبادية حرقت وقتلت البشر ودمّرت الحجر من المعابد والكنائس، وحتّى المدافن فقد نُبشت بحثًا عن تعفيش الموتى. فإذا كان جنبلاط يرغب في الانتماء إلى هؤلاء النفر كما قد أشيع عنه من دعوته إلى العودة إلى الإسلام لأداء الفرائض الخمس وإلى بناء الجوامع فهذا شأنه هو شخصيًّا وشأن زمرة تابعيه والمنتفعين من فتات زعامته الآيلة إلى زوال، ولا شأن للدروز به بأيّ حال من الأحوال. وكما يُقال بلهجتنا، فبودّنا أن نقول له: “البس قبعك والحق ربعك”، واترك هذه الطائفة وشأنها.
كما نؤكّد لجنبلاط ومن لفّ لفّه: لسنا بحاجة إلى جوامع فما أكثرها وما أقلّ بركتها في هذا الشرق المأزوم والمهزوم بذهنيّاته التكفيريّة. لسنا بحاجة إلى صلوات خمس ولا إلى فرائض خمس، وإنّما نحن بحاجة إلى مدارس وجامعات، إلى ساحات يسرح فيها العقل حرًّا باحثًا عن أسرار الطبيعة اللامتناهية. كما نقول لجنبلاط ولأمثاله: إنّ فرائضنا ليست خمسًا بل هي فرائض لا أوّل لها ولا آخر، وهي فرائض الخير التي يشملها ويقبلها العقل بكُلِّيته، فقط لا غير. فلا شأن لنا بفرائض أخرى لأناس آخرين، فهذه نتركها لأهلها فهذا شأنهم هم فقط. نحن هنا وفي كلّ مكان نكرّر ونقول كما قال سلطان الأطرش: ”الدين لله والوطن للجميع”، فالدروز متجذّرون في أرضهم لا يعتدون على أحد، ويهبّون إذا ما اعتدى على أحدهم أحد.
كما نعود ونؤكّد أبعد من ذلك فالدّين ليس فقط لله وحده، بل لكلّ الآلهة على كافّة تشكيلاتها في هذا الكون الواسع الشاسع الغنيّ بحجره وشجره، بحيوانه وبشره، منذ أن خطا الإنسان الأوّل على سطح هذه الأرض ورمقت عيناه النّور، وكشف عقله أسرار الكون بالطول والعرض.
لم يكن الدروز في يوم الأيام انعزاليين عن مجتمعاتهم، بل كانوا في طليعة المدافعين عن أوطانهم. لكن في الوقت ذاته، لم ولن يقبل الدروز في أوطانهم وفي كلّ أماكن تواجدهم إلاّ أن يكونوا على قدم المساواة مع سائر الملل والنحل في هذا العالم مع الحفاظ على خصوصيّاتهم ورؤيتهم الكونية للحياة والممات وما بعد بعد الحياة والممات.
وإذا كان جنبلاط قد أدمن على التلاعب بمشاعر الدروز لا لسبب إلّا لسبب واحد وحيد وهو الحفاظ على مخترة وزعامة المختارة وتأبيدها، فقد آن الأوان لوضع الحدود له ولتقلّباته. لا شأن لنا بقضاياه العائلية الشخصية ولا بزيف شعاراته وشعارات حزبه العائلي. فإذا كان الدروز في إسرائيل قد هبّوا لنصرة أهلهم في السويداء وضغطوا لتدخّل إسرائيل لحماية الدروز في جبل العرب، فقد فعلوا ذلك لأنّ ”الحضن العربي” الذي يتبجّح جنبلاط بالانتماء إليه لم يحرّك ساكنًا لنجدتهم ضدّ الهجمة البربرية التكفيرية التي خرجت لإبادتهم، فقط لكونهم دروزًا. لعل من المفيد تذكيره أيضًا بأنّ الدروز هنا كانوا في الماضي قد فعلوا ذات الشيء نصرة لأهلهم في لبنان. هل يتناسى جنبلاط كلّ ذلك الآن؟
ولعلّ من المفيد أيضًا أن نذكّر جنبلاط وتجّار العروبة والوطنية الذين جلبوا الويلات على شعوبهم أنّ الأرشيفات الصهيونية تكشف الكثير عن الملوك والأمراء والزعامات العربية التي باعت فلسطين وغيرها للحركة الصهيونية. فالأرشيف الصهيوني يعجّ بتدوين المراسلات واللقاءات مع القيادات الصهيونية في الماضي، كما يعجّ بالوثائق التي دوّنها رجال الموساد بعد قيام إسرائيل ولقاءاتهم ومحادثاتهم مع زعامات عربية من مشارق العرب إلى مغاربهم.
بهذا السياق نودّ أن نذكّر جنبلاط ببعض ما تكشفه هذه الأرشيفات عنه شخصيًّا. على سبيل المثال نذكّره بالموفد الدكتور عاطف سلوم الذي التقى في القدس بمدير عام مكتب رئيس الحكومة في شهر مارس من العام 1983، والمباحثات التي أجراها آنذاك. كما نذكّره أيضًا بجلسة ثانية حصلت في القدس أيضًا بعد أسبوعين شارك بها إلى جانب الدكتور عاطف سلوم شخص آخر هو هشام ناصر الدين ولا شكّ أن جنبلاط يعرفه جيّدًا. وربّما من المفيد أيضًا أن نُذكّر جنبلاط باللقاء والحديث الذي جرى بينه شخصيًّا وبين رجل الموساد في العام 1990 في بيت الضيافة للجنة المركزية للحزب الشيوعي في موسكو.
هل يرغب السيد وليد جنبلاط أن نكشف للقارئ تفاصيل هذه اللقاءات وما دار بها من أحاديث؟ فإذا أجاب بـنعم، نقول له: أبشر.
وخير ختام لهذا الكلام هو قول طرفة بن العبد:
”ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ”
والعقل وليّ التوفيق.
*
إقرأ أيضًا:
بالعربية: الشعرة التي انقطعت في السويداء
بالعبرية: טבח הדרוזים בסוריה היה ידוע מראש
بالإنكليزية: Chronicle Of A Massacre Of Druze In Syria Foretold
0 تعليقات:
إرسال تعليق