من الأرشيف:
إنّ ما يتوجّب علينا فعله هو شيء آخر يختلف تمامًا. علينا أن ننزع القدسيّة عن هذا الماضي، كما علينا أن نكرّس جهدنا في إعمال العقل فيه دون فرض أيّ رقابة على العقل...
سلمان مصالحة ||
هل يمكن تنقية التراث من الشّوائب؟
تاريخ حضارات شعوب الأرض، على اختلافها، هو على العموم تاريخ مليء بالشّوائب. وهذه الشّوائب هي الجوانب الغير الأخلاقيّة الّتي تشكّل جزءًا من طبيعة الإنسان، كلّ إنسان. وهذه الشّوائب هي ما يمكن أن نُسمّيه إرثًا من مخلّفات الطّبع الحيواني المفترس الّذي سبقَ، في فترة سحيقة من حياة الإنسان في الغابة، تطوُّرَ العقل البشري المُدبِّر والّذي يرتقي بالأفراد للوصول إلى الحياة المجتمعيّة المتطوّرة.
وتاريخنا الحضاري، نحن العرب، لا يختلف، من هذه النّاحية، عن تاريخ حضارات الشّعوب الأخرى في العصور القديمة. إنّما وجه الاختلاف هو في نظرتنا نحن إلى هذا التّاريخ. وهذه النّظرة هي هي الّتي وضعت القيود والأغلال على نشاط العقل العربي، ما جعله مشلولاً يراوح مكانه طوال قرون. إنّها النّظرة الّتي تُضفي هالة قدسيّة على هذا الماضي، وهي نظرة تشكّل في الحقيقة استمرارًا طبيعيًّا لتقديس الأسلاف على غرار الشّعوب الـ"بدائيّة" في مراحل أوّليّة من التّطوُّر البشري. إنّ تقديس الماضي والأجداد نابع في الحقيقة من عياء تام وشلل تام في حاضرنا، وهو ما ينزع منّا امتلاك إمكانيّة الفعل للارتقاء إلى مرحلة أعلى مستقبلاً. إنّ تقديس الماضي يترافق، في مفاهيمنا المتجذّرة منذ قرون، مع تقديس النّصوص المُؤسِّسَة لهذا الماضي، كما يترافق مع الحظر المفروض على إفساح المجال في أن يكون لعقلنا الحاضر دورٌ في قبول أو رفض هذه النّصوص المؤسِّسَة.
حتّى أنّ هذه الدّعوة إلى تنقية التّراث من الشّوائب، أو الاستنجاد بالأزهر وغيره من أجل تحمُّل هذه المسؤوليّة، هي في الحقيقة جزء من هذه النّظرة التّقديسيّة لهذا الماضي ولهذه النّصوص، وهي بمثابة دسّ الرأس في الرّمال، وعدم رؤية العالم من حولنا. إنّها دعوة تشهدُ على أنّ الدّاعي لها قد قرّر تعطيل عقله في التّفكُّر بهذه النّصوص، والحقيقة هي أنّ هذه النّصوص تنطوي على أهميّة حضاريّة وأخلاقيّة كبرى إلى درجة أنّه لا يمكن تركها لرجال الدّين لوحدهم، بل هي مهمّة ملقاة على كلّ ذي بصر وبصيرة، أو كلّ من يملك ذرّة من عقل.
كذلك، فإنّ الدّعوة إلى تنقية التّراث من الشّوائب مثلها مثل الدّعوة إلى فرض رقابة فكريّة، ونحن لا نرغب في فرض رقابة فكريّة بأيّ حال من الأحوال. إنّ الجميل في تراثنا العربي والإسلامي أنّه حفظ لنا كلّ شيء، بقمحه وزؤانه، بخيره وشرّه، بمعروفه ومنكره. إنّ هذا التّراث، على كلّ ما فيه من حلو ومرّ، هو نحنُ، وهو ذاتنا الحضاريّة ولا يمكننا أن نتهرّب من هذا الماضي ومن هذا التّراث.
إنّ ما يتوجّب علينا فعله هو شيء آخر يختلف تمامًا. علينا أن ننزع القدسيّة عن هذا الماضي، كما علينا أن نكرّس جهدنا في إعمال العقل فيه دون فرض أيّ رقابة على العقل. وبكلمات أخرى، علينا أن نتعامل مع هذا الماضي، على ما يحويه، بمعزل عن نظرة القداسة المتأصّلة فينا. علينا أن نرى فيه تاريخًا قد حصل في فترة تاريخيّة قديمة، وفي ظروف اجتماعيّة أخرى مختلفة تمامًا، وقد مضى زمنه وانقضى، ولم يعد نافعًا لعصرنا هذا.
كما أنّ الدّعوة إلى تنقية النّصوص المؤسِّسَة لهذه الحضارة، أي الدّعوة إلى حذف النّصوص الّتي قد تُعتَبرُ من الشّوائب الغير الأخلاقيّة، قد لا تُبقي الكثير من كلّ هذه المجلّدات التّراثيّة. ناهيك عن أنّ عمليّة التّنقية المرجوّة ليست بالمهمّة السّهلة، إذ لا توجد مؤسَّسَة بابويّة في الإسلام، ولا توجد سلطة دينيّة لها القول الفصل في هذه الأمور، إنْ أفتت بشيء قبله عامّة المسلمين راضين واقتنعوا به دون إعمال الرأي الآخر فيه بأيّ شكل. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الدّعوة إلى تنقية هذه النّصوص من الشّوائب قد تضع من يقوم بهذه العمليّة أمام مأزق إيماني وأخلاقي من نوع آخر يصعب عليه مواجهته.
ولكي لا نُبقي الكلام كلامًا تعميميًّا، دعونا نتفكّر في مثال واحد، مجرّد مثال واحد فقط لمأزق من هذا النّوع، قد يواجهه من يقوم بمهمّة التمحيص وفرز القمح من الزّؤان في هذا التّراث: فلو نظرنا، على سبيل المثال، إلى الآية من سورة التّكوير: "وإذا الموءودة سُئلت بأيّ ذنب قُتلتْ"، فإنّنا نرى أنّ فيها إشارة إلى عادة وأد البنات، وهي من العادات الجاهليّة الّتي نهى عنها الإسلام وبحقّ. وبشأن هذه العادة فقد ورد في المأثور: "وقال ابن عبّاس: كانت المرأة في الجاهليّة إذا حملتْ حفرتْ حفرةً وتمخّضت على رأسها، فإن ولدتْ جاريةً رمتْ بها في الحفرة ورَدّت التّرابَ عليها، وإن ولدتْ غلامًا حَبَسَتْهُ" (إنظر: تفسير القرطبي). وقد شاعت هذه في الجاهليّة، حيث ورد أيضًا: "وكانت العرب من أفعل النّاس لذلك"، (تفسير الطّبري).
لن نتطرّق الآن إلى جذور هذه العادة الجاهليّة وملابساتها الاجتماعيّة والحضاريّة والعقائديّة، إذ أنّها لا زالت يلفّها الغموض. ولقد ذكر لنا الرّواة من بين الأسباب لهذا الوأد: "وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخَصلتين: إحداهما كانوا يقولون إنّ الملائكة بنات اللّه فألحقوا البنات به، والثّانية إمّا مخافة الحاجة والإملاق، وإمّا خوفًا من السّبي والاسترقاق«"، (تفسير القرطبي).
مهما يكن من أمر، سنكتفي في هذه المقالة بعرض المسألة الإشكاليّة الّتي نحن بصدد الحديث عنها. ولأجل ذلك سنعرض ما رواه لنا الإمام أحمد: "وقال الإمام أحمد حدّثنا ابن أبي عديّ عن داود بن أبي هند عن الشّعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفيّ قال: انطلقتُ أنا وأخي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلنا: يا رسول اللّه إنّ أمّنا مُليكة كانت تصل الرّحم وتقري الضّيف وتفعل، هلكت في الجاهليّة، فهل هذا نافعها شيئًا؟ قال: لا. قلنا فإنّها وأدتْ أُختًا لنا في الجاهليّة، فهل هذا نافعها شيئًا؟ قال: الوائدةُ والموءودةُ في النّار، إلاّ أنْ يُدْركَ الوائدةَ الإسلامُ، فيعفو الله عنها« (تفسير ابن كثير). أمّا بشأن كون الموءودة، أو أطفال المشركين على العموم في النّار فإنّ لابن عبّاس رأيًا آخر مختلفًا تمامًا: "وقال ابن أبي حاتم ... عن عكرمة قال: قال ابن عبّاس أطفالُ المشركين في الجنّة، فمن زعم أنّهم في النّار فقد كذب« (تفسير ابن كثير).
وهنا نصل إلى هذا الإشكال الّذي نرمي إليه. فإذا رفضنا الأخذ بقول ابن عبّاس، لأنّه نقيض للحديث النّبوي السّابق الّذي يقول إنّ "الوائدة والموءودة في النّار"، فهذا يعني أنّ الشكّ بجزء من أقوال ابن عبّاس يستوجب الشكّ بكلّ أقواله وفي كلّ المواقع الّتي ترد فيها، من قِبَل أنّ الشكَّ في الجزء يستوجبُ الشكَّ في الكلّ. أي أنّنا مُلزمون بإعادة نظر في كلّ ما روي عن ابن عبّاس في المراجع الإسلاميّة، بغية الاحتياط على الأقلّ. ومن جهة أخرى، إذا أخذنا برأيه، فهذا يعني أنّ قوله: "من قال... فقد كذب«، فيه تكذيب لما ورد في الحديث النّبوي السّابق، وهو أمر لا يقبل به المؤمنون بالإجماع، إذ أنّ الحديث النّبوي ورد في هذا التّراث الّذي يجمعون عليه.
ولكن، ومن جهة أخرى، إذا قبلنا بصحّة هذا الحديث النّبوي، فإنّنا سرعان ما نجد أنفسنا أمام مأزق أخلاقيّ من نوع آخر. فماذا يعني هذا الحديث لو سَلّمنا بما ورد فيه؟
حريّ بنا أوّلاً أن نضع جملة اعتراضيّة. نحن الآن نعيش في هذا الأوان وهذا العصر، ولا نريد أن نحكم على الماضي وما تحكّم في أهله من عقائد وطقوس، وإنّما هدفنا هو النّظر في هذا الماضي والتّفكُّر فيه. فلنفترض، إذن، أنّنا جميعًا الآن كبشريّين ننتمي إلى هذا العصر وإلى مبادئ أخلاقيّة تسري على كافّة بني البشر. بافتراضنا هذا، نكاد نجزم أنّنا لا شكّ سننظر إلى الوأد الجاهلي على أنّه شائبة أخلاقيّة، أو جريمة كبرى لا تُغتَفَر. غير أنّ الحديث النّبوي المذكور سيضعنا أمام هذا المأزق، فالمعنى الّذي ينتج من هذا الحديث هو كالتّالي: هذه الجريمة الأخلاقيّة الّتي تقوم بها الأمّ "الوائدة" بحقّ البنت في جاهليّتها، يعفو اللّه عنها بعد إسلامها، كما يرد في نصّ الحديث. وهذا منطق لا يقبلُ به العقل الأخلاقي، إذ بموجبه يتحوّل الإسلام ملجأً لكلّ من ارتكب خطيئة أو جريمة. ولنضرب، مجازًا، مثلاً آخر من عصرنا الحاضر: لنفترض أنّ شخصًا ما، قد يكون منتميًا إلى النّصرانيّة، أو اليهوديّة، أو الهندوسيّة أو أيّ طائفة أخرى من البشر، يقوم بارتكاب جريمة قتل، كالوأد الجاهلي أو أيّ جريمة أخرى، ثمّ يذهب هذا فيعلن إسلامه، فهل يُعقَل أن يحظى المجرم بحماية الإسلام لمجرّد إعلانِه إسلامَهُ. هذا أمر، بالطّبع، لا يقبل به عقل البشر المتمدّن بأيّ حال.
لهذا السّبب، فإنّ الدّعوة إلى تنقية التّراث ليست بالأمر الهيّن لكثرة المتناقضات في هذا التّراث، ولكثرة التساؤلات الأخلاقيّة الّتي قد تنجم عنها. ولهذا السّبب أيضًا، فإنّ دعوتنا يجب أن تكون مغايرة تمامًا، وأن تأتي من منطلق آخر. يجب علينا، في هذا العصر، أن نتوقّف عن تقديس الماضي والأجداد، بما فيها نصوص هذا الماضي والأجداد، كما يجب علينا أن نستبدل، أو أن نحوّل هذا التّقديس من الماضي والأجداد إلى الآتي والأحفاد، لأنّ هذه هي الطّريق الّتي ترتقي بنا إلى ما نطمح جميعًا في الوصول إليه.
ولهذا أيضًا فإنّ أفضل الطّرق إلى الخروج من هذا المأزق العربي والإسلامي هي طريق فصل الدّين عن الدّولة إطلاقًا، والإجماع على دستور مدني عصري تعيش في كنفه جميع أطياف المجتمع في دولة القانون الّذي يساوي بين المواطنين أجمعين دون فرق في الجنس والعنصر والطّائفة والمعتقد الدّيني أيًّا كان. أمّا هذا الماضي الّذي يشكّل جزءًا هامًّا من كياننا الحضاري، على ما فيه، فقد مضى وانقضى إلى غير رجعة، ويمكن دراسته في المدرسة والجامعة من هذا المنطلق، ليس إلاّ.
لا توجد طريق أخرى للخروج من المأزق، وإذا كان في جعبتكم طريق، هيّا أرشدونا.
*
نشرت في: إيلاف، 6 يونيو 2005
***
من كتاب:
”فهم المنطوق، مسائل تراثية وأبعاد راهنة“
-------
0 تعليقات:
إرسال تعليق