من باميان إلى النمرود - همجية بلا حدود

سلمان مصالحة ||

من باميان إلى النمرود - همجية بلا حدود




لقد بدأ هذا المسلسل قبل عقد ونصف من الزمان. كان الوقت آنئذ ربيعًا أيضًا. حريّ بنا أن نتذكّر تلك الواقعة في الوقت الذي نشاهد ارتداداتها في هذه المنطقة العربية. لم تكن الضحيّة في ذلك الوقت من لحم ودم ولم تكن من البشر، بل كانت منحوتة في الحجر، أو معمولة من ذات الطين الذي عُجن منه الإنسان كما ورد في أسطورة الخلق.

قبل عقد ونصف أقدمت عصابات الملا عمر على نسف وتدمير تمثال بوذا الكبير في وادي باميان في أفغانستان. لقد صمد ذلك التمثال المنحوت في الجبل ويبلغ ارتفاعه ثلاثة وخمسون مترًا طوال قرون طويلة، رغم المحاولات المتعددة لهدمه على مرّ التاريخ. غير أنّ عصابات طالبان أفلحت قبل عقد ونصف في الإجهاز على هذا الصرح الشاهد على حقبة غنيّة من التاريخ البشري.

وها هي عدوى هذا الوباء من الهمجيّة تنتقل من ذلك الشرق الأبعد لتصل إلى هذه الربوع وإلى هذا المشرق العربي. هكذا شاهدنا وشاهد العالم من حولنا كيف أعملت العصابات التي تنهل من ذات العقائد المتخلّفة معاولها في المتاحف والعراقية، وهكذا أقدمت ذات العصابات على هدم وتجريف المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين. لقد هدمت آثار تل النمرود، ثمّ انتقلت إلى آثر مدينة الحضر الأثرية، الذي يشكّل أحد أهمّ المواقع التي لها علاقة وثيقة بالأساطير العربية السابقة للإسلام. نعم، هنالك خيط رفيع يربط بين عصابات طالبان وبين عصابات ”داعش“. إنّها ذات العصابات لأنّها تستند إلى ذات الأيديولوجية، لقد تعدّدت الأيادي البربرية والجريمة واحدة. تعدّدت الأسباب والأيديولوجية واحدة.

إنّ الإدانة وحدها لا تكفي. هنالك ضرورة ملحّة إلى خلق إجماع عربي وعالمي والعمل على كبح جماح هؤلاء البرابرة الجدد، بمعزل عن الخلافات السياسية التي قد تكون موجودة. إنّ هذا الإرث الحضاري في هذه المنطقة هو إرث لكلّ الأطياف البشرية التي تقطنه، بل وأبعد من ذلك، إنّه إرث الإنسانية جمعاء. فإذا كانت هذه المنطقة مهد الحضارة الإنسانية فلزام على من ينتمي إلى هذه الإنسانية أن يضع حدًّا لهذه الجرائم.

ولكن، وفي ضوء ما يجري، يعلو سؤال لا مناص من طرحه. ما الّذي يجري هنا؟ وما هي الأسباب التي تدفع أتباع هذه الأيديولوجية البربرية إلى ارتكاب كلّ هذه المجازر بحقّ البشر وبحق الحجر الذي نُقش فيه تراث هذه البقعة من الأرض؟

برأيي، ليس صدفة أنّ هذه العصابات الإسلامية قد جنحت إلى هدم ومحو هذا الميراث الحضاري. إنّ هذه الجرائم هي شاهد على الأزمة التي تنخر في الإسلام والأزمة التي تنخر في العرب. إنّ هذه الجرائم هي أكبر دليل على الهزيمة الحضارية التي هي السمة المميزة لهذه المنطقة طوال قرون طويلة. إنّ الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي أدّت إلى تقريب العالم من بعضه البعض ودفعت انفتاح كبير حيث أضحى الفرد يشاهد على الشاشة ما يجري حوله في هذا العالم بكبسة زر، قد أبرزت بصورة لا يرقى إليها الشكّ كلّ هذه الهشاشة الحضارية للإسلام والعرب في العصر الراهن.

إنّ الانتقام من هذا الميراث الحضاري نابع من أنّه سابق للإسلام. نعم، فحتّى هذه الآثار والصروح الحضارية ليست من عمل الإسلام. عندما ينظر أتباع هذه الأيديولوجية البربرية من حولهم، ماذا يجدون؟ كلّ هذا التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي يدفع البشرية قدمًا، لا ناقة له فيه ولا جمل. إنّه مجرّد مستهلك وحسب. وعندما ينظر إلى كلّ هذه الصروح العمرانية والحضارية في هذه الآثار، فهي أيضًا ليست من عمله ولا من إبداعه. وإذا أضفنا إلى كلّ هذا الخواء الذي يعيش فيه الإنسان العربي والمسلم، المهزوم والمأزوم في آن، أنظمة الاستبداد الجاثمة طوال عقود على صدره، تُضحي هذه الحالة أحد أهمّ الدوافع للانتقام من كلّ شيء. إنّها أبرز شاهد على كون هذه الحضارة تنقصها الثقة بالنفس.

ليس من السهل الخروج من هذه الأزمة الحضارية. لكن، بغية الخروج منها يجد بنا أوّلاً أن نُشخّص المرض قبل التحوّل إلى تطبيبه. لذا، يجب البدء بإعادة الثقة بالنفس العربية. غير أنّ هذه الثقة لا يمكن أن تعود إلاّ عبر بناء دولة المواطنة الواحدة الجامعة لكلّ الأطياف. لا يمكن أن تعود الثقة إلاّ عبر دولة المؤسسات وفصل الدين والطائفة والقبيلة عن الدولة. لا يمكن إعادة الثقة إلاّ بدفع المرأة العربية لتتصدّر الحياة السياسية والاجتماعية بعد كلّ الفشل الذكوري على مرّ القرون. لا يمكن إعادة الثقة إلاّ بوضع الإنسان العربي المفكّر الحرّ في المركز.
هذه هي بداية الطريق. فهل نبدأ من هنا هذه الرحلة؟
*
نشر: ”الحياة“، 12 مارس 2015 



"البيت العربي"

مقالة مترجمة بتصرف

سلمان مصالحة || "البيت العربي"

يعيش اليهود والعرب في هذه الدولة في عالمين متوازيين من دون أن يكون بينهما تقريباً أي نقاط تماس. فهناك بلدات عربية وهناك بلدات يهودية. وحتى في تلك البلدات التي يطلق عليها "بلدات مختلطة"، هناك أحياء عربية وأحياء يهودية. باختصار، فإن الأبارتهايد الاجتماعي قائم وموجود.

ربيع الممالك العربية


سلمان مصالحة || 

ربيع الممالك العربية




ها نحن نقترب من نهاية العام الرابع على الانتفاضات التي ضربت أكثر من قطر في أنحاء العالم العربي مشرقه بمغربه. أقول انتفاضات ولا أقول ثورات عن سابق قصد، إذ إنّ ما جرى في الأعوام الأخيرة في كلّ تلك الأقطار لا يمكن بأيّ حال أن يُسمّى ثورة بما تعنيه هذه الكلمة في العلوم السياسية.

كلام في وداع صديق مغترب




سلمان مصالحة ||

كلام في وداع صديق مغترب



كعادتي هذا الصباح، كما في الصباحات الأخرى، وبعد الفراغ من قراءة الصحيفة الورقية العبرية في هذا البلد الفصامي دلفت إلى الحاسوب لتتبّع ما تنشره بعض الصحف العربية في هذا الفضاء الكبير. لقد وقع نظري على مقالة حملت عنوانًا غريبًا بعض الشيء هذه المرّة. كان في العنوان شيء من الحميمية، غير أنّه كان بمثابة طرف الخيط الذي شددته فاختلطت عليّ كلّ هذه الشبكة من الهواجس ولم أفلح في حلّ خيوطها وتتبّع تشعّباتها.


ليس من عادة الكاتب حازم صاغية أن يضع عنوانًا كهذا لمقالته. وما أن وقع نظري على العنوان الذي حمل الاسم حتّى أخذ الفأر يلعب في العبّ. عندما يحمل العنوان اسمًا لشخص فإنّ شيئًا ما قد حصل. كم وددت أن يُخطئ حدسي! ولكن سدى. وهكذا طفقت الأفكار تتشتّت بين الشرق والغرب، بين القدس وباريس. نعم، هناك في باريس وقبل سنوات كان اللّقاء الأوّل، ثمّ كانت لقاءات أخرى ومكالمات هاتفية ورسائل متبادلة تستفسر عن الأحوال وعن طول غياب.

من أين أبدأ هذا الكلام؟ ليس من السهل الإمساك بخيوط هذه الهواجس الداهمة في هذا الصباح هنا على تخوم الصحراء. فكلّما حاولت الإمساك بطرف خيط ومحاولة شدّه واقتفاء أثره في هذه الشبكة كلّما ازدادت تعقيداتها واشتباكاتها. هل أقول إنّه لبنان؟ قد يكون هذا القول صحيحًا لكنّه ليس كافيًا وافيًا. هل أقول إنّه الشام؟ وهذا أيضًا ليس وافيًا وكافيًا. إذن، هل هو المشرق العربي؟


وهل كلّ هذه التساؤلات التي تعلو وتتحلّق كحلقات دخان السيجارة في فضاء الغرفة في هذه البقعة من المشرق هي تساؤلاتك أنت بحثًا عن الذات، أم هي تساؤلات عن ذلك المشرق القاطن في الغرب، الحائر في الغربة.
لقاء في باريس

لقد كانت اللقاءات مع سائر الأصدقاء المغتربين عن أوطانهم، مكرهين لا أبطالاً، فرصة لجسّ نبض تلك الأوطان التي تلفظ الأنبياء وتلقي بهم على قارعة المقاهي في ذلك الغرب الفسيح. لقد كان بشير هلال واحدًا من هؤلاء الذين حملوا أوطانهم على أكتافهم وأنبتوها على ألسنتهم فأينعت كلامًا حزينًا وعميقًا. كم كُنت أرى ذلك الحزن الذي طالما حاول أن يخفيه خلف ستار كثيف من دماثة الأخلاق وبشاشة الوجه. لقد كان بشير يقطن في الغرب جسديًّا غير أنّه، ككثيرين من زملائه، كان يعيش في المشرق العربي حيثما سار بكلّ جوارحه. ولعلّ في هذه الرسالة التي أرسلها إليّ قبل سنوات ولا زلت أحتفظ بها ما يشي بعمق هذه الآصرة الوجدانية التي كانت تربطه بهذا المشرق الغارق في الظلمة.
*



”عزيزي سلمان

سلام على من جعل العقل منارته والحكمة دواته والتنوير يراعه

أخي العزيز،

حالنا كحال الذي يتنقل بين حلكة وظلمة وديجور. كأننا من فرط ملاحقتنا السراب غدونا ظله وشبحه نعيش كما لو كنا في قافلة ليس لها من راع ولا وجهة ولا قرار. وكأنما لم نعد نعرف حياة غيرها.

لا أعرف إذا كان يجب أن ننسى أو نتذكر. ولكني بكل بساطة أشعر أنه من الظلم الشديد أن يولد المرء لبنانيا أو فلسطينيا أو عربيا أو عبرانيا أو شرق أوسطيا أو ما شئنا في هذه الصحراء التي تحترق هوامشها الخضراء وحواضرها التي كنا نظن لبعض الوقت أنه بمستطاعها الانفكاك عن بداوة تقيم في أثنائها وتحاصرها .

أيها الصديق العزيز،
أود بمقابل هذه المشاعر الكئيبة الماكثة في النفس أن أعلن حبوري بقدومك الى باريس في نهاية نيسان.

أنا كما أسلفت لم أتفرنس في فاكانس أو سواه.

أنا واثق أنك ستحمل معك بعض الشمس أيضا.

بالانتظار

بشير” (6 مارس 2008)

*
هل كانت هذه الشمس التي يحلم بها هاجسًا يقضّ مضجعه في بلاد غربته؟ إنّه هناك، في باريس، يحلمُ بالشمس. غير أنّ نورها الذي كان يبحث عنه في المشرق كان يقلقه أيضًا. إذ أنّ الشمس في المشرق قد تُبشّر بمخاطر أخرى، مخاطر الحروب التي لها أوّل وليس لها آخر. الحروب هنا، كما تعوّدنا عليها، تنشب في الصيف، وليس في الشتاء. لهذا كان بشير قلقًا أيضًا من صيف هذا المشرق.
*



”عزيزي سلمان،

الشمس هنا مُقتّرة كأنها تخبىء إشعاعها في الأيام البيض لأيام سوداء. فيشعر القادمون من شمس قوية الحضور بيتمٍ طالما اعتقدوا أنهم لن يصادفوه باكرًا.

كان لنا أن لا نحزن لذلك لولا أننا نستقبل صيفًا لا ندري ما نفعله به وله وعنه.

كان الصيف سيبدو جميلا على تلال قرنايل وصنوبرها وبين كلام أهلها.
لكنّ لبنان، كما منطقتنا بأسرها، لا يقدم الا الاستعصاء تلو الاستعصاء. استعصاء السلام والدعة والهناء حتى لو كان مؤقتا. بشير“ (21 يونيو 2008)


*
وبعد،
ماذا أقول لربعه، أصدقائه ومحبّيه؟
ليس فقط أنّه لم يتفرنس ولم يتفكنس، بل ظلّ وفيًّا لروحه، لمشاريعه الثقافية والسياسية التي لم تتحقّق، لقد ظلّ وفيًّا لأحلامه الكبرى التي كانت مفتوحة على مصاريعها بانتظار النور الذي سيبزغ من المشرق على أهل المشرق لينتشلهم من هذه الظلمة التي طال أمدها.

مع بداية الهبّات والانتفاضات الشعبية في غير مكان من العالم العربي، كان متفائلاً بعض الشيء. لقد ظنّ بأنّ شيئًا ما جديدًا سيحلّ في هذه الربوع. غير أنّ السنين تمرّ والأجساد تخرّ بينما النّور لم يبزغ بعد في هذه البقعة من الأرض.

وها هو قد رحل عنّا الآن حاملاً على أكتافه أحلامه المتألّقة وأوطانه المتمزّقة.
كم كنت أودّ، قبل أن ترحل عنّا أيّها الصديق، أن أحمل لك شيئًا من هذه الشّمس، بصيصًا من نور يخرج من تخوم هذه الصحراء ليحطّ في مدينة الأضواء.

فماذا أقول؟
هل أقول لك: أنتم السابقون ونحن اللاحقون؟ أم أقول لك وأنت العارف أيضًا: أنت السابق وأنا التالي.
لكن، مهما يكن من أمر هذه الرحلة الأبدية بحثًا عن النّور خلف سدول هذا الديجور المحدق بنا، سيبقى العقل أبدًا وليّ التوفيق.
فَقِرَّ عَيْنًا وَسُرَّ بَيْنًا.
*
نشر أيضًا: شفاف الشرق الأوسط
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!