الأحد، 20 فبراير 2011

أمّة عربيّة بائدة ذات رسالة دائدة

مقالة من عام 2005:
 
 
 

سلمان مصالحة ||

 أمّة عربيّة بائدة ذات رسالة دائدة


مثلما اختفى النّظام البعثي الفاشي في بغداد بين ليلة وضحاها، وذهب ليختبئ في جحر في الأرض، هكذا آن الأوان أن يذهب البعث الشّامي إلى الجحيم، وإذا شاءت الأقدار أن يكون ذلك بعون من العالم الحرّ والدّيمقراطي، فليكن ذلك. النّظام العربي بأسره، ممالك وإمارات وسلطنات وجمهوريّات وراثيّة، والنّظام العربي بأسره من مجتمعات وتقاليد ومعتقدات، يجب أن يذهب إلى الجحيم وإلى الأبد. لم يعد أحد يطيق هذا الوضع المزري. التّغنّي بالشّعارات الزّائفة طوال قرون قد أزهقت أرواح البشر على مللهم ونحلهم وأفقرت البشر في مناطق تُعدّ من أغنى بقاع الأرض. لم يعد أحد في هذا العصر يصدّق هذا الدّجل العربي. 
 
نحن أمّة على مفترق طرق فإمّا أن ننظر إلى أنفسنا بالمرآة ونرى قبحنا وإمّا فلن تكتب لنا الحياة أبدًا. نحنُ أمّة تُقدّس الماضي على موروثه الإجرامي، بل أكثر من ذلك إنّنا نُربّي الأجيال الجديدة في البيت وفي المدرسة، في وسائل الإعلام وفي دور العبادة على هذا الموروث الّذي آن الأوان إلى نفضه وإلى طحنه وإلقائه في سلّة مهملات التّاريخ البشري. 
 
نحنُ أمّة عنصريّة وقد ترعرعنا حضاريًّا على كراهية العجم، والعجم هم الأغيار بلغة هذا العصر. نحنُ أمّة عنصريّة لأنّنا كُنّا نتغنّى في الصّبا بشعر المتنبّي: "لا تشترِ العبدَ إلاّ والعصا معه - إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ"، فعلّمونا في المدرسة أن تهتزّ مشاعرنا فرحًا بهذه العنصريّة الشّعريّة. هكذا في المدرسة وهكذا في الشّارع وهكذا في كلّ زاوية من بقاعنا من المحيط إلى الخليج.
 
 نحن أمّة عنصريّة لأنّنا ملل ونحل وطوائف وقبائل تربّي أبناءها على الكراهية طوال قرون، بينما ترفع في العلن شعارات الإخاء الزّائفة. لم يعد هذا الكلام ينطلي على أحد. 
 
نحن أمّة قبيحة تتغنّى بجمالها الزّائف، غير أنّ العالم من حولنا يرى قبحنا على حقيقته. آه، ما أقبحنا.
 
انظروا كيف أنّنا نحن أكثر الأمم حديثًا عن الشّرف والكرامة. أليس في هذا خير دليل على انعدام الشّرف والكرامة لدينا. إذ لو كنّا حقًّا شرفاء وكرامًا لما احتجنا إلى التّغنّي بكلّ هذه الشّعارات. لو كنّا حقًّا شرفاء وكرامًا لأشعنا أنوارهما على من حولنا. نحن أمّة ذكوريّة لا شرف لنا من ذواتنا نحن، بل نضع كلّ هذا الشّرف في النّساء. إنّ من لا ينبع شرفه من ذاته هو فلن يكون شريفًا أبدًا، مهما تغنّى بهذا الشّرف الزّائف.
 
 إنّ ما نشيعه اليوم في العالم من حولنا هو الإرهاب والتخلّف فقط. هذه هي صادراتنا العربيّة إلى العالم اليوم. ألا تخجل هذه الأمّة بهذا الإرث الّذي نخرته الأرضةُ فتتطاير شررًا يحرق الأخضر واليابس عندنا، وعند جيراننا في هذه البشريّة المنكوبة بنا وبحضارتنا البلهاء.
 
 غالبية مثقّفينا ومفكّرينا خانوا شعوبهم بصمتهم على هذا الإرث الإجرامي والّذي ينزف دمًا وتخلُّفًا منذ قرون طويلة. ألم يئن الأوان لإجراء جلسة واحدة حقيقيّة لحساب النّفس؟ ألم ييأس أحد بعد من هذا الوضع؟ 
 
ها أنا أدعو القرّاء اليوم إلى اليأس. اليأس هو مفتاح الولوج إلى سواء السّبيل. وسواء السّبيل ليس بالمعنى الدّيني الّذي يرفعه الدّجّالون من فقهاء الظّلام. سواء السّبيل الّذي أرمي إليه هو إعمال العقل، هذه النّعمة الّتي أغدقتها علينا الطّبيعة. العقل يوحّدنا بَشَرًا، وكلّ ما سواه يفرّقنا مللاً ونحلاً هي أقرب إلى الحيواناتِ المفترسة منها إلى البشر. فالعقل، والعقل وحده، هو ميزتنا البشريّة، وكلّ ما سواه، من معتقدات دينيّة وتقاليد بائدة، هو ميزتنا الحيوانيّة من عصور التّخلُّف البشري السّحيقة.
 
 نحن بحاجة إلى ثورة أتاتوركيّة في العالم العربي تفصل الدّين عن الدّولة وعن المجتمع العامّ بصورة جذريّة. نحن بحاجة إلى ثورة أتاتوركيّة تحظر قيام أحزاب دينيّة تفرض أيديولوجيّاتها على المجتمع وعلى الشّارع. نحن بحاجة إلى ثورة ذهنيّة تقوم بإرجاع العفريت الدّيني والطّائفي إلى القمقم ودفنه في أسفل سافلين.
 
 لا توجد طريق أخرى للخروج من هذه المزبلة الحضاريّة.
 
 إذا كان لديكم طريق أخرى، هيّا أرشدونا! 
 
* نشرت في: إيلاف - 18 فبراير 2005 

الجمعة، 18 فبراير 2011

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

سـلمان مصـالحة

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

ينشرح صدر المرء
عندما يرى الناس ترتعش وتنتفض ضد الظّلم. هذا ما حصل في تونس وفي مصر، وهذا الفرح يعمّ شرائح شعبيّة واسعة ليس في مصر فحسب، بل وفي أنحاء العالم العربي. غير أنّ تسمية هذه الارتعاشات الشعبيّة "ثورة" يفتقد إلى الأسس التي تجعل من هبّة النّاس، مهما اتّسعت رقعتها، ثورةً بما يعنيه هذا المصطلح في العلوم السياسية.

من هنا فعلى الذين يتحدثون عن "ثورة" أو ثورات عربيّات أن يشرحوا لأنفسهم أوّلا، وقبل أن يطلقوا الشعارات الرنّانة ويوزعوها على الملأ، كَيْفَذا ولِمَذا تجتاح هذه الاحتجاجات الشعبيّة بالذّات البلاد العربية التي أفرزت منذ منتصف القرن المنصرم، وبعد جلاء الاستعمار أنظمة مسمّاة زورًا وبهتانًا أنظمة جمهورية وثورية؟ وهل كانت هذه حقًّا جمهورية وثورية؟

إنّ تخطّي هذه الاحتجاجات الشعبية العربية الأنظمة الملكية في العالم العربي يثير الكثير من التساؤلات. إنّ هذه الهبّات الشعبية التي تتخطّى الأنظمة الملكية إنّما هي تعبير عن رفض الدجل الذي اتّسمت به كلّ تلك الأنظمة التي تدّعي الـ"ثورية" والـ"جماهيريّة". فكلّ تلك الأنظمة "لثورية" الدّاجلة في جوهرها والزّاجلة في شعاراتها، بدءًا من عبد الناصر والناصرية وانتهاء بصدّام والأسد والبعثيّة القبلية لم تجلب سوى الطغيان والاستبداد وتقتيل العباد والاستيلاء على خيرات البلاد لتوزيعها وتوريثها لذوي القربى والأولاد.

بل يمكن القول جهرًا إنّ كلّ تلك الأنظمة الملكية العربيّة، والتي طالما وسمها هؤلاء النّفر "الثوريون"، ممّن يرفعون شعارات قوموية عن الثورة والجماهير وما إلى ذلك من كلام المواخير المستوردة بالـ"رجعية"، كانت أنظمة أكثر رأفة بشعوبها من كلّ ما يأفك هؤلاء في شعاراتهم. كما يمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول إنّه حتّى الاستعمار ذاته كان أفضل بكثير ممّا جلبته هذه الأنظمة "الثورية" على شعوبها من خيبات وويلات.

هكذا، وعلى سبيل المثال،
يخرج ما تبقى من فلول الشيوعيين العرب من جحورهم ويدبّجون كلامهم بشعارات ثورية رومانسية ظانّين بسذاجتهم أنّ ميدان التحرير في القاهرة، وبين ليلة وضحاها وبجرّة شعارات أكل الدهر عليها وشرب حتّى ثمل، قد أضحى الساحة الحمراء في موسكو التي طالما شدّوا إليها الرحال، قبل أن تنفرط المنظومة، كما لو أنّها محجّة يتضرّعون في أنحائها إلى وليّ نعمتهم الّذي اندثر ولم يبق منه أثر. وهو على كلّ حال ولي نعمة لم يختلف في دكتاتوريته وفساده عن سائر الدكتاتوريات من دول الإفساد. وهؤلاء هم ذاتهم الذين دعموا في الماضي ولا زالوا في الحاضر يدعمون أسوأ الأنظمة دكتاتورية وفسادًا بدءًا من بلاد العرب وانتهاء ببلاد العجم وما وراءها.

هكذا أيضًا، يخرج ما تبقى من فلول العروبيين، أناصريين كانوا أم بعثيين، ناشرين على الملأ كلامًا معسولاً، منثورًا أحيانًا وموزونًا أحيانًا ومقفّى في أخرى، عن أمّة العرب وعن العروبة. نعم، يتحدثون بكلام شاعري عن هذه الأكذوبة التي ما فتئوا يروّجون لها ولأنظمتها القمعيّة "الممانعة" حتّى أضحت وبالاً عليهم وعلى من لفّ لفّهم من أصحاب البهتان. فلا جاءت هذه القوموية العروبية الرومانسية بهوية تجمع ما انتثر من بطون وأفخاذ، ولا جاءت بنظام يجلب العدل والرفاهية لأهل البلاد. بل على العكس من ذلك، لقد حكمت هذه العروبة "الممانعة" الكاذبة حكمًا مستبدًّا، قبليًّا أحيانًا وعسكريًّا أحيانًا أخرى، ونهبت خيرات البلاد وأراقت دماء العباد في حروب ونزوات وغزوات فاشلة عبر الحدود أو في دهاليز مخابراتها وعسسها الذين يعيثون في الأرض فسادًا.

لا ندري ماذا ستكون
وجهة هذه الهبّات الشعبيّة، بدءًا من تونس عبورًا إلى مصر أو بقاع عربيّة أخرى. غير أنّ أمرًا واحدًا يجب الالتفات إليه، ألا وهو انعدام أي أجندة "ثورية" حقًّا في هذه الانتفاضات. الشيء الواضح هو أنّ ثمّة تذمّرًا من هذه الأنظمة التي يربخ فيها الرئيس "الجمهوري" في منصبه عشرات السنين دون أن يفكّر أصلاً بأن "يحلّ عن ربّ" البشر في البلاد ويذهب للتقاعد. بل أنكى من ذلك، يحاول العمل على توريث المنصب وخيرات البلد للولد الذي ترعرع في أحضانه، كما لو أنّ الأوطان إقطاعيّة أو حظيرة عائليّة.

كذا هي حال الشام التي ابتدعت توريث الجمهورية. وقد مضى حتّى الآن على توريث بشّار الابن الشّاب عقد من الزّمان في رئاسة سورية. ألا تكفي هذه الأعوام ليُعرف صالحه وطالحه؟ لكن، يبدو أنّه، ولأنّه لا يزال في عمر الشّباب، فربّما كُتب على الشعب السّوري أن يخضع لرئاسته لعقود طويلة أخرى. غير أنّي أقول للحقّ أيضًا ودون مواربة، فمن خلال قراءة بعض كتابات المعارضين السوريين، أقول بعضها وليس كلّها، فإنّها هي الأخرى تثير الاشمئزاز بقدر ما يشمئز المرء من نظام البعث ذاته. فهي أيضًا لا تبشّر بالخير الذي يصبو إليه بنو البشر في هذه الربوع، كما إنّ الإسلاميين بإخوانهم وبمن يتبعهم فليسوا بأفضل حالاً من نظام القمع البعثي ذاته. على المعارضة أوّلا أن تقنع الجمهور السوري بجميع أطيافه الدينية والإثنية أنّها ليست طائفية وقبليّة هي الأخرى كالنّظام القائم الظّالم ذاته.

وكذا أيضًا هي الحال وعلى هذا المنوال في سائر "الجمهوريات" العربيات. لهذا السّبب فقد جاء ردّ فعل العقيد القذّافي مناصرًا لزين العابدين ولغيره من المستبدّين المخلّدين في السلطة. فهذا العقيد الغريب الأطوار لم يعد مُضحكًا بالمرّة. وهو وإن كان يُنعَت بـ"الأخ العقيد"، بينما يليق به أكثر تعبير "الآخ على التعقيد". إنّه الآخر لا يريد أن "يحلّ عن ربّ الشعب اللّيبي" بعد أكثر من أربعة عقود.

إنّ الهبّة الشعبيّة المصريّة كانت، أصلاً وفي الأساس، هبّة للإطاحة بمخلّفات الناصريّة العسكرية وأعوانها الذين أناخوا كلكلهم على صدر الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى طوال عقود طويلة دون أن ينقلوا البلد والمجتمع إلى مرتبة متقدّمة أسوة بباقي شعوب الأرض. لقد أفلحت الهبّة حتّى الآن فقط بالإطاحة بالرئيس، غير أنّ الطبقة العسكرية، صاحبة الامتيازات الاقتصادية المتشعبة، هي التي أحكمت القبضة الآن في أرض الكنانة.

لا يكفي ترديد شعار
"ثورة ثورة حتّى النصر". إنّما الثّورة تكون ثورة حقيقية وجديرة بهذه التسمية، فقط عندما تصل ليس حتّى النّصر، بل تصل حتّى العصر. أيّ حتّى تُجذّر المُكتسبات العصريّة التي تدفع بالبشر قدمًا. إنّ الانتفاضة المصرية ضدّ النّظام يمكن أن تتحوّل إلى ثورة حقيقيّة فقط عندما تقبل الطبقة العسكرية وأعوانها الذين يحكمون الآن بالمبادئ الأتاتوركية الدستورية التالية:
أوّلاً - فصل الدّين عن الدولة فصلاً تامًّا، بكلّ ما يعنيه هذا الفصل.
ثانيًا - مساواة تامّة في المواطنة بين المصريين - لا فرق بين مسلم ومسيحي وما سواهما من سائر المعتقدات الدينية وغير الدينية.
ثالثًا - مساواة تامّة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات دون استثناء.
رابعًا - فصل السلطات، التنفيذية، التشريعية والقضائية.
خامسًا - حريّة التفكير وحريّة التعبير وحرية الصحافة والنّشر هي حقوق دستورية مكفولة للمواطن.
سادسًا - يُنتخب الرئيس فقط لدوتين انتخابيّتين على أقصى حدّ، أي بما لا يزيد عن عشر سنين، يُحال بعدها إلى التقاعد.

هذه مجرّد بعض المبادئ، وهنالك بالطبع قضايا ومبادئ أخرى يجب العمل على تثبيتها. فقط عندما يتمّ إقرار هذه المبادئ بحذافيرها، عندئذ يمكن الحديث عمّا حصل في مصر بأنّه ثورة حتّى العصر. أمّا ما سوى ذلك، فإنّ لسان حالنا سيظلّ يقول: رجعت حليمة لعادتها القديمة، أو أنّنا سنظلّ نردّد إلى يوم يبعثون: كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

والعقل ولي التوفيق!
***
***
For Hebrew on the same topic, press here

إقرأ أيضًا:
أفكار معروضة للسرقة
______________________

الأحد، 23 يناير 2011

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
______
سـلمان مصـالحة

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

لقد كتب الأستاذ نادر قريط هنا في الأوان تهويمات نثريّة عاطفيّة عن الهبّة الشعبيّة التونسيّة التي أدّت في نهاية المطاف إلى رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وما من شكّ في أنّ الأسارير تنفرج والقلوب تنشرح حينما نرى النّاس يهبّون ضدّ المظالم التي يواجهونها. والهبّات تكشف، بين سائر ما تكشفه، أنّ هذه المظالم قد طال أمدها وقد تراكمت تبعاتها على صدور العباد حتّى أضحت جمرًا مستعرًا مختبئًا تحت رماد من صنوف الكبت. يُضحي الوضع في انتظار هبوب نسمة خفيفة تذرو هذا الرّماد فيستعر الجمر ويعلو اللّهب.

وهكذا، فقد تعالى من جديد على ألسنة العرب بيت شعر لأبي القاسم الشابي، وردّده الجميع في مشارق العرب ومغاربهم. غير أنّ الكثيرين الكثيرين من كلّ هؤلاء المردّدين لـ"إذا الشّعب يومًا… فلا بُدّ أن…"، إنّما هم يردّدون كلامًا لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم. إنّهم يردّدون بيت الشّعر بوصفه شعارًا شعبويًّا ليس إلاّ. وذلك، لأنّ جوهر هذا البيت هو نقيض واضح وبيّن لما هو قائم في الإيمان الإسلامي بالقضاء والقدر. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الفرديّة، ثمّ الجمعيّة من بعدها، هي الأصل وأمّا القدر بكلّ ما يحمل من معانٍ فلا عمل له في المصير بأيّ حال. القدر فقط يقوم بدور الاستجابة للإرادة، أفرديّة كانت هذه الإرادة أم شعبيّة. لقد نوّة الأستاذ نادر قريط عَرَضًا إلى هذه النقطة في مقالته قائلاً: "في معادلتك الشعرية الفذّة يا أبا القاسم، وضعت الشعبً والقدر وجها لوجه، فكسبت الرهان…".

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.

غير أنّ المفارقة الكبرى في كلام الأستاذ قريط تكمن في هذه الفقرة من مقالتة الشعريّة: "تونس "شعب" تجمعه الأرض والتاريخ، ويوحده حلم العيش الكريم ومدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال، ورجمت مليشيات الطاغية، وضمّدت الجرحى". يجب ألاّ ينسى الأستاذ قريط، وكثيرون غيره، ممّن يدبّجون الكلام الشّعري الآن على خلفيّة الهبّة التونسيّة، أنّ ما يمتدحونه في تونس بكلام مثل: "مدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال…"، فهو في نهاية المطاف من مُنجزات هذا النّظام التونسي بالذّات، بخلاف سائر الأنظمة العربيّة. أيّ أنّ كلام قريط هذا قد جاء ذامًّا فانتهى مادحًا بكلام هو ممّا يُحسب لصالح النّظام بالذّات.

ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح والتحسُّر على المشرق: "أما في مشرقنا فواحسرتاه! لقد كنّا شعبا في يوم ما، أما اليوم فنحلم على أريكة الديوان الشرقي، لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات، وفقهاء نبحث عن العصر الباليوليتي وعصماء بنت مروان لنهرب من واقعنا، فما أوسخنا…".

لقد وردت في المأثور العربي مقولة "يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره". وهي مقولة فيها نوع من التّساهُل والتّسامُح مع نزق الشّعراء في الخروج على النّحو والقواعد والمألوف في اللّغة. ولمّا كان الأستاذ قريط قد كتب مقالة شعريّة، فإنّي سأنظر إليها بنوع من التّساهُل أيضًا قائلاً بيني وبين نفسي: يحقّ له في هذا الانجراف الشّعري ما لا يحقّ لغيره.

ولكن، ومن جهة أخرى، فهل ما ورد في كلامه الشّعري هذا يستند إلى أسس متينة؟ إنّه يقول: "لقد كنّا شعبًا في يوم ما". فهل هذه المقولة صحيحة؟ ومتى كنّا شعبًا في يوم ما؟ هل بوسع الأستاذ قريط أن يذكر لنا ذلك اليوم بالتحديد؟ ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح: "لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات…". مرّة أخرى، لا أدري علام يستند هذا الكلام.

في رأيي، لقد تحوّل الحديث عن "البترودولار" في السّنوات الأخيرة نوعًا من الشّعارات الشّعبويّة التي تُطرح لتُدغدغ عواطف "مُراهقي العروبة" في المشرق والمغرب دون أن تكون هذه الشعارات مدعومة بأيّ حقائق. فهل حقًّا كلّ مآسي العرب مردّها إلى "البترودولار"؟ وهل القبائل والشيع والملل والمذاهب كلّها مردّها إلى "البترودولار"؟ ولو كانت هذه حقيقة، فماذا كان العرب قبل البترودولار؟

إنّ ما أخشاه في هذا النوع من الكلام هو أن يتحوّل إلى جوهر الخطاب العربي. إنّ هذا الكلام لا يختلف كثيرًا عن أنواع الكلام المندرج في خطاب "نظريّات المؤامرة" الشائعة الفضاء العربي. إنّ هذا النوع من الكلام، رغم كلّ النوايا الطيّبة التي قد تكون تلفّه، إنّما يشقّ في نهاية المطاف طريقًا أخرى من الطّرق التي يسلكها كلّ الهاربين من مواجهة الحقائق العربيّة. إنّها حقائق عربيّة متعدّدة المناحي، من الاجتماعيّة والدينية والثقافية والسياسية إلى آخره.

إنّ ما جرى في تونس كان ممكن الحدوث لعدّة أسباب:

أوّلاً، لأنّ الشّعب التونسي يتّسم بالتّجانس، إذ أنّ 99 بالمائة منه عرب يدينون بذات المذهب، وكلّ ما يجري لا يمكن أن يتحوّل إلى صراعات مذهبيّة.

ثانيًا، لأن ما جرى من تحديث في البلد بخصوص الأحوال التعليمية والأحوال الشخصيّة ومساواة المرأة وحضورها المدني من جهة، وتقييد الإسلامويين وما يمثلونه من جهة أخرى، هي بالذّات من منجزات النظام التونسي التي تُحسب له، لا عليه. وهي في نهاية المطاف ما تدفع إلى حدوث هبّات من هذا النوع المدني.

إنّه لمن المفرح أن يهبّ التونسيّون ليطيحوا بطاغية النّظام، غير أنّ الحذر يجب أن يكون نصب أعين المنتفضين في تونس. يجب التشبُّث بالمنجزات المدنيّة والّتي على رأسها مساواة المرأة والرّجل في كلّ مناحي الحياة. إنّ هذا المنجز هو ما يجب البناء عليه للمستقبل. ويجب في الوقت ذاته الحذر من الإسلامويين المتربّصين الذين ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المنجز التونسي وسائر المنجزات الأخرى، بغية جرّ تونس إلى الوراء. يجب أن يتذكّر التونسيّون، كما سائر العرب، أنّه فيما يتعلّق بالمجتمعات العربيّة فإنّ المرأة هي الحلّ، وليس الإسلام بأيّ حال.

هل ما حدث في تونس قد يحدث في بلاد عربيّة أخرى، مثلاً في سورية؟
أشكّ في ذلك جدًّا. وشكوكي نابعة من رؤيتي للحقيقة السورية المختلفة جذريًّا عن تونس. ففي سورية، مثلما هي الحال في العراق وأماكن أخرى، لا يمكن الحديث عن شعب متجانس، فمصطلح "الشّعب السّوري" هو مصطلح فضفاض، إذ أنّ المواطنين الذين ينضوون تحت مسمّى الدولة السوريّة هم تشكيلة متنوّعة من النّاس والأقوام والمذاهب والطوائف، من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيّين وسنّة وشيعة ودروز إلى آخره. هذه الحقيقة تختلف جذريًّا عن الوضع التونسي. كما إنّ النّظام السّوري، وإن كان يرفع شعارات قومويّة، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر نظام قبليّ بامتياز يستند إلى سلسلة من قوّات عسكريّة خاصّة ومخابرات مرؤوسة كلّها طائفيًّا وغايتها حماية رأس النّظام القبلي. لهذا السّبب، فإنّ طبيعة هذا النّظام هي طبيعة اضطهاديّة في جوهرها، ولذلك فإنّ أيّ تحرّك شعبي ضدّ النّظام ورأسه يُفهَم من قبل أركان النّظام على أنّه خطر على القبيلة، أو الطائفة، بأسرها، ولذا فإنّ سحق أيّ تحرّك شعبي من هذا النّوع هو من أولويّات نظام تأسّس على هذه الأصول. وما جرى في حماة هو مثال صارخ لهذه الدمويّة.

من هنا، فلا يمكن بأيّ حال مقارنة ما جرى في تونس ومع ما يجري في سائر البلاد العربيّة، وخاصّة تلك البلدان التي تتشكّل من أطياف بشريّة متنوعة دينيا وإثنيا. وخلاصة القول، ولقد ذكرت ذلك أكثر من مرّة في الماضي، إنّ العرب على العموم هم أكثر الأمم احتياجًا إلى ثورة حقيقة تفصل الدين عن الدولة بكلّ ما يعني ذلك. وبكلمات أخرى، هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ في هذا الأوان. إذ، بغير ذلك، فسيواصلون التّخبُّط والتفتُّت إلى أن يندثروا من التاريخ البشري.
*
نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب، 22 يناير 2011

***
On the same topic:
Hebrew, press here
English, press here
Italian, press here
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاثنين، 10 يناير 2011

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان!

هكذا، بشعار: "بالرّوح بالدّم، نفديك يا فُلان" يتمّ اختزال الوجود العربي، البشريّ والحضاريّ، في هذا الـ "فلان" كائنًا من كان...
----

سـلمان مصـالحة

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان!

هكذا وعلى مرّ التّاريخ العربي المعاصر تتعالى الأصوات من لَهَوات الحُلُوق والحناجر. فمرّة تعلو هذه في مسيرات مُسَيّرة، لا مُخَيَّرة، في الشّوارع، ومرّة تعلو هذه الأصوات من مؤتمرات ما يُسمّى زورًا وبهتانًا نقابات صحفيّين أو مُحامين في بلاد لا صحافة فيها ولا محاماة.

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان: "فلان وفلانة: كناية عن أسماء الآدميين. والفلان والفلانة: كناية عن غير الآدميين. تقول العرب: ركبتُ الفُلان، وحلبتُ الفُلانة... وعن ابن السّكّيت: إذا كنيت عن الآدميين قُلتَه بغير ألف ولام، وإذا كنيت به عن البهائم قُلتَه بالألف واللاّم.... وقال ابن بُزُرْج: يقولُ بعضُ بني أسد: يا فُلُ أقْبِلْ، ويا فُلُ أقْبِلا، ويا فُلُ أقْبِلُوا... وقال ابنُ بَرِّي: فلانٌ لا يُثنّى ولا يُجمَع. وقوله عزّ وجلّ: "يا ويلتا ليتني لم اتّخذ فُلانًا خليلا"، قال الزّجّاج: لم اتّخذ فُلانًا الشّيطان خليلاً". وهنالك أيضًا من يفرد ويثنّي ويجمع: فل وفلان وفلون (عن لسان العرب، مادّة: فلن)
***
هكذا، بشعار: "بالرّوح بالدّم، نفديك يا فُلان" يتمّ اختزال الوجود العربي، البشريّ والحضاريّ، في هذا الـ "فلان" كائنًا من كان، ويتمّ على هذا الأساس نفيُ الإنسان وعَزْلُ الأوطان. ولمّا كان هذا الـ "فُلان"، أكان من بني البشر أو من ذوي الوبر، آيلاً للزّوال، فما على العربان إلاّ استنساخ فلان بفلان في سمفونيّة التّهليل لكلّ حاكم ضِلّيل. وعندما يرتفع هذا التّهليل على خلفيّة مبنيّة على أسس التّهويل فما من سبيل إلى سواء السّبيل.

بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلُ، ويا فُلان، ويا فلون. هكذا بشعار واحد يغيب البشر، طوعًا وكراهية، عن الوجود. وعندما ينفي الإنسيُّ وجوده كمخلوق عاقل فاعل في هذه الطّبيعة تُضحي صورةُ الشّعب صورةً طبق الأصل لهذا الفلان الّذي يتمّ افتداؤه بالرّوح وبالدّم. وإذا كان الفُلانُ نَزِقًا مُتهوّرًا يتطبّع الشّعبُ بهذه النّعوت. وإذا كان جاهلاً فهو يغدو كارهًا للعلم وللعلماء ويطبع النّاس بطبعه. وإن كان فاسدًا فسد النّاس معه، لأنّ النّاس تنازلت، تَمَثُّلاً به طبعًا، عن ملكة العقل تَزَلُّفًا. فالفُلانُ الرّابخ على سدّة الحكم، يُفكّر باسم الجميع، ويتكلّم باسم الجميع. وإن شاء أيضًا فهو المُخوَّلُ أيضًا بأن يُغيّر رأيه باسم الجميع. وما على الشّعب سوى أن يُوقّع على صكوك الولاء الأبدي السّرمدي لفُلان الفُلانيّ.

ولمّا كان الفُلانُ، كسائر الحيوان، مصيرُه الزّوالُ يقينًا، فلا خشية أن تتبدّل هذه الذّهنيّة لدى بني يَعرُب. فـ"فلان" هذا، كسائر مخلوقات الطّبيعة، يُعقِبُ نسلاً على شاكلته، مثلما أنّ الشّعوبُ هذه المتطبّعة بذهنيّة "فلان" تُعقبُ هي الأخرى نسلاً على شاكلتها. وما أن يأتي فُلانٌ جديد حتّى تأتي فُلُونٌ أخرى تهتفُ من قعر رؤوسها، المُفرّغَة طوعًا وكراهية، بافتداء "الفُلان الجديد" بالأرواح والدّماء الرّخيصة.
***
ولمّا كانت الأجيال العربيّة النّاشئة تعيش في حالٍ من الأوهام. ولمّا كانت هذه الأجيال لا تقرأ شيئًا من تراثها، وإن قرأت لا تفهم، وإن لم تفهم فهي لا تتجرّأ على الاستفهام، فها نحنُ نذكّرهم ببعض ما رُوي من أقوال عن السّلف، لعلّ في ذلك ما يدفعهم إلى مساءلة هؤلاء الحُكّام، وإلى قول كلمة الحقّ علانيةً، لا يخشون في ذلك لومة من أحد اللّوّام. فقد ورد في حديث عليّ الإمام (عليه السّلام): "عن أبي جعفر قال: خطب أمير المؤمنين الناس بصفين، فكان مما قاله: فلا تُكلّموني بما تُكَلَّمُ به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتَحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمُصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حَقٍّ قيل لي، ولا التماسَ إعظامٍ لنفسي لما لا يصلح لي. فإنّه من استثقلَ الحَقَّ أن يُقالَ له، أو العدلَ أن يُعرضَ عليه، كان العملُ بهما أثقلَ عليه. فلا تكفّوا عني مقالةً بحقٍّ، أو مشورةً بعدلٍ، فإنّي لستُ بفوق أن أُخطئ، ولا آمَنُ ذلك من فِعْلي، إلاّ أن يكفي الله مِنْ نفسي ما هو أمْلَكُ به منّي؛ فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون"، (عن: بحار الأنوار للمجلسي، ج 27، ص 253)
***
ولمّا كانت السّياسة ليست دينًا، كما أنّها ليست توحيدًا إلهيًّا، وليست أيّ شيء من هذا القبيل، فحريّ بنا أن نفكّر في سبيل آخر للخروج من هذا المأزق. بكلمات أخرى، بوسعنا أن نقول، إنّه فيما يخصّ السّياسة والنّظم الّتي تسيّر أمور النّاس فإنّنا، نحن العربان، بحاجة إلى مبدأ الـ"شِرْكٍ" في هذه السّياسة. أي قد آن الأوان إلى الخروج من شراك هذا الشّعار "التّوحيدي" الّذي يعني، في أعرافنا المتوارثة كابرًا عن كابرٍ، الحاكم القائد الرّمز الفرد الواحد الأحد، الّذي تسلّط على ذهنيّة العربان السّياسيّة.

وهذا الـ"شِرْكُ" الّذي نعنيه في السّياسة هو بمعنى الـ"مشاركة" في تسيير أمور البشر، كمجتمع عصري متكامل متكافل. والمشاركة تعني أيضًا عدم الاقتصار على فُلان الفُلاني، أكان هذا الـ"فلان" من بني تميم أو بني قيس أو بني أسد، في السّيطرة على مصائر هؤلاء البشر وتصريف أمور المجتمع والدّولة. بل يجب أن ينضاف إليه "عَلاّن" آخر أو أكثر من علاّن واحد. بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول، إنّه يجب أن يتمّ استبدال فلان بـ "علاّن" في دورات انتخابيّة محدودة الزّمن من بين صفوف النّاس في الوطن. ألم نقرأ في المأثور: "لا يُغيّر الله ما بقوم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم". أو لنقل، حتّى يُغيّروا المفاهيم الّتي يترعرعون عليها في بيوتهم وفي كتاتيبهم الّتي شاعت باستخدام مصطلح مدارسهم.

وما لم يسر العربُ في هذه الطّريق، فلن يتمّ إسكات هذا الوسواس الخنّاس.

أليس كذلك؟
*
نشرت في "إيلاف"، 24 أغسطس 2006
__________________

الجمعة، 7 يناير 2011

المؤمنون هم أعدى أعداء الله


سـلمان مصـالحة

المؤمنون هم أعدى أعداء الله


رغم ما قد يتبادر إلى ذهن البعض من المفارقة الواضحة في هذا العنوان غير أنّ ما نشهده على طول وعرض الساحة العربيّة وغيرها يكشف هذه الحقيقة المرّة على الملأ.

الخميس، 30 ديسمبر 2010

رسالة في فضل التشبّه بالـ"كفّار"


إنّ تحريم "التّشبُّه بالكفّار" يقتضي إذن تحريم كلّ ما يخترع ويصنع هؤلاء الـ"كفرة" من الأغيار، وتحريم التّداوي بمبدعات علومهم وبأيدي أطبّائهم، إذ أنّ هذه كلّها من البدع الّتي تودي بصاحبها في النّار...

الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

اتّحاد ”قلّة الأدب“ الفلسطينيّ




سـلمان مصـالحة


اتّحاد "قلّة الأدب" الفلسطينيّ


أرسل إليّ أحد الأصدقاء رسالة يلفت فيها انتباهي إلى خبر نشرته صحيفة ”اليوم السابع“ المصريّة، ذاكرًا لي أنّ الخبر يدرج اسمي ضمن أسماء لآخرين يشاركون في مؤتمر أدبيّ ينظّم في مدينة حيفا في بداية ديسمبر. في البداية ظننت أنّه يمزح، كعادته، خاصّة وأنّي لا أشارك هذه الأيّام لا في مهرجان ولا في أيّ مؤتمر يقام في حيفا أو في أيّ مكان آخر. غير أنّه عاد وأكّد على ما ذكره لي، بل وأرسل إليّ وصلة لموقع الصحيفة في الإنترنت.

وبالفعل، قرأت الخبر في ”اليوم السابع“ وهاكم فُتاتًا منه: ”كتب وجدي الكومي: قال الكاتب الفلسطيني مراد السوداني رئيس اتحاد كتاب فلسطين، إن الكاتب المغربي الطاهر بن جلون وعدد كبير آخر من الكتاب منهم الفلسطيني سلمان مصالحة سوف يشاركون فى مؤتمر إسرائيل الأدبي المزمع انطلاقه اليوم الأربعاء فى بلدية حيفا. وأكد رئيس اتحاد الكتاب الفلسطيني فى اتصال هاتفي مع "اليوم السابع" على أنه تلقى اسم بن جلون وهؤلاء المطبعين ثقافيًا مع إسرائيل، ضمن برنامج المؤتمر الأدبي الذي زوّده به صديقُه الروائي الفلسطيني سلمان ناطور ...“ (عن: اليوم السابع، 1، ديسمبر 2010).

بعد قراءة الخبر قلت بيني وبين نفسي: حقًّا، ما كان الصّديق بكلامه مازحًا ولا بدعاباته طافحًا، بل عارف بكلّ خبايا هذه المطارح. ولمّا كنت لا أعرف شخصيًّا من هو مراد السوداني هذا، لا صنعته ولا مهنته، وهو الذي تسمه الصحيفة برئيس اتّحاد كتّاب فلسطين، كما لا علم لي أصلاً بوجود اتّحاد بهذا الاسم أو ذاك، ولا تعنيني اتّحادات الكتّاب لا في فلسطين ولا في سائر البلدان، فما أكثر الاتّحادات وما أقلّ بركتها عند العرب. قلت في نفسي سأكتب رسالة بالبريد الإلكتروني واستفسر من سلمان ناطور (الروائي الفلسطيني) الّذي يزوّد رئيس اتّحاده - اتحاد كتّاب فلسطين - بأخبار الأدب والأدباء. وهذا بعض ما جاء في رسالتي إليه: ”... قرأت الخبر في "اليوم السابع" وأثار استهجاني جدًّا، إن لم يكن أكثر من ذلك. لا أدري كيف تسمح لنفسك بأن تزجّ باسمي في الموضوع، وما دخلي أنا به؟... أنتظر ردّك“.

وسرعان ما جاء ردّ سلمان ناطور على رسالتي، وأقتبس منه ما يلي: ”لم أقرأ الخبر من قبل وأنا أيضًا أستهجن كيف زج مراد باسمك وحتى باسم الطاهر بن جلون. فما أرسلته له هو قائمة المدعوين... أرسلت له بالميل مواد المؤتمر... وأسماء المدعوين... اسمك لم يكن في القائمة... ولذلك أنا أيضا أستهجن وروده في تصريح مراد... لقد حاولت الاتصال بمراد السوداني، ولكنه كما علمت متواجد في بيروت. هو عليه واجب النشر عن المصدر الذي اعتمد عليه بنشر اسمك اذا كان هناك مصدر أو أن يفسر كيف خطر اسمك بباله. على كل حال، أنا أفهم غضبك وحقك في الدفاع عن موقفك، خاصة في مسالة ليس لك فيها شبق ولا عبق. ولكنني لست العنوان لهذا الغضب.“

إذن، يتبيّن من قراءة رسالته الجوابيّة أنّ الطّاسة، كما نقول في لهجتنا، قد ضاعت بين السوداني والناطور. وما علينا الآن إلاّ أن نبحث عنها. غير أنّه، وكما يقال في لغة عفا عليها الزمان، ثمّة أمر واحد لا يمكن بعد الآن أن ينتطح فيه عنزان: أحد الإثنين، إمّا السّوداني وإمّا النّاطور، كاذب. وأنا لا أعلم حتّى هذه اللّحظة أيّهما الكاذب وأيّهما النّادب. وهذه المسألة يمكن على كلّ حال أن يتدارسها فيما بينهما الاثنان للخروج بقول فصل يفرز القمح من الزؤان، والصدق من البهتان.

علاوة على ذلك، ولكي أكون على بيّنة من الأمر أكثر فأكثر، فقد بحثت عن برنامج هذا المؤتمر في الصحافة العبريّة، فما من شكّ أن الصّورة قد تتّضح لي بصورة أبهر وأنور، لأنّ برامج المؤتمرات تُنشر عادة في وسائل الإعلام بعد أن يكون المدعوّون قد وافقوا على المشاركة فيها. وبعد بحث بسيط عثرت على برنامج المؤتمر وهو منشور باللغة العبريّة.

هاكم، إذن، أسماء الكتاب العرب المشاركين كما نُشرت باللغة العبرية: من البلاد - سميح القاسم، سالم جبران، نداء خوري، سميح ناطور (شقيق الروائي؟؟؟). ومن خارج البلاد - نجم والي (عراقي)، سهام عصامي (مغربية)، طارق بسبسي (جزائري).

إذن، لا أدري، وبعد كلّ ما ذكرت آنفًا، من أين جاؤوا باسمي وكيف زجّوا به في أمر لا جمل لي فيه ولا ناقة حلوبًا.

لن أدخل في هذه المهاترات معهما أو مع غيرهما، مع أنّ لديّ الكثير ممّا يُقال في هذا الشأن وفي غيره من شؤون المستنقعات ”الأدبيّة“ العربيّة المتمثّلة في اتّحادات لا همّ لها سوى كثرة الشغب وقلّة الأدب. وأكتفي بهذا القدر من التنويهات والتوضيحات الآن.

وعلى كلّ حال، ليس من عادتي أن أشارك في الخفاء أو خلسة في مؤتمر هنا أو مهرجان هناك كما يفعل كثيرون. فليس لديّ ما أخفيه، كغيري من كتّاب وأدباء فلسطين أو سائر خرّيجي الكتاتيب العربية الأخرى.

ولعلّ خير ما اختتم به هذا الكلام هو التذكير بمقولتنا الشعبيّة التي تلخّص هذه الحال، وهي تقول: ”قلّة الشّغل بتعلّم التطريز“. وعلى ما يبدو، فإنّ هؤلاء وأمثالهم مشغولون بتطريز بيانات قلّة الأدب، ليس إلاّ. فهنيئًا لهم بهذه الصنعة!

والعقل وليّ التوفيق!
***
المقالة نشرت في: إيلاف، 8 ديسمير 2010
______________________________
قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع