في الحقيقة، لو كُنّا حقّاً منصهرين في هويّة واحدة وولاءات دينية، حضاريّة وثقافية واحدة، لكانت حياتنا، نحن العرب، طبيعية ولما احتجنا إلى كلّ هذا الرّكام من الكلام البلاغي...
سلمان مصالحة ||
هل نحن مثل ما نقول؟
منذ سنين طوال وقفت على ظاهرة عربية فريدة من نوعها. لقد شدّت هذه الظاهرة انتباهي فوجدتني أتفكّر فيها مليّاً محاولاً سبر ما تُخفيه. لقد لاحظت أنّه كُلّما ازداد كلام العرب حملاً للمحسّنات البلاغية في مقالاتهم التي تُدغدغ العواطف عن «الحياة المشتركة» و «الشعب الواحد لا الشعبين» وتدبيجها بمقولات جاهزة مثل «الدين لله والوطن للجميع»، عرفت بيني وبين نفسي أنّ الأمر أكثر مدعاة للكآبة منه إلى أيّ نوع من الفرح.
منذ أن درجنا على هذه الأرض، وفي هذه الناحية من العالم ونحن نسمع مثل هذا الكلام وبتنويعات مختلفة. يكثر مثل هذا الكلام على وجه الخصوص في الأماكن التي يعيش فيها خليط من الطوائف ذات الأصول العربية، وسواها. بوسع القارئ، إن كان نشأ وترعرع في بلد يسكنه مثل هذا الخليط، أن يتحسّس ذاكرته قليلاً، أن يفتح مغاليقها بعض الشيء ويراجع ما سمعه صغيراً في بيئته الصغرى، ومن ثمّ في بيئته العربية الكبرى التي يُطلق عليها ذلك المصطلح الفضفاض «العالم العربي».
في الحقيقة، لو كُنّا حقّاً منصهرين في هويّة واحدة وولاءات دينية، حضاريّة وثقافية واحدة، لكانت حياتنا، نحن العرب، طبيعية ولما احتجنا إلى كلّ هذا الرّكام من الكلام البلاغي الّذي يكشف في واقع الأمر عن نقيض ما يحمله من أحلام، والأصحّ أن نقول: ما يحمله من أوهام.
لقد قالت العرب قديماً إنّ أعذب الشعر أكذبه. وها نحن الآن في القرن الحادي والعشرين لا زلنا نتغنّى بهذا الكذب القومي المعسول، من دون أن نتوقّف قليلاً وننظر إلى أنفسنا في المرآة. هل حقّاً نحن نحن؟ هل حقّاً نحن مثل ما نقول؟
ومع مرّ الزّمن وتسريع قطارات التحديث والعصرنة، ازداد التباسنا، فلا ندري كيف نندسّ في طوابير المجتمعات السائرة قدماً. لقد التبست علينا كلّ منظومات هذا العصر السياسية والاجتماعية والحضاريّة، فوجدنا أنفسنا مشدوهين إزاءها لا ندري كيف نواجهها. والحقيقة المرّة أيضاً هي أنّنا، ما لم نواجه مثل هذه الأسئلة، بيننا وبين أنفسنا، فلن نصل إلى سواء السبيل، ولا إلى حلّ لمعضلتنا الوجوديّة في هذا الأوان.
لننظر قليلاً من حولنا. ألسنا نشتم ليل نهار المستر سايكس والمسيو بيكو؟ لكنّنا، وفي الوقت ذاته، وبعد أن تذهب سكرة الشّتم وتجيء فكرة الهمّ، نتشبّث ليل نهار بما رسمه لنا هذان «الإفرنجيان» الأوروبيان من حدود هزيلة تفصل بيننا. هكذا، وعلى خلفية هذا التناقُض في ذواتنا، أضحينا مهزلة العالم في نهاية المطاف.
لننظر قليلاً إلى كلّ هذه الكيانات المُستحدَثَة لدينا، من ممالك وسلطنات وجمهوريّات غريبة الأطوار. هل يمكن أن نُطلق على ما تجمعه من قضّها وقضيضها شعباً ذا هويّة جامعة ووادعة، أم إنّ الكلام بهذه المصطلحات مجرّد أضغاث أحلام؟ هل نحن شعب بحقّ وحقيق، إم أنّنا مجرّد شراذم قبلية وطائفية متصارعة لا ترعوي من ارتكاب المجازر بحقّ من لا ينتمي إلى بطوننا الجهلاء، وأفخاذنا الحمقاء التي جعلنا منها عِلْماً في النَّسَب نتباهى به على الملأ في عالَمٍ فاتنا فيه قطار العلم الحقّ الّذي يكشف مغاليق الكون في خدمة الكائنات أجمع.
وهكذا وجدنا، نحن العرب، أنفسنا على قوارع الطرق لا يلتفت إلينا أحد، ننظر يمنة ويسرة في هذه المفازة وفي هذا الجدب، فلا ندري ماذا نحن فاعلون. هكذا عدنا، كما حليمة، إلى عاداتنا القديمة في الاقتتال وارتكاب الجرائم بحقّ من ندّعي الانتماء معهم للوطن ذاته وللإله ذاته.
وإزاء ما نرى ممّا يجري في ربوعنا من حولنا، ألا يحقّ لنا أن نقول على الملأ ودون لفّ ودوران: إنّنا أكذب أمّة أخرجت للنّاس؟
*
نشر: صحيفة ”
الحياة“، السبت، 21 يونيو 2014