الجمعة، 27 يوليو 2012

سورية غير مصر



طوال عقود طويلة أطعم هذا النّظام مراهقي العروبة الكثير الكثير من الجوز الفارغ عن الصمود والتصدي وصولاً إلى ”الممانعة“، وهو المصطلح العربي المبتكر الجديد. طالما تلقّف مراهقو العروبة هؤلاء، ولا يزال البعض منهم حتّى يومنا هذا، يبتلعون هذه الأكاذيب البعثيّة، كما لو أنّها كانت كلامًا مُنزلاً لا يدخله الباطل.

سلمان مصالحة || سورية غير مصر

بعد أن اندلعت
الانتفاضات الشعبيّة في غير بلد من بلدان العرب التي شاع تسميتها بـ ”الجمهورية“ وبـ”الثورية“ وما إلى ذلك من تسميات كاذبة، سارع بشّار الأسد إلى التصريح في وسائل الإعلام الغربية بأنّ ”سورية ليست تونس وليست مصر“. لقد كان الأسد يعرف ماذا يقول لأنّه كان يعني ما يقول ويعلم ما يدور حوله في بنية وتركيبة المجتمع السّوري ويعرف ما يدور في أروقة النّظام القبلي الفاشي.

وها هي الانتفاضة السورية ضدّ حكم الاستبداد القبلي الذي طال أمده لا زالت مستمرّة، ومن الجهة الأخرى لا زال النّظام يرسل عسكره ودبّاباته وطائراته لزرع الموت والدّمار في أرجاء سورية. وهكذا نرى أنّ سورية حقًّا ليست تونس وهي ليست مصر. فالجيش التونسي لم يدكّ المدن التونسية ولم يعث فيها قتلاً ولم يزرع فيها دمارًا، كما إنّ الجيش المصري لم يهدم المدن المصرية على رؤوس ساكنيها أو يشرّد أهلها إلى دول الجوار.

نعم، سورية ليست مصر.
لكي نفهم ما يجري في هذه الأصقاع العربية، يجدر بنا الابتعاد عن الرؤى الرومانسية والانعتاق من اللغة البلاغية التي شكّلت طوال عقود طويلة كواتم عقول على رؤوس الأجيال العربيّة. إذا ما أردنا بصدق أن نستشرف علامات الطريق إلى غد أفضل، فحريّ بنا أوّلاً أن ننظر في أحوالنا بعيدًا عن سلطة العاطفة. صحيح أنّ الابتعاد عن العاطفة ليس بالأمر السهل، إذ أنّنا بشر والعاطفة جزء هامّ من بشريّتنا، غير أنّه لزامًا علينا وضع العاطفة جانبًا بغية رؤية الواقع المجرّد من الضبابيّة التي تأتي بها العواطف.

وهكذا، يمكننا القول حقًّا
إنّ سورية غير مصر، وذلك لطبيعة التركيبة البشرية المختلفة. فإذا ما وضعنا جانبًا المسألة القبطيّة في مصر، فإنّ التركيبة الاجتماعية المصريّة هي أبعد ما تكون عن المثال السّوري. لهذا السبب، فإنّ تركيبة الجيش المصري هي تركيبة مختلفة، وكذا هي تركيبة قيادة الجيش المصري. فالجيش المصري لا يتألّف من قبائل وطوائف بل هو جيش مصريّ بحقّ وحقيق، ولذلك لم يخرج هذا الجيش ضدّ شعبه، فهو منه وإليه.

بينما لو نظرنا في التركيبة السورية فإنّنا نرى رأي العين هذا الفارق الكبير بين الجيشين. لقد حوّلت قيادة حزب البعث العربي الفاشي سورية، ومنذ عقود إلى مملكة قبليّة طائفيّة تتخفّى وراء شعارات البلاغة العربية البليدة. فعندما تتحوّل القيادات العليا في الجيش والمخابرات والأمن رضافة إلى الاقتصاد إلى محميّات قبليّة وطائفيّة للأبناء وللأخوال والأعمام وللمقرّبين من المنتفعين، فلا يمكن أن يكون النّظام في حال كهذه إلاّ نظام مافيا، ينصبّ جلّ اهتمامه على مواصلة الإمساك بزمام الأمور مهما بلغ ثمن ذلك.

وهذا بالضبط ما هو حاصل
منذ نشوب الانتفاضة السورية ضدّ الاستبداد المافيوزي لهذا النّظام الإجرامي. طوال عقود طويلة أطعم هذا النّظام مراهقي العروبة الكثير الكثير من الجوز الفارغ عن الصمود والتصدي وصولاً إلى ”الممانعة“، وهو المصطلح العربي المبتكر الجديد. طالما تلقّف مراهقو العروبة هؤلاء، ولا يزال البعض منهم حتّى يومنا هذا، يبتلعون هذه الأكاذيب البعثيّة، كما لو أنّها كانت كلامًا مُنزلاً لا يدخله الباطل.

لقد قُضي أمر هذه المافيا
وهي إلى زوال محتوم. فمنذ البداية بنى هذا النّظام استراتيجيته مع الانتفاضة السورية على الذهاب في مواجهتها حتّى النهاية، لأنّ هذه هي طبيعة المافيا أصلاً، والنّظام بلا شكّ أعلم بهذه الحقيقة من غيره. لم تعد هنالك طريق رجعة، فكلّ هذه الدماء السورية المسفوكة لا تبقي طريق رجعة وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّ ”اللّي فات مات“. لكنّ السؤال الآن هو كم من الدّماء السورية ستسفك في طريق هذه المافيا إلى الاندثار؟

ولأنّ سورية غير مصر، ولأنّ تركيبتها المجتمعيّة هي خليط من الطوائف والإثنيات والقبائل المتمركزة في مساحات جغرافية معيّنة غير متداخلة أحيانًا، فإنّ الخطر الذي يهدّد سورية في هذا الأوان هو خطر التفتّت والتفكّك إلى أقاليم طائفيّة. إذ أنّ هذه الطوائف ستكفئ على نفسها في حرب دفاع عن وجودها أمام هذا الدّمار الحاصل في الكيان السياسي. هذا الدّمار هو من صنع النّظام المافيوزي ذاته الذي أوصل البلد إلى هذه الحال من التشرذم، ومن تعميق الأحقاد الطائفيّة.

هذه هي حال هذه الأصقاع
العربية التي تمّ اغتصاب السلطة فيها وتمّ اغتصاب الحجر والشجر والبشر فيها أيضًا. عندما لا تنبني البلاد على هويّة مدنيّة فإنّها تسير بخطى ثابتة على طريق الاستبداد، ولمّا كان الاستبداد مصيره إلى زوال فإنّ مصير البلاد يصبح رهينة لنزوات القبائل والطوائف المتناحرة، فيشقّ بذلك الطريق إلى حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

يكفي النّظر إلى ما جرى وما هو جار في العراق، وإلى ما جرى وما هو جارٍ في لبنان، وإلى ما جرى وما هو جار في سائر بلاد العربان من تناحر قبلي وطائفي مقيت، ومن تقتيل طائفي وتمزيق وتقطيع لكلّ الخيوط، الواهية أصلاً، التي كانت تربط البشر في هذه الأصقاع، فلكم في كلّ ذلك أسوة سيئة. ولهذا اقتضى التنويه الآن، وقبل اندثار هذا النّظام، وذلك لتدارك المآسي القادمة قبل فوات الأوان.

أليس كذلك؟
*
نشر: ”إيلاف“، 27 يوليو 2012

***
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع