مختارات:
”فأما مراتب الناس في قبول هذه الآداب التي سميناها خلقا والمسارعة إلى تعلمها والحرص عليها فإنها كثيرة وهي تشاهد وتعاين فيهم....“
ابن مسكويه || المقالة الثانية - الخلق
الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكا مفرطا من أدنى شيء يعجبه وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا.
ولهذا اختلف القدماء في الخلق. فقال بعضهم: الخلق خاص بالنفس غير الناطقة، وقال بعضهم قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ. ثم اختلف الناس أيضا اختلافا ثانيا فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال آخرون: ليس شيء من الأخلاق طبيعيا للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي. وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا.
وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانا ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا.
وأما الرواقيون فظنوا أنّ الناس كلهم يخلقون أخيارا بالطبع، ثم بعد ذلك يصيرون أشرارا بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تقمع بالتأديب، فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن منها والقبيح. وقوم آخرون كانوا قبل هؤلاء ظنوا أن الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم، فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع. وإنما يصيرون أخيارا بالتأديب والتعليم، إلا أن فيهم من هو في غاية الشر لا يصلحه التأديب، وفيهم من ليس في غاية الشر فيمكن أن ينتقل من الشر إلى الخير بالتأديب من الصبا ثم بمجالسة الأخيار وأهل الفضل.
فأما جالينوس فإنه رأى أن الناس فيهم من هو خير بالطبع وفيهم من هو شرير بالطبع وفيهم من هو متوسط بين هذين. ثم أفسد المذهبين الأولين اللذين ذكرناهما.
أما الأول، فبأنْ قال: إنْ كان كل الناس أخيارا بالطبع وإنما ينتقلون إلى الشر بالتعليم فالبضرورة إما أن يكون تعلمهم الشرور من أنفسهم وإما من غيرهم. فإن تعلموا من غيرهم فإن المعلمين الذين علموهم الشر أشرار بالطبع. فليس الناس إذا كلهم أخيارا بالطبع. وإن كانوا تعلموه من أنفسهم فإما أن يكون فيهم قوة يشتاقون إلى الشر فقط فهم إذًا أشرار بالطبع.
وأما الرأي الثاني فإنه أفسده بمثل هذه الحجة. وذلك أنه قال إن كان كل الناس أشرارا بالطبع فإما أن يكونوا تعلموا الخير من غيرهم أو من أنفسهم ونعيد الكلام الأول بعينه، ولما أفسد هذين المذهبين صحح رأى نفسه من الأمور البينة الظاهرة. وذلك أنه ظاهر جدا أن من الناس من هو خير بالطبع وهم قليلون وليس ينتقل هؤلاء إلى الشر ومنهم من هو شرير بالطبع وهم كثيرون وليس ينتقل هؤلاء إلى الخير. ومنهم من هو متوسط بين هذين وهؤلاء قد ينتقلون بمصاحبة الأخيار ومواعظهم إلى الخير، وقد ينتقلون بمقاربة أهل الشر وإغوائهم إلى الشر.
وأما أرسطوطاليس فقد بين في كتاب الأخلاق وفي كتاب المقولات أيضا أن الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير. ولكن ليس على الإطلاق، لأنه يرى أن تكرير المواعظ والتأديب وأخذ الناس بالساياسات الجيدة الفاضلة لا بد أن يؤثر ضروب التأثير في ضروب الناس فمنهم من يقبل التأديب ويتحرك إلى الفضيلة بسرعة ومنهم من يقبله ويتحرك إلى الفضيلة بابطاء. ونحن نؤلف من ذلك قياسا وهو هذا: كل خلق يمكن تغيره. ولا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع. فإذا لا خلق ولا واحد منه بالطبع. والمقدمتان صحيحتان، والقياس منتج في الضرب الثاني من الشكل الأول. أما تصحيح المقدمة الأولى. وهي أن كل خلق يمكن تغيره فقد تكلمنا عليه وأوضحناه وهو بين من العيان ومما استدللنا به من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان، ومن الشرائع الصادقة التي هي سياسة الله لخلقه
وإما تصحيح المقدمة الثانية وهي أنه لا شيء ممّا يمكن تغيره هو بالطبع فهو ظاهر أيضا. وذلك أنا لا نروم تغيير شيء مما هو بالطبع أبدا. فإن أي أحد لا يروم أن يغير حركة النار التي إلى فوق بأن يعودها الحركة إلى أسفل ولا أن يعود الحجر حركة العلوم يروم بذلك أن يغير حركة الطبيعة التي إلى أسفل. ولو رامه ما صح له تغيير شيء من هذا ولا ما يجري مجراه، أعني الأمور التي هي بالطبع فقد صحت المقدمتان وصح التأليف في الشكل الأول وهو الضرب الثاني منه وصار برهانا.
فأما مراتب الناس في قبول هذه الآداب التي سميناها خلقا والمسارعة إلى تعلمها والحرص عليها فإنها كثيرة وهي تشاهد وتعاين فيهم، وخاصة في الأطفال فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ بدء نشأتهم ولا يسترونها بروية ولا فكر كما يفعله الرجل التام الذي انتهى في نشؤه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه: وأنت تتأمل من أخلاق الصبيان واستعدادهم لقبول الأدب أو نفورهم عنه أو ما يظهر في بعضهم من القِحَة، وفي بعضهم من الحياء وكذلك ما ترى فيهم من الجود والبخل والرحمة والقسوة والحسد وضده، ومن الأحوال المتفاوتة ما تعرف به مراتب الإنسان في قبول الأخلاق الفاضلة وتعلم معه أنهم ليسوا على رتبة واحدة، وأن فيهم المتواني والممتنع والسهل السلس والفظ العسر والخير والشرير.
والمتوسطون بين هذه الأطراف في مراتب لا تحصى كثرة وإذا أهملت الطباع ولم ترض بالتأديب والتقويم نشأ كل إنسان على رسوم طباعه وبقي عمره كله على الحال التي كان عليها في الطفولية وتبع ما وافقه في الطبع، إمّا الغضب وإمّا اللذّة وإما الزعارة، وإما الشرَه وإما غير ذلك من الطباع المذمومة.
*
نقلاً عن: ابن مسكويه، كتاب تهذيب الأخلاق
___________________
ولهذا اختلف القدماء في الخلق. فقال بعضهم: الخلق خاص بالنفس غير الناطقة، وقال بعضهم قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ. ثم اختلف الناس أيضا اختلافا ثانيا فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال آخرون: ليس شيء من الأخلاق طبيعيا للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي. وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا.
وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانا ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها وترك الناس همجا مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدا.
وأما الرواقيون فظنوا أنّ الناس كلهم يخلقون أخيارا بالطبع، ثم بعد ذلك يصيرون أشرارا بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تقمع بالتأديب، فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن منها والقبيح. وقوم آخرون كانوا قبل هؤلاء ظنوا أن الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم، فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع. وإنما يصيرون أخيارا بالتأديب والتعليم، إلا أن فيهم من هو في غاية الشر لا يصلحه التأديب، وفيهم من ليس في غاية الشر فيمكن أن ينتقل من الشر إلى الخير بالتأديب من الصبا ثم بمجالسة الأخيار وأهل الفضل.
فأما جالينوس فإنه رأى أن الناس فيهم من هو خير بالطبع وفيهم من هو شرير بالطبع وفيهم من هو متوسط بين هذين. ثم أفسد المذهبين الأولين اللذين ذكرناهما.
أما الأول، فبأنْ قال: إنْ كان كل الناس أخيارا بالطبع وإنما ينتقلون إلى الشر بالتعليم فالبضرورة إما أن يكون تعلمهم الشرور من أنفسهم وإما من غيرهم. فإن تعلموا من غيرهم فإن المعلمين الذين علموهم الشر أشرار بالطبع. فليس الناس إذا كلهم أخيارا بالطبع. وإن كانوا تعلموه من أنفسهم فإما أن يكون فيهم قوة يشتاقون إلى الشر فقط فهم إذًا أشرار بالطبع.
وأما الرأي الثاني فإنه أفسده بمثل هذه الحجة. وذلك أنه قال إن كان كل الناس أشرارا بالطبع فإما أن يكونوا تعلموا الخير من غيرهم أو من أنفسهم ونعيد الكلام الأول بعينه، ولما أفسد هذين المذهبين صحح رأى نفسه من الأمور البينة الظاهرة. وذلك أنه ظاهر جدا أن من الناس من هو خير بالطبع وهم قليلون وليس ينتقل هؤلاء إلى الشر ومنهم من هو شرير بالطبع وهم كثيرون وليس ينتقل هؤلاء إلى الخير. ومنهم من هو متوسط بين هذين وهؤلاء قد ينتقلون بمصاحبة الأخيار ومواعظهم إلى الخير، وقد ينتقلون بمقاربة أهل الشر وإغوائهم إلى الشر.
وأما أرسطوطاليس فقد بين في كتاب الأخلاق وفي كتاب المقولات أيضا أن الشرير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير. ولكن ليس على الإطلاق، لأنه يرى أن تكرير المواعظ والتأديب وأخذ الناس بالساياسات الجيدة الفاضلة لا بد أن يؤثر ضروب التأثير في ضروب الناس فمنهم من يقبل التأديب ويتحرك إلى الفضيلة بسرعة ومنهم من يقبله ويتحرك إلى الفضيلة بابطاء. ونحن نؤلف من ذلك قياسا وهو هذا: كل خلق يمكن تغيره. ولا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع. فإذا لا خلق ولا واحد منه بالطبع. والمقدمتان صحيحتان، والقياس منتج في الضرب الثاني من الشكل الأول. أما تصحيح المقدمة الأولى. وهي أن كل خلق يمكن تغيره فقد تكلمنا عليه وأوضحناه وهو بين من العيان ومما استدللنا به من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان، ومن الشرائع الصادقة التي هي سياسة الله لخلقه
وإما تصحيح المقدمة الثانية وهي أنه لا شيء ممّا يمكن تغيره هو بالطبع فهو ظاهر أيضا. وذلك أنا لا نروم تغيير شيء مما هو بالطبع أبدا. فإن أي أحد لا يروم أن يغير حركة النار التي إلى فوق بأن يعودها الحركة إلى أسفل ولا أن يعود الحجر حركة العلوم يروم بذلك أن يغير حركة الطبيعة التي إلى أسفل. ولو رامه ما صح له تغيير شيء من هذا ولا ما يجري مجراه، أعني الأمور التي هي بالطبع فقد صحت المقدمتان وصح التأليف في الشكل الأول وهو الضرب الثاني منه وصار برهانا.
فأما مراتب الناس في قبول هذه الآداب التي سميناها خلقا والمسارعة إلى تعلمها والحرص عليها فإنها كثيرة وهي تشاهد وتعاين فيهم، وخاصة في الأطفال فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ بدء نشأتهم ولا يسترونها بروية ولا فكر كما يفعله الرجل التام الذي انتهى في نشؤه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه: وأنت تتأمل من أخلاق الصبيان واستعدادهم لقبول الأدب أو نفورهم عنه أو ما يظهر في بعضهم من القِحَة، وفي بعضهم من الحياء وكذلك ما ترى فيهم من الجود والبخل والرحمة والقسوة والحسد وضده، ومن الأحوال المتفاوتة ما تعرف به مراتب الإنسان في قبول الأخلاق الفاضلة وتعلم معه أنهم ليسوا على رتبة واحدة، وأن فيهم المتواني والممتنع والسهل السلس والفظ العسر والخير والشرير.
والمتوسطون بين هذه الأطراف في مراتب لا تحصى كثرة وإذا أهملت الطباع ولم ترض بالتأديب والتقويم نشأ كل إنسان على رسوم طباعه وبقي عمره كله على الحال التي كان عليها في الطفولية وتبع ما وافقه في الطبع، إمّا الغضب وإمّا اللذّة وإما الزعارة، وإما الشرَه وإما غير ذلك من الطباع المذمومة.
*
نقلاً عن: ابن مسكويه، كتاب تهذيب الأخلاق
___________________
0 تعليقات:
إرسال تعليق