أرشيف: يناير 2008
سلمان مصالحة ||
تجارة الأشلاء
لعلّ الرّواية الّتي أوردها ابن كثير هي خير ما يمثّل العنف في التّاريخ السّياسي العربي الإسلامي. لنقرأ معًا هذه الرّواية: ”قال أبو حاتم الرازي: ثنا يحيى بن مصعب الكلبي، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد الملك بن عمير قال: دخلتُ القصرَ بالكوفة فإذا رأسُ الحسين بن علي على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد، وعبيد الله على السرير. ثمّ دخلتُ القصرَ بعد ذلك بحين فرأيتُ رأسَ عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار، والمختار على السرير. ثمّ دخلتُ القصرَ بعد ذلك بحين فرأيتُ رأسَ المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير، ومصعب على السرير. ثم دخلتُ القصرَ بعد حين فرأيت رأسَ مصعب بن الزبير على ترس بين يدي عبد الملك، وعبد الملك على السرير. وقد حكى ذلك الإمام أحمد وغير واحد عن عبد الملك بن عمير.“ (عن: إبن كثير، البداية والنّهاية، وكذلك تظهر ذات الرّواية باختلافات طفيفة في تاريخ الإسلام للذهبي).
هكذا وبإيجاز يبلغ حدّ الملل تتكرّر الجملة ذاتها فتختزل ما كان على مرّ سنوات ليست بكثيرة من حياة فرد عربيّ شاهد على أحداث ذلك الزّمان. الرّؤوس تُحتَزّ وتتدحرج وتتبدّل والقصر هو القصر، والسّرير هو ذات السّرير غير أنّ الجالس عليه يتغيّر. رأس يذهب ورأس ينتظر دوره للذّهاب في سلسلة لا أوّل لها ولا آخر.
ليس هذا فحسب، بل إنّ التّمثيل بالجثث كان من شيم هؤلاء القوم، من أبناء جلدتنا، على مرّ التّاريخ، ولا حاجة إلى سرد كلّ تلك الجرائم فكتب التّاريخ العربي تعجّ بها. ولنكتفي هنا بمثال واحد فقط قد كان له أبعد الأثر في التّاريخ العربي، إذ شكّل مفصلاً فارقًا بين تيّارين مركزيّين في الإسلام، ونعني به مقتل الحسين بن عليّ. فها هو الذّهبي في تاريخه يروي لنا: ”عن أبي قبيل قال: لما قُتل الحسين احْتَزّوا رأسَه وقعدوا في أول مرحلة يشربون النبيذ.“ (عن: تاريخ الإسلام للذّهبي) وعندما جيء بالرأس إلى عبيد الله بن زياد لم تكن الحال بأحسن من ذلك. فها هو الطبري يحدّثنا عمّا جرى هناك: ”وحدث محمد بن القاسم الثقفي عن أبيه: أنه حضر عبيد الله بن زياد حين أتي برأس الحسين، فجعل ينكت بقضيب ثناياه... قال القاسم محمد: ما رأيتُ منظرًا قط أفظعَ من إلقاء رأس الحسين بين يديه وهو ينكته. “ (عن: تاريخ الطبري).
ولم يكتف عبيد الله بن زياد بذلك، بل أوفد القاتل ومعه الرأس إلى يزيد بن معاوية في الشّام حيث استمرّ التّمثيل به. وها هو الذّهبي يروي ما حصل هناك: ”قال حمزة: وقد كان حدثني بعض أهلها أنه رأى رأس الحسين مصلوبًا بدمشق ثلاثة أيام، وحدثتني ريا أن الرأس مكثَ في خزائن السّلاح حتّى ولي سليمان الخلافة، فبعث إليه فجيء به وقد بقي عظمًا أبيض، فجعله في سفط وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين. فلمّا دخلت المُسَوِّدَة سألوا عن موضع الرأس، فنبشوه وأخذوه، فالله أعلم ما صُنع به.“ (عن: تاريخ الإسلام للذّهبي). ثمّ اختلفت الرّوايات بعد ذلك أين انتهى الأمر برأس الحسين، وحتّى الآن لا يُعرف المكان الّذي دُفن فيه.
وكما هي الحال، عندما يتعلّق الأمر بأحداث جسيمة لدى بني البشر تسارع الأساطير إلى الخروج إلى النّور. وهذا الحدث قد ارتبط لاحقًا بكثير من الأساطير وليس هنا المجال للتّطرُّق إليها. لكن، ما يهمّنا هنا هو، وكما درجت عليه العادة في مثل هذه الحالات لدى سائر التيّارات الإسلاميّة، ومن أجل شحن الأمر بقدسيّة أخرى فإنّ الرّوايات تستنتجد بيهود ونصارى لإضفاء هالة إضافيّة على الحدث. وهذا ما نراه في الرّوايات التّالية.
فها هو الطّبري مرّة أخرى يروي لنا: ”قال: وحدّثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدثني رأسُ الجالوت، عن أبيه قال: ما مررتُ بكربلاء إلا وأنا أركضُ دابّتي حتّى أخلفَ المكانَ، قال: قلت: لِمَ؟ قال: كُنا نتحدُث أنّ ولد نبيّ مقتولٍ في ذلك المكان، قال: وكنتُ أخاف أن أكونَ أنا، فلمّا قُتل الحُسين قُلنا: هذا الذي كُنّا نتحدّث، قال: وكنتُ بعد ذلك إذا مررتُ بذلك المكان أسيرُ ولا أركضُ.“ (عن: تاريخ الطبري). ورأس الجالوت هذا هو منصب رأس الجالية اليهوديّة، رأس الطّائفة اليهوديّة بعد السّبي البابلي، أي ما يمكن أن يُطلق عليه اليوم الحاخام الأكبر.
وتتواصل الرّوايات باستنطاق شخوص من اليهود والنّصارى ابتغاء تعزيز تصوّرات الموالين وذمًّا لمقترفي تلك الجرائم. لنقرأ معًا الرّاوية التّالية: ”وروى ابن لهيعة: عن أبى الاسود محمد بن عبد الرحمن قال: لقيني رأسُ الجالوت فقال: واللّه بيني وبين داود لسبعين أبًا وإن اليهود تلقاني فتعظمني، وأنتم ليس بين ابن نبيّكم وبينه إلا أب واحد، قتلتم ولده! وروى عن زين العابدين عليه السلام قال: لما أُتي برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد كان يتّخذ مجالس الشرب ويأتي برأس الحسين عليه السلام ويضعه بين يديه ويشرف عليه. فحضر ذات يوم في مجلسه رسولُ ملك الرّوم وكان من أشراف الرُوم وعظمائهم، فقال: يا ملكَ العرب هذا رأسُ مَنْ؟ فقال له يزيد: ما لكَ ولهذا الرّأس؟ فقال: إنّي إذا رجعتُ الى ملكنا يسألني عن كلّ شيء رأيتُه، فأحببتُ أن أُخبرَه بقصّة هذا الرّأس وصاحبه حتّى يُشاركَك في الفرح والسُّرور. فقال يزيد: عليه اللعنة! هذا رأسُ الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام، فقال الرّومي: ومن أُمُّه؟ فقال: فاطمة بنت رسول الله صلعم، فقال النّصراني: أُفّ لكَ وَلِدينكَ! لي دينٌ أحسن من دينكم. إنّ أبي من حوافد داود عليه السلام وبيني وبينه آباء كثيرة، والنّصارى يُعظّموني ويأخذون من تراب قدمي تَبرّكًا بأني من حوافد داود عليه السلام وأنتم تقتلون ابن بنت رسول الله صلعم وما بينه وبين نبيكم إلا أمّ واحدة فأى دين دينكم!... فلا بارك اللّه تعالى فيكم ولا في دينكم! فقال يزيد: أقتُلوا هذا النّصراني لئلا يفضحني في بلاده... “ (عن: الملهوف على قتلى الطفوف، لابن طاووس)
الرّواية هي رواية، ومهما يكن من أمر صحّة هذه الرّوايات أم لا، فليس هذا هو مجال الحديث، لأنّنا بصدد هذا التّراث، تراثنا جميعًا على اختلاف مللنا ونحلنا. هذا هو التّراث الّذي تترعرع عليه هذه شعوبنا قرونًا تلو قرون، فلا مناص من مساءلته إن كُنّا ننشد المضيّ قدمًا بأبناء جلدتنا. تتحدّث الرّواية أنّ ذاك النّصرانيّ الرّومي قد أسلم بعد أن هدّده يزيد بالقتل. ويزيد هذا هذا كما ذكرت الرّواية طلب قتل ذلك النّصراني لئلاّ يفتضح أمره.
ما كنت لأتطرّق لهذه الرّوايات لولا ذلك الخطاب المُقزّز الّذي ألقاه السيّد حسن نصر الله في ساحات بيروت في ذات الذّكرى. لقد سمعه العالم أجمع يلوّح من على الشّاشات المنصوبة وشاشات الفضائيّات بالأشلاء البشريّة الّتي يحتفظ بها. في الماضي كان يلوّح بكسر شوكة الجيش الإسرائيلي، ولا بأس في ذلك، بل نحن مع كسر شوكة كلّ جيش متغطرس هنا وفي كلّ مكان على هذه الأرض. هكذا حدث مع الجيش الإسرائيلي الّذي انسحب من لبنان، وهكذا جرى مع الجيش السّوري الّذي لملم وحداته وانسحب هو الآخر من لبنان بعد أن كان جاثمًا على صدور أبنائه سنوات طويلة.
لكن، ومن جهة أخرى، هل التّلويح بالأشلاء هو من الأمور الّتي يمكن الصّمت معها؟ إنّنا نقرأ تاريخنا العربيّ والإسلاميّ بعيون بصيرة، ومثلما أوجز الأمر عبد الملك بن عمير ودخوله القصر بالكوفة ورؤية الرؤوس تتبدّل أمام ناظريه، فنحن ننشد الخروج من هذه الثّقافة الدّمويّة. آن الأوان لوضع النّقاط على الحروف المبهمات. إنّ الصّمت على ما يجري بين ظهرانينا يشكّل وصمة عار على جباهنا جميعًا، وقد آن الأوان لمصارحة أنفسنا، لأنّنا ننشد الخير أوّلاً وقبل كلّ شيء لأهلنا، لربعنا ولشعبنا، وثمّ للنّاس دون ميز أجمعين.
لقد ورد في الحديث أنّ أوّل ما خلق الله العقل. لكن يبدو أنّ هذه الملكة الّتي حُبي بها بنو البشر هو آخر ما يستعمله أبناء جلدتنا. لذلك، هذه دعوة مرّة أخرى لوضع العقل في مقدّمة كلّ فعل، مثلما كان في مقدّمة الخلق، ففي نهاية المطاف:
العقل وليّ التّوفيق.
إيلاف، 26 يناير 2008
0 تعليقات:
إرسال تعليق