سلمان مصالحة || لأ، اللّي فات ما مات
أحيانًا لا يعرف المرء
من أين يبدأ. ليس لأنّ الأمور غير واضحة المعالم، بل لأنّ الأخبار والمشاهد التي تصل أسماع وأنظار الناس تحتوي على الكثير ممّا يجعل المرء في حيرة من أمر بعض هؤلاء الذين يتمّ اختيارهم للقيام بمهامّ حسّاسة وفي مناطق حسّاسة. يبدو أنّ الذهنيّات التي جُبلوا عليها لا تبارحهم أينما حلّوا وحيثما ارتحلوا.
أحيانًا لا يعرف المرء
من أين يبدأ. ليس لأنّ الأمور غير واضحة المعالم، بل لأنّ الأخبار والمشاهد التي تصل أسماع وأنظار الناس تحتوي على الكثير ممّا يجعل المرء في حيرة من أمر بعض هؤلاء الذين يتمّ اختيارهم للقيام بمهامّ حسّاسة وفي مناطق حسّاسة. يبدو أنّ الذهنيّات التي جُبلوا عليها لا تبارحهم أينما حلّوا وحيثما ارتحلوا.
لا شكّ أنّ القارئ لا زال يتذكّر تلك المهزلة التي جاءت من طرف الجامعة العربية. فلقد ماطلت هذه الجامعة العربية، على ما تمثّله من منظّمة تافهة تفاهة الدّول المنضوية فيها، برئيسها الذي لم يكشف كما يشي اسمه، لا عن النُّبل ولا عن الهمّ العربي. لقد التأمت هذه الجامعة وعقدت جلسات، فقامت وقعدت وشربت القهوة السادة وناقشت إلى أن خرجت بقرار إرسال مراقبين عربًا لإعداد تقرير عمّا يجري في سورية.
كلّ ما استطاعت هذه الجامعة تقديمه للشعب السّوري هو إرسال ما نُطلق عليه في لغتنا المحكية ”حاميها حراميها“. لقد تمثّل هذا الـ”حرامي“ برئيس بعثة المراقبين تلك، الجنرال السوداني محمد مصطفى الدابي. نعم، لا ندري ما هي الذهنيّة التي تقف وراء اختيار جنرال سوداني كان مسؤولاً عسكريًّا في دارفور، حيث ارتكب الجيش السوداني المجازر بحقّ مئات الآلاف من البشر.
والآن، نقرأ ونسمع
بشأن بعثة نفر المراقبين المرسلين من قبل الأمم المتّحدة. إنّ ما يشدّ الانتباه هو الكلام الصادر عن بعض العرب من هؤلاء النّفر. فلقد نشرت وسائل الإعلام والاتّصال العصرية أخبار وصور وكلام رئيس فريق المراقبين الدوليّين. وهذه المرّة يأتي الكلام من الجنرال المغربي أحمد حميش. لقد تناقلت وسائل الإعلام خبر حديثه مع أهالي حمص المنكوبة، فماذا يقول هذا العقيد الفهلوي لأهالي حمص؟ يجب أن يسمع القارئ لكي يفهم هذه الذهنية التي استحكمت في طبائع هذه الـ”حضارة“. هكذا يقول العقيد الجديد: ”اللي فات مات.. ومن استشهد رحمه الله". نعم، هكذا يلخّص هذا العقيد البليد الجديد رؤيته أمام المنكوبين من أهل حمص.
لو كان الأمر مضحكًا
لكنّا ضحكنا، وانتهى الأمر. غير أنّ الأمر لا يثير الاشمئزاز فحسب، بل إنّه يثير الامتعاض والغثيان لشدّة ما يكشفه من بلادة عاطفيّة وذهنيّة في آن معًا. فهل يعتقد العقيد البليد أنّه موجود في جلسة لحلّ إشكال بين أطفال متناوشين على أمور تافهة، أم أنّه يظنّ أنّه يجلس في خيمة لعقد صلح عشائري؟ فما هي رتبة العقادة هذه التي يحملها وما هي رتبته في سلّم رتب البلادة؟
نعم، فات الكثير ومات الكثير. لم يمت هؤلاء بقضاء وقدر، بل قتلتهم طغمة وعصابة عن سبق إصرار. لقد قتلتهم عصابة أدعياء العروبة عن سبق إصرار لأنّهم خرجوا ينشدون الحريّة. نعم، فات الكثير في هذا العام المنصرم ومات الكثير في بلاد الشام فقط لمجرّد طلب الانعتاق من هذا النّظام الذي انبنى على الجريمة متلبّسًا شعارات قومويّة لم تعد تنطلي على أحد.
اللّي فات مات؟
لأ. أيّها العقيد البليد. اللّي فات ما مات، ولن يموت. النّظام الذي انبنى على الإجرام، لا مناص من أن يرحل. رؤوس النّظام الّذين أدمنوا القتل لا بدّ من تقديمهم للمحاكمة. فقط بعد ذلك، يمكن القول للآخرين من فلول هذا النّطام: اللّي فات مات. ويمكن بعدئذ المضيّ قدمًا في مصالحة وطنية حقيقية، بين جميع الأطياف الطائفية التي يتركّب منها المجتمع السّوري.
على السوريّين المنتفضين أن يرفضوا استقبال مراقبين عربًا، إذ أنّ هؤلاء لا يفهمون على ما يبدو المهمّة الملقاة على عاتقهم. لأنّ طبعهم يغلب تطبّعهم في نهاية المطاف. وإلى أمثال الدّابي السوداني، أو العقيد المغربي لا يسعنا إلاّ القول: الأمور لن تعود إلى سابق عهدها وكأنّ شيئًا لم يكن.
لن تعود الأمور إلى سابق عهدها وكأنّ ”اللّي فات مات...“. أليس كذلك؟
والعقل ولي التوفيق!
*
***