لقد مرّ هذا العام كسابقيه من أعوام هذا ”الربيع“ الذي لم يأت بنبت، لم يونع زهرًا ولم ينتج ثمرًا. بل على عكس ذلك تمامًا، فلا يزال هذا ”الربيع“ يهدم حجرًا ويقتل بشرًا في مشارق هذه البقعة من الأرض ومغاربها.
سلمان مصالحة ||
جردة حسابات عربية
ها هو عام آخر يودّعنا ليستقرّ في خزينة ذكرياتنا، وعمّا قريب سينظر كلّ منّا إلى الوراء محاولاً استجلاء ما كان فيما مضى من أيّام، ما أُنجز من برامج وما تأجّل فامتدّ إلى السنة القابلة. الذكريات الشخصية هي شأن خاصّ، وقد تشكّل زادًا، أو مخزونًا غنيًّا، يرى النور لاحقًا في نتاج الأدباء والشعراء.
أمّا الذكريات العامّة - ذكريات الأمم والشعوب - وبكلمات أخرى، التاريخ، فهي شأن عام حريّ بنا أن نتطرّق إليها علانية. بلا أدنى شكّ، فإنّ عمليّة التذكّر هي عملية انتقائية دائمًا. هنالك أمور قد تندثر أو قد يتلاشى ذكرها فتُدفن في غياهب النسيان، وهنالك أمور أخرى تنتشلها الذاكرة لتتصدّر المشهد أمام ناظري الفرد أو المجموع.
لقد مرّ هذا العام الذي سينصرم بعد قليل مخلّفًا لنا كلّ هذه الحال العربية التي لم تلتئم جراحها بعد. وعلى ما يبدو فإنّها حال تشي بأنّ هذه المآزق مرشّحة للاستمرار والامتداد لسنوات طويلة قادمة. فإذا أمعنّا النظر في حال التفتّت هذه التي ضربت أصقاعًا شتّى في هذه البقعة من الأرض، فماذا نحن واجدون؟
لقد مرّ هذا العام كسابقيه من أعوام هذا ”الربيع“ الذي لم يأت بنبت، لم يونع زهرًا ولم ينتج ثمرًا. بل على عكس ذلك تمامًا، فلا يزال هذا ”الربيع“ يهدم حجرًا ويقتل بشرًا في مشارق هذه البقعة من الأرض ومغاربها.
لقد تفتّتت أقطار هذا ”الربيع“ بـ”شعوبها“ المزعومة وتفرّقت أيدي سبأ عائدة إلى تركيبتها الإثنية، القبلية والطائفية المتأصّلة. فها هو العراق لم يتبقّ منه غير الاسم فحسب. وها هي سورية الدامية منذ سنوات قد أضحت ركامًا بشريًّا وعمرانيًّا، وتشتّتت أطياف ناسها إلى أجل غير مسمّى. أمّا اليمن ”السعيد“ فقد عاد تعيسًا بئيسًا مركونًا على هامش جزيرة العرب ينتظر خلاصًا لن يأتيه في مستقبل منظور. وها هي ليبيا تكتشف أصلها وفصلها القبلي السابق لكلّ سيرورات التشكّل المجتمعي.
أمّا عن لبنان، فحدّث ولا حرج. إنّ حال هذا البلد هي الحال العربية الأصل في الحقيقة، وهي التي انتصرت في هذا ”الربيع“ العربي. فحال هذا البلد كحال رئاسته المتقاعدة المتباعدة منذ مدّة طويلة. إنّ حالة العجز الطائفي في لبنان قد أضحت مرضًا مزمنًا لدرجة أنّهم لا يستطيعون انتخاب رئيس واحد لهم. كم زعيمًا طائفيًّا وقبليًّا يحمل لقب ”رئيس“ في هذا البلد؟ ففلان رئيس وعلاّن رئيس إلى آخر قائمة زعماء الطوائف.
وأخيرًا، كما يقال، فالأقربون أولى بالمعروف. فقد يسأل سائل: ماذا بشأن القضيّة الفلسطينية؟ والإجابة على ذلك ستكون بالطبع بواسطة تساؤلات: ماذا تقصد؟ وعن أيّ قضيّة تتحدّث؟ والسبب من وراء ذلك أنّ هذه القضية لم تعد تعني أحدًا في هذا العالم. فها هو العالم العربي، كما أسلفنا، مشغول بقضاياه المستعصية التي لا يبدو أنّها تمضي إلى حلول معقولة. كما إنّ العالم الآخر مشغول بقضاياه. وإذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد أضحوا مشتّتين منفصلين في كيانيين هشّين لا رابط بينهما. فماذا ينتظرون من العالم أن يفعل، إذا كانوا هم أنفسهم لا يعرفون كيف يتصرّفون كشعب موحّد بقيادة موحّدة تتعامل مع القضيّة باستراتيجية واحدة؟ إذن، والحال هذه، غنيّ عن التأكيد في هذا السياق أنّ نكبة الفلسطينيين الكبرى مردّها إلى هذه القيادات الفلسطينية البائسة دون استثناء.
هكذا، إذن، أضحى هذا العالم العربي رجل العالم المريض، ملقيًّا على قارعة الطريق، منكوبًا بذهنيّات زعاماته الطائفية والقبليّة التي تستطيع منها فكاكًا. لقد مرّت عقود طويلة لم تفلح فيها هذه الزعامات أن تبني دولاً أو تخلق شعوبًا، بل ظلّت رهينة المحابس المتجذّرة في ذهنيّاتها.
وخلاصة الكلام، لقد انصرم عام آخر والحال العربية الراهنة هي شاهد بارز على فشل ما يُسمّى ”القومية العربية“. إنّ أحوالنا لا تبشّر بأيّ خير لعقود طويلة قادمة. كم كان بودّي أن أبعث بعض الأمل في نفوس القارئ العربي! غير أنّي لا أجد سبيلاً إلى ذلك البصيص في هذا النفق العربيّ المدلهم. أليس كذلك؟
*
الحياة، 3 يناير 2016