الأحد، 30 سبتمبر 2012

”وعَلّم آدمَ الأسماءَ كلّها“

أرشيف: ”الحياة“ - أكتوبر 2000:
”فها هم عاملون في وسائل إعلام عربيّة، وها هُم أدباء وكتّاب يسيرون في هذه القافلة الّتي تستهتر بأسماء النّاس وخاصّة أسماء الضّحايا منهم...“



سلمان مصالحة ||

”وعَلّم آدمَ الأسماءَ كلّها“



حينَ يُرزقُ زوج بطفل أو طفلة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى أذهان الوالدين هو الإسم الّذي سيرافقه ويرافقهما طوالَ حياته. في الكثير من الأحيان تُشغل مسألة الإسم بال الوالدين قبل الولادة وطوال فترة الحمل. الإسمُ هو الإنسان فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لا اسم له. لم أكن لأتطرّق إلى هذه المسألة لو لم تتحوّل في نظري إلى مأساة تنمّ عن ورمٍ خبيث آنَ الأوان لاستئصاله من جذوره حتّى لا تنمو لواحقه في أماكن أخرى تؤدّي إلى القضاء على جزء هامّ ممّا تبقّى من حيواتنا الآخذة في التقلُّص.


بعد مضيّ أيّام على الإنتفاضة المتجدّدة ضدّ ظلم الإحتلال الإسرائيلي، وبعد أن سقطت قافلة من الأرواح خلف أُفق لا ندري بعدُ ما يُخبّئ وراءه أودّ التّذكير، إن نفعت الذّكرى، بمسألة لم ينتبه إليها أحد، ولم يولها أحدٌ ما تستحقّ من اهتمام.

في غمرة هذه الإنتفاضة المتجدّدة جلستُ مع صديقين اثنين وكالعادة في مثل هذه السّاعات يدور الحديث على ما يجري. كانت المسألة الّتي تقضّ عليّ مضجعي مشغلة بالي كثيرًا، وقبل أنْ أثيرها نويتُ التّأكُّد من شيء، فسألتُ صديقيّ وهما فلسطينيٌّ وفلسطينيّة وطنيّان جدًّا جدًّا. سألتُهما: هل تعرفان ما اسمُ الفتى الفلسطيني الّذي هزتّ مشاهد مقتله العالَمَ بأسره؟ فلم يُحيرَا جوابًا. رأيت كيف ارتسمت علامات الحرج على وجهيهما، وبعد لحظاتٍ من الإرتباك، قال أحدهما، ليسَ مهمًّا الإسمُ. هكذا، وبكلّ بساطة.

لو كانَ الأمر مقتصرًا على فردٍ هُنا وفردٍ هُناك لما أثرتُ هذه القضيّة. لكنّ الأمر في نظري أخطر من ذلك وله أبعاد ومعانٍ مُقلقة. أردتُ فحص هذه المسألة من حولي قبل التّوصُّل إلى مقولات تعميميّة. ما دفعني إلى التّطرُّق إلى هذه القضيّة هو ما قرأته في بعض وسائل الإعلام العربيّة، هُنا وهناك. فها هم عاملون في وسائل إعلام عربيّة، وها هُم أدباء، وكتّاب يسيرون في هذه القافلة الّتي تستهتر بأسماء النّاس وخاصّة أسماء الضّحايا منهم.

في أكثر من صحيفة عربيّة يكتبُ أدباء وكتّاب (لن أشير إلى أسمائهم) عن الطّفل المغدور رامي الدّرّة. حتّى في صحيفة رسميّة فلسطينيّة تنشر قوائم الشّهداء تكتب اسم الطّفل، رامي الدّرّة. وهكذا في الخليج وفي لندن وفي أماكن متعدّدة يتكرّر هذا الخطأ في اسم الطّفل المغدور. شعراء وأدباء وكتّاب لا نُشكّكُ في صدق مشاعرهم يُخطئون في اسم الضّحيّة. كيف يحدثُ كلّ هذا علمًا أنّ اسم الطّفل الفتى المغدور هو محمّد وليس رامي كما يكتبون. والسؤال المطروح هو، هل هؤلاء يكتبون بصدقٍ حقًّا عن فتًى معيّن له اسمٌ وأب وأمٌّ وأشقّاء وشقيقات أم أنّهم يكتبون عن فتًى مُجرّد؟ لو كانوا يقصدون التّجريد لما كتبوا الإسم، ولكُنّا غفرنا لهم ذلك. لكن، ما داموا يريدون التّنويه إلى فتًى معيّن فإنّ الإسم يصبحُ ذا أهميّة قصوى، لأنّ الإسم هو المُسمّى، ولأنّ الإسمَ هو العالَمُ بأسره. فإذا أصرُّوا على كتابة اسم غير موجود أصلاً تصيرُ الكتابة أقلّ صدقًا في أحسن الأحوال، واستهتارًا بالضّحيّة وبذويها في أسوئها. إنّه استهتار بجدّ الفتى محمّد الّذي سُمّي باسمه، إنّه استهتار بوالد الفتى واسمه جمال، بوالدة الفتى آمال، بأشقّاء الفتى: إياد، أحمد، حازم وآدم، بشقيقات الفتى: باسمة، نور وبسمة. إنّه استهتار بالموت واستهتار بالحياة في آنٍ معًا. أليس من حقِّنا أن نضع حدًّا لهذا الإستهتار؟ هذه الحقيقة الّتي قد تبدو للبعض ليست بذات أهميّة هي قضيّة كبرى، هي العالَم بجوهره، هي عالم البشر أوّلاً وآخرًا.

الجواب على هذه المسألة على قدر كبير من المرارة، إذ أنّه متعلّقٌ بأسلوب عمل الصّحافة العربيّة وبطريقة قراءتها للأحداث. والحقيقة يجب أن تُطرَح هُنا وبكلّ ما تحمل من معاني. الصّحافة العربيّة تقرأ إسرائيل عبر وسائل الإعلام الغربيّة، إنكليزيّة، فرنسيّة وغيرها، ووسائل الإعلام الغربيّة هذه تتزوّد بالمعلومات في الكثير من الأحيان من المصادر الإسرائيليّة، رسميّة وغير رسميّة، ولهذا السّبب فهي تستخدم المسمّيات الإسرائيليّة. عبرَ هذه الوسائل تتزوّد الصّحافة العربيّة بالمعلومات دون التأكُّد من صحّتها. هكذا، تكتب الصّحافة العبريّة في البداية أنّ الفتى اسمه رامي، بينما هو محمّد، فتتلقّفه وسائل الإعلام العربيّة، وهكذا تأخذ كرة الثّلج هذه تتدحرج وتكبر وتكبر ويتلقّفه الكتّاب والأدباء والشّعراء العرب فيكتبون عن رامي، وهكذا يمّحي اسم محمّد وكأنّه هباء. هكذا في كثير من الحالات والأسماء الّتي تستخدمها الصّحافة العربيّة دون معرفة مصادرها وصحّتها. ومثال ذلك ما يُطلق عليه اسم ”بوّابة فاطمة“ على الحدود اللّبنانيّة الإسرائيليّة، فالإسم هذا أطلقه جنود إسرائيليّون على البوّابة تيمّنًا بعد أن فتحوا البوّابة أمام امرأة شيعيّة جاءها طلق الولادة عند البوابة لنقلها إلى مستشفى إسرائيلي للولادة. وهكذا تبني وسائل الإعلام العربيّة خطابها على أسس ومعلومات خاطئة، إذ أنّ هذا الإعلام قد تعوّد ألاّ يهتمّ بالتّفاصيل. وهكذا تستمرّ وسائل الإعلام العربيّة استخدام المسمّيات الإسرائيليّة دون الإنتباه إلى أنّ الإسم في النّهاية هو في غاية الأهميّة.

غير أنّ الأهمّ هو عندما يأتي الخطأ في اسم الطّفل المغدور محمّد الدّرّة. هذا الخطأ يُصبحُ قضيّة مأساويّة عربيّة كبيرة. ألم نقرأ أنّ اللّه ”علّمَ آدمَ الأسماءَ كلّها“؟ إذ أنّ من يُسمّي هو الحاكمُ الواحدُ الأحد ليس في السّماء فحسب، ولأنّ من يُسمّي هو السّامي، ولأنّ من يُسمّي هو الّذي يفرضُ تصوّره للموت وللحياة.
*
نشر: ”الحياة“، 15 أكتوبر 2000
***




مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات