يأس، وي كان


سلمان مصالحة ||


يَأْس، وي كان 


شيء واحد لا يمكن تجاهله في انتخاب أوباما رئيسًا جديدًا للولايات المتّحدة الأميركيّة: على الرّغم من الثّغرات الكثيرة الّتي قد تنوجد في النّظام الدّيمقراطي إلاّ أنّ هذا النّظام لا يزال أفضل ما أوجده النّاس لتسيير أمور حياتهم المجتمعيّة. لقد مرّت قرون طويلة منذ أن وضع القدماء هذا المبدأ نبراسًا ينير درب المدينة الدّولة في العصر الإغريقي، وعلى مرّ القرون جرت على هذا النّظام تعديلات كثيرة. في الحقيقة، إنّ الدّيمقراطيّة الّتي نراها في هذه الأيّام، والّتي يتساوى فيها المواطنون في المواطنة دون اعتبار للجنس والعنصر، بكلّ ما يحمله هذان المصطلحان من معانٍ، هي جديدة. فحتّى أوباما ذاته وما يمثّله من خلفيّة إثنيّة، ما كان بوسعه قبل عقود ليست كثيرة أن يحلم بالوصول إلى هذا الموقع الّذي يملؤه الآن. 

ولكن، ورغم كلّ الثّغرات الّتي قد تنوجد في هذا النّظام، إلاّ أنّه يبقى الأفضل. فها هي الدّيمقراطيّة الّتي تتضمّن في جوهرها مبدأ المساءلة والحساب وآليّات التّغيير تضع على رأس السّلّم السّياسي في الدّولة الأعظم في العالم هذا الإنسان ذي الخلفيّة الاجتماعيّة والإثنيّة المعروفة من سيرته الذّاتيّة الّتي يعرفها الجميع ولا حاجة إلى تكرارها. لا أدري إن كان الرئيس المنتخب أوباما سينجح في قيادة هذه الدّولة العظمى أم لا، فهذه النّتائج ستظهر في الحلبة الدّوليّة عاجلاً، فكما هو معروف فإنّ الرئاسة الأميركيّة تدوم على الأكثر دورتين انتخابيّتين، أي ثماني سنوات فقط، وهي ليست بالطّويلة قياسًا إلى ما نعرفه نحن، بني يعرب، من توريث وتأبيد الرئاسات والسّلطنات والإمارات إلى آخر قائمة دول الطّوائف. 

هذا هو الفرق بين ما نراه في العالم الدّيمقراطي من حولنا وبين ما نراه من أحوالنا في أنظمة التّوريث والاستبداد الّتي تعيث في الأرض فسادًا وجهلاً. لقد شاهدنا نحن، مثلما شاهد العالم بأسره، كيف ألقى النّاخب الأميركي الّذي يعيش ويعمل في النّظام الدّيمقراطي بمرشّح الجمهوريّين من فصيلة بوش وأمثاله إلى سلّة المهملات. هناك، في سلّة المهملات السّياسيّة هذه، سيجري هؤلاء وأتباعهم وللأعوام الأربعة القادمة حساب نفس عسيرًا وطويلاً، وقد يزيلون الأوساخ والقاذورات الّتي علقت بهم من إدارة الرئيس بوش وبطانته السيّئة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًا. إنّهم يعرفون أنّ الطّريق الّتي تُفضي إلى عودتهم للسّلطة منوطة بتلك الحسابات الّتي يجرونها بينهم وبين أنفسهم، ولكن فوق كلّ ذلك منوطة بنجاح أو فشل الإدارة الأميركيّة الجديدة، ولذلك سيكونون لها بالمرصاد. إنّهم يعرفون قواعد اللّعبة، ويحترمونها إلى أبعد الحدود. 

لذلك، يستطيع الأميركيون أن يصرخوا بملء أفواههم: "Yes, we can" (نعم، نحن قادرون). يستطيع الأميركيّون أن يفرحوا بنظامهم الدّيمقراطي، وقد أثبتوا حقًّا على أنّهم قادرون على التّغيير. إنّ نظامهم الدّيمقراطي يسمح لهم بذلك ووسائل التّغيير مطروحة أمامهم على الطّريق، فما عليهم إلاّ أن يستغلّوا هذه الإمكانيّات من أجل إحداث التّغيير الّذي يطمحون إليه. كذلك، تستطيع سائر شعوب الأرض الّتي تعيش في أنظمة ديمقراطيّة أن تفرح مع الأميركيّين، لأنّ كلّ تلك الشّعوب تعرف أنّها هي الأخرى قادرة على التّغيير في بلادها، عبر صناديق الاقتراع. 
 
أمّا نحن، بني يعرب، فإنّنا ننظر إلى هذا العالم من حولنا مشدوهين بما يفعل بنو البشر فيه. قطار العالم يمرّ على مرأى منّا ولا نستطيع إليه سبيلاً. هذا القطار السّريع الّذي يشقّ العالم طولاً وعرضًا لا نعثر على محطّة واحدة له في منطقتنا العربيّة. لا يستطيع الفرد العربيّ أن يندسّ بين ركّاب هذا القطار العالميّ. لا يستطيع الفرد العربي أن يصعد للرّكوب في هذا القطار متوجّهًا فيه نحو المستقبل البشري. 

نعم، إنّنا ننظر من حولنا، فماذا نرى؟ 
نعم، نرى الممالك المُطلَقَة بنسبٍ متفاوتة من الاستبداد، غير أنّ الاستبداد يظلّ هو السّمة الواضحة فيها. ننظر من حولنا، فماذا نرى؟ نعم، نرى كلّ تلك الأنظمة الّتي تدّعي أنّها جمهوريّة وثوريّة وما إلى ذلك من شعارات بليدة مزمنة، بدءًا من "الجمهوريّة الثّوريّة الاشتراكيّة العظمى" وعقيدها الّذي عقّدها تعقيدًا منذ أربعة عقود. نعم، ننظر من حولنا، فماذا نرى؟ نرى "جمهوريّة مصر العربيّة" (لاحظوا التّسمية، وكأنّ هنالك جمهوريّة مصريّة غير عربيّة يرغبون في الانمياز عنها)، ورئيسها الّذي يقترب من نهاية العقد الثّالث في الحكم. وكأنّ "أمّ الدّنيا" هذه لا تستطيع أن تجد من بين الثّمانين مليونًا رئيسًا يخلفه كلّ هذه العقود، فها هو يشقّ الطّريق للتّوريث من بعده. 
 
ننظر من حولنا، فماذا نرى؟ 
ها هو الأسد الأب أورث الأسد الابن سدّة الحكم بعد عقود طويلة من الحكم. ومع أنّنا نتمنّى عمرًا مديدًا للأسد الابن، فهو لا زال في ريعان الشّباب، لكنّنا نقول مع ذلك، هل قُضيَ أمر الشّعب السّوري أن يعيش العقود القادمة مع هذا الرئيس الّذي يمثّل النّظام القبليّ العربيّ في أشدّ أوجهه سوءًا وفسادًا في الأرض؟ 
 
وفي فلسطين سبق فساد الزّعامات الفلسطينيّة حتّى قيام الدّولة وهذه حقيقة يعرفها ويشهد عليها كلّ فلسطيني. لا حاجة إلى الإطالة في هذا السّرد، فكذا هي الحال في مشارق العرب ومغاربها. 
 
إذن، وبعد كلّ هذا الّذي قيل، ماذا تبقى لنا نحن العربان أن نقول؟ على ما يبدو فإنّ الشّعار الوحيد الّذي نستطيع أن نرفعه إلى يوم يُبعثون هو: "يَأْس، وي كان"، أو "يَأْس، وين ما كان". 

نعم، نحن يائسون. أليس كذلك؟ 

***
 
***  
 
***

هل حوار الأديان ممكن؟


سلمان مصالحة

هل حوار الأديان ممكن؟

بسبب ما يشهده العالم
من صراعات تأخذ أبعادًا ذات خلفيّة دينيّة في كثير من الأحيان، هنالك من يطلق، ولنوايا طيّبة بالطّبع، دعوات إلى حوار الأديان. ومصطلح الأديان في هذه الدّعوات إنّما يعنون به اليهودية والمسيحية والإسلام، إذ أنّ سائر الدّيانات البشريّة لا تعنيهم أصلاً. يذهب هؤلاء الداعون إلى إجراء حوار من هذا النّوع إلى أنّ القيادات الدّينيّة لدى هذه الدّيانات السّماوية تستطيع أن تخفّف من وطأة هذه الصّراعات الّتي تمزّق النّسيج البشري على اختلاف مذاهب ومشارب هذا النّسيج.

ينقسم أصحاب هذه الدّعوة إلى قسمين، فمنهم رجال دين ومنهم من هم رجال سياسة أو شخصيّات اجتماعيّة أو ثقافيّة. وإذا نظرنا إلى رجال الدّين الّذين يطلقون دعوات الحوار هذه نلاحظ أنّهم ليسوا من رجال الصفّ الأوّل لدى أتباع العقيدة الّتي ينتمون إليها، وإنّما هم أناس متديّنون ذوو نوايا طيّبة بلا شكّ، غير أنّ تأثيرهم لدى أبناء ملّتهم هو تأثير ضئيل. أمّا القسم الآخر فهو يشمل أناسًا ذوي نوايا طيّبة أيضًا غير أنّ فهمهم للدّين هو فهم سطحيّ. بالإضافة إلى ذلك يُستشفّ من دعواتهم نوع من الشّعور بالنّقص أمام رجال الدّين، وهو الأمر الأخطر في توجّهاتهم هذه.

لا يمكن أن تأتي دعوات كهذه
بأيّ نتيجة، لأنّ الأديان لا تتحاور. مرحلة الحوار في الأديان هي مرحلة نشوء الأديان، لكن وبعد أن تستكمل الأديان وجودها وتؤسِّس عقائدها تتوقّف عن لغة الحوار، لأنّها تصل إلى مرحلة الإصرار على أنّها العقيدة الوحيدة الّتي تمتلك الحقيقة. ومتى ما وصلت إلى مرحلة الإصرار هذه، بما يتبعها من أصول تضع الكواتم على العقول، وتلغي فضيلة الشكّ لدى بني البشر، تتوقّف لغة الحوار لديها مُدّعية مؤمنة أنّها تملك الحقيقة المطلقة. غير أنّ الإيمان شيء والمنطق الّذي هو نتاج العقل البشري شيء آخر لا يأتلفان بقدر ما يختلفان.
***

الحقيقة المرّة
الّتي يتوجّب علينا رؤيتها والتّفكّر بها هي حقيقة يتّضح منها رؤية هي نقيضة للحوار الّذي يدعو له البعض من ذوي النّوايا الطّيّبة. ويكفي للتّدليل عمّا نقول بعرض ما تنضح به الفتوى الصّادرة عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهي الفتوى المرقّمة بـ 19402 في 25-1-1418هـ. واللجنة التي أصدرت هذه الفتوى مكونة من سماحة الرئيس العام ومفتي عام المملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رئيسًا - والشيخ عبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ -نائبًا -وعضوية كل من الشيخ د. بكر أبو زيد و الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان. هذه الفتوى تعرض على الملأ الأصول المُؤسِّسَة للعقيدة الإسلامية، ويمكن تلخيص هذه الأصول كما عرضتها الفتوى كما يلي:

"أولاً: لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع.

ثانيًا: أن كتاب الله تعالى، القرآن الكريم، هو آخر كتب الله نزولاً وعهدًا برب العالمين، وأنّه ناسخٌ لكلّ كتاب أنزل من قبل من التّوراة والزّبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يُتعبد الله به سوى القرآن الكريم.

ثالثًا: يجب الإيمان بأن التّوراة والإنجيل قد نُسِخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، ولهذا فما كان منها صحيحًا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل.

رابعًا: أنّ النّبي محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلم يبق رسول يجب اتّباعه سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حيًّا لما وسعه إلا اتّباعه صلى الله عليه وسلم .... ونبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - إذا نزل في آخر الزّمان يكون تابعًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكمًا بشريعته. كما أنّ من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامّة للنّاس أجمعين.

خامسًا: يجب اعتقاد كُفْر كُلّ من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنّصارى وغيرهم وتسميته كافرًا، وأنه عدو الله ورسوله والمؤمنين، وأنّه من أهل النار.
سادسًا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية؛ فإن الدعوة إلى وحدة الأديان والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه."

ولهذا السّبب تخلص الفتوى إلى أنّه:
"لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها."

ولهذا السّبب أيضًا فإنّه:
"لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كلّه، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة ولأهل الأرض التديّن بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال... كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس بيوت الله وأن أهلهـا يعبـــدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنّهـــا عبادة على غير ديـــن الإسلام، والله ــ تعالى ــ يقول: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. بل هي بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله تعالى ــ في مجموع الفتاوى (22-162): "ليست ــ أي: البيع والكنائس ــ بيوت الله، وإنّما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها؛ فالبيوت بمنزلة أهلها وأهلها كُفّار، فهي بيوت عبادة الكفّار".
***

إذن، وبعد
كلّ هذا الكلام الواضح الّذي لم يصدر عن مؤسّسات إسلامية أخرى كالأزهر أو غيره ما ينقضه، هل هنالك من سبيل إلى الحديث عن حوار حقيقي بين الحضارات؟ لا شكّ أنّ القارئ النّبيه سيصل إلى الإجابة لوحده. من هنا، نقول إنّ أصحاب النّوايا الطّيّبة الّذين يدعون إلى حوار الشّعوب والحضارات مُلزمون بالبحث عن طرق أخرى للوصول إلى حوار حقيقي، لأنّ دعواتهم هذه تذروها رياح الأصول العقائديّة كما تكشفها الفتوى المعروضة آنفًا. ومن هنا نقول أيضًا إنّه لا سبيل إلى الحوار الحضاري إلاّ خارج المنظومات الدّينيّة، يهوديّة كانت أم مسيحيّة أم إسلاميّة. وبكلمات أخرى يجب العمل بصدق على المبدأ الأساس الّذي تتطوّر معه الشّعوب وتصل إلى جادة الحوار فيما بينها. إنّه مبدأ فصل الدّين عن الدّولة.
لا توجد طريق أخرى، وإن كانت لديكم طريق أخرى، هيّا أرشدونا!

***


نجوم فوق بغداد

سلمان مصالحة

نجوم فوق بغداد


لا تَحْـمِـــلِــي أَلـَـمًـا يَــا رِيـــحُ وَاتَّـئِـــدِي
لَـيْـلِـي رِيـَاحٌ وَعَصْـفٌ بَاتَ فِـي كـَبِــدِي

وَفِــي العـُــيُـــــونِ نُـجـُــومٌ نُــورُهَــا فــَـرَحٌ
وَلـَّى بَعِيدًا وَأَضْـحَى الحُـزْنُ قَابَ يَـدِي

يَــوْمٌ مَضَــى وَانْـقَـضَـى وَاللَّـيْــلُ مُنْـدَفِــعٌ
يَهْــوِي عَـلَـى بَلـَــدٍ فِـي العَـيْــنِ مُرْتَـعِـــدِ

أَرْسَـلْـتُ عَـيْـنَـيَّ جُنْـحَ اللَّـيْــلِ فِـي طَـلَـلٍ
وَطَّــنـْــــتُ فِـيــــهِ فُـــؤَادًا خَـافِــــقَ الــثَّــــأَدِ

رَدَّتْ إلـَــيَّ عـُـيُــــونُ اللَّــيْــــلِ نَظْــــرَتـَــهَا
تُــبْـــدِي زَمـَـانًـا يَـبَــابًـا وَالـهِــلالُ نَــدِي

مَــا لِــي إذَا قَـمَــــرٌ قَــدْ لاحَ فِــي أُفـُــقِي
كـَبَّــلْــتُــــهُ بِنِيـَـاطِ القَـلْــبِ فِـي السَّــهَـدِ

فِـي ضَـــوْئِـهِ أَثَـــرٌ مِــنْ مُـقْـــلـَةٍ نَـثَــــرَتْ
فِـي لَــيْـــلِ دِجْــلَـــــةَ آهَــاتٍ بِـلا سَــنَـدِ

مَـا لِــي رَأَيْــتُ إذَا مَـا اللَّـيْـــلُ بَــرَّحَ بِـي
نَهْـــرًا وَصَــارِيَـةً وَالرِّيــحَ فِـي جَـسَــدِي

لَـيْــتَ النُّجُـومَ الَّتِـي عَدَّدْتـُـهَا شَـــرَدَتْ
وَشـَــرَّدَتْنِـي عُـيُـــونِـي وَانْـتَـــهَى أَمَــدِي

مَاذَا جَنَـيْـتُ لِكَيْ أُصْـلَـى بِمَـا بَعَـثَـتْ
أَسْــــوَاقُ دِجْــلَــــةَ مِـنْ لـَحْــمٍ بِمُفْـتـَـأَدِ

لا تَحْمــِـلِـي أَلـَمًا يَـا رىِــــحُ وَاحْـتَمِــلِي
مـِنِّـي سَـــلامًا لِـذَاكَ النَّــهْـــــرِ وَالبَـلَــــدِ

وَجْـدِي تَنَامَــى إذَا فِـي الحُـلْمِ حَـرَّكَـنِي
ســـِرٌّ، وَأَرَّقـَــنِــي فِـي وَحْـشَـــةٍ وَسَـــدِي

لـَيْـلِـي نِسـَـاءٌ رَسَمْنَ الدَّرْبَ فِـي وَجَـــلٍ
هَـذِي تَـنُـــوحُ عَلَـى بَـيْــتٍ عَلَـى وَلـَــدِ

وَذِي تُـفَـتِّــشُ عَـنْ بَعْــلٍ قَضَـى عَـبـَـثًـا
مَـا مِـنْ عَرِيــبٍ يَـرُدُّ اللَّـيْــلَ، أَوْ مَــدَدِ

لا تَحْـمِــلِـي أَلـَمًـا يَـا رِيــحُ، وَاتَّـئِـــدِي
فِـي القَـلْـبِ نَارٌ، بِجَــاهِ القَلْـبِ لا تَقِدِي

جَـمْـــرًا بِبَغْــدَادَ، حَـيْــثُ العَيْـنُ نَـازِفــَـةٌ
أَلـَيْـسَ فِـي القُـدْسِ مَا يَكْفِــي مِنَ الرَّمَـدِ

***
من مجموعة: "لغة أم"، منشورات زمان، القدس 2006
__________________

أفكار معروضة للسّرقة


سـلمان مصـالحة

أفكار معروضة للسّرقة


مانيفست - خطوط عريضة لنظام عربي جديد:

كثيرًا ما تعلو في ذهن الفرد العربي في هذه البقعة من الأرض تساؤلات حول ما جرى، ما هو جارٍ، وما سيجري في أحوال الشّعوب العربيّة من سكّان هذه البقعة في المستقبل المنظور. إذ لا يخفى على أحد أنّ الأحوال العربيّة لم تعد تُطاق، وهي حقيقة يشعر بها الصّغير والكبير، الرّجل والمرأة، المَدَر منهم والوَبَر.

ما من شكّ في أنّ لكلّ أمّة من الأمم تاريخها وخصوصيّاتها الحضاريّة. ولأنّ العرب ليسوا فرنسيّين فمن المستبعد أن تحدث في ربوع العرب ثورة شبيهة بالثّورة الفرنسيّة. ولقد علّمنا التّاريخ العربي والإسلامي على مرّ العصور، منذ القدم وحتّى عصرنا الحاضر، أنّ كلّ ما يُطلق عليه مصطلح ثورة في التّاريخ العربي قديمه وحديثه، لم يكن سوى حالة من حالات التّمرُّد الّتي لم تُحدث تغييرًا جذريًّا في أيّ من الرّكائز والمفاهيم الّتي يقوم عليها المجتمع العربي، بل استبدلت هذه "الثّورات" المزعومة نظامًا مستبدًّا واحدًا بنظام مستبدّ آخر، ليس إلاّ. ولهذا السّبب لا نستغرب كيف نهج العرب على استخدام مصطلح "دولة" لهذه الكيانات الّتي تقوم إثر هذه التّمرّدات. هكذا كانت دولة بني أميّة ودولة بني العبّاس في ما سلف من قرون، وانتهاءً بالكيانات القائمة في هذه الأيّام. يقال في العربيّة: "الأيّام دُوَل" والدّهر ذو دُوَل، أي تتغيّر وتتبدّل الأحوال بتبدّل الأزمان. لقد استبدّ العرب، على مرّ تاريخهم، بالمصطلح دولة، وتناسوا ما يحويه هذا المصطلح من معنى تداول السّلطة سلميًّا. وهكذا أضحت الدّولة في المفاهيم السّياسيّة العربيّة لا تعني سوى تبدُّل المستبدّين القبليّين على صدور هذه التّشكيلة الغريبة العجيبة من البطون والأفخاذ الّتي تشكّل في مجملها الأقوام العربيّة.

ستراعي هذه الخطوط العريضة خصوصيّات هذه المجتمعات من جهة، وتضع من جهة أخرى كوابح دستوريّة من شأنها أن تُحرّر هذه المجتمعات من موروثاتها الّتي شكّلت في الماضي ولا زالت تشكّل في هذا العصر عائقًا أمام تطوّر هذه المجتمعات. والغاية من هذا الطّرح هي دفع هذه المجتمعات العربيّة إلى الانضمام إلى ركب التّطوّر البشري الّذي يغذّ الخطى قدمًا دون توقُّف. وذلك لكي تخرج المجتمعات العربيّة من القيعان الآسنة الّتي وجدت نفسها فيها طوال هذه القرون الأخيرة، أكانت هذه القيعان الآسنة اجتماعيّةً، سياسيّةً أم ثقافيّة.الكيانات السّياسيّة الّتي قامت في الوطن العربي الكبير، إثر اندثار الدولة العثمانية، وإثر جلاء الاستعمار فيما بعد، هي كيانات مختلفة التّراكيب ومتعدّدة المشارب من ناحية أنظمة الحكم القائمة فيها. فمنها الممالك والسّلطنات والإمارات، ومنها ما ينحو منحى الدّول الجمهوريّة، مع أنّ هذه الأخيرة بدأت تتضّح أنّها لا تختلف عن الممالك من ناحية توريث الأبناء في الحكم. بل وبدأ يتّضح أكثر فأكثر في العقود الأخيرة أنّ الممالك والسّلطنات والإمارات، على العموم، كانت أكثر رحمة بشعوبها من كلّ تلك الدّول "الثّوريّة" اسْمًا، والاستبدايّة حُكْمًا.

ولذلك، ولأن الطّبع العربي البَرِّي يغلب التّطبُّع البِرِّي، فمن الأحرى أن ننظر في دواخلنا لنقف على أسباب تخلّفنا عن سائر البشر. لن يفيدنا الاستمرار في دسّ رؤوسنا في الرّمال، مهما حاولنا أن نتهرّب من مواجهة حقائقنا كما هي. من هنا، ولقناعتنا بأنّ الحليب الحضاري الّذي رضعناه من تراثتنا الاجتماعي والثّقافي والسّياسي لا يزال فاعلاً فينا حتّى هذه اللّحظة، نجد لزامًا علينا أن نضع أمام ما تبقّى من أصحاب ضمير من أفراد هذه الأمّة، بعض المبادئ الدّستوريّة لعرضها على النّاس كي تحظى بإجماع وطني على الخطوط العريضة الّتي سنعرضها هنا، لتشكّل هذه ركيزة متينة لمجتمعات تطمح إلى المشاركة في ركب التّطوّر البشري كشريك فاعل في المجتمع البشري، لها ما له وعليها ما عليه.

يجب العمل على تحويل الممالك العربيّة إلى ممالك دستوريّة تعمل بموجب نظام عصريّ جديد. ويتلخّص هذا النّظام في أنّ الملك في هذه الكيانات يتمّ انتخابه من قبل مجالس للشّيوخ، وذلك لأجل محدود أقصاه خمسة عشر عامًا. وبانتهاء مدّة ملكيّته، ينعقد المجلس لانتخاب ملك جديد لا يكون من أبنائه. يمكن انتخاب أحد الأبناء ملكًا فقط بعد انتهاء مدّة ملكيّة واحدة، أي بعد خمسة عشر عامًا، تفصل بينه وبين والده. إلى جانب الملك تعمل حكومة منتخبة من قبل الشّعب، على غرار الممالك الأوروپيّة.أمّا في الدّول الّتي تعمل بنظام رئاسي جمهوري، يتمّ انتخاب الرئيس بانتخابات ديمقراطيّة متعدّدة المرشّحين، وذلك لدورتين انتخابيّتين فقط، أو ما يساوي عشرة أعوام لا غير. بانتهاء الأعوام العشرة، فيما لو تمّ انتخاب الرئيس مرّتين متتاليتين، يُحال الرّئيس إلى التّقاعد، ويتمّ انتخاب رئيس جديد مكانه. إلى جانب الرئيس تعمل حكومة يسمّيها الرئيس من بين أعضاء البرلمان المنتخب في انتخابات ديمقراطيّة متعدّدة الأحزاب.لا يُسمح لابن الرئيس أو شقيقه في النّظام الرئاسي، بأن يُرشّحا نفسيهما للرئاسة بانتهاء رئاسة الوالد أو الشّقيق، إلاّ بعد انتهاء دورتين انتخابيّتين. أي، بعد عشرة أعوام من غياب الوالد أو الشّقيق عن منصب الرّئاسة. الأبناء والأشقّاء هم مواطنون كغيرهم من المواطنين، ولذلك يحقّ لهم التّرشُّح، غير أنّ هذا الحقّ يجب أن تفصله مدّة زمنيّة عن رئاسة الوالد أو الشّقيق هي عشرة أعوام.

بالإضافة إلى ما ذكرنا آنفًا، يجب العمل على ترسيخ المبادئ العليا التّالية دستوريًّا:أوّلاً: فصل الدّين عن الدّولة فصلاً تامًّا.ثانيًا: الفصل التّام بين السّلطات: القضائيّة، التّشريعيّة والتّنفيذيّة.ثالثًا: حريّة المعتقد الدّيني والفكري والسّياسي للمواطن. وهذه الحريّة تعني أيضًا: الحريّة أو التّحرُّر من المعتقد الدّيني والفكري والسّياسي.رابعًا: المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في كلّ مجالات الحياة، وبلا لفّ أو دوران.خامسًا: المواطنون، رجالاً ونساء بكافّة معتقداتهم الدّينيّة وغير الدّينيّة، متساوون أمام القانون، وحقوقهم هذه مكفولة دستوريًّا، لا يمكن نقضها بأيّ حال من الأحوال.سادسًا: الوطن، بكافّة موارده، هو ملك للمواطنين أجمعين.سابعًا: الملوك، الأمراء، الرّؤساء وسائر المسؤولين المنتدبين من قبل الشعب هم موظّفون في خدمة الشّعب، ويعاملون معاملة الموظّفين ليس إلاّ.ثامنًا: بانتهاء الخدمة الدّستوريّة للملك أو الرئيس، يُحال إلى التّقاعد مُعزْزًا مُكرّمًا. وبوسعه الاستمرار في خدمة الشّعب طوعيًّا من خلال مؤسّسات المجتمع المدني. 

وملاحظة أخيرة: 
هذه الأفكار معروضة هنا للسّرقة، وبوسع أهل الفكر العرب، والسّاسة العرب، ونوّاب البرلمانات العربيّة والوزراء والرؤساء والملوك والأمراء سرقتها وتعميمها على رعاياهم وعلى جامعتهم العربيّة ووسائل إعلامهم. لقد آن الأوان إلى سرقة هذه الأفكار والمبادئ والعمل بها، بدل العمل على سرقة أموال وموارد الشّعوب العربيّة كما عوّدونا طوال تاريخهم.إنّي على يقين بأنّ من يعارض هذه الأفكار والمبادئ يجب أن تُثار الشّكوك حوله وحول نواياه، لأنّ هذه المبادئ والأفكار هي الفيصل بين من يضمر الخير للنّاس وبين من يضمر لهم الشرّ. كما إنّي على يقين أيضًا بأنّه لا يمكن الخروج من المأزق العربي ما لم يُعمَل على ترسيخ هذه المبادئ لنظام عربيّ جديد.

ألا هل بلّغت!
***

هل البطون والأفخاذ عورة؟



سلمان مصالحة ||

هل البطون والأفخاذ عورة؟


اختلف الفقهاء في
ما إذا كانت المرأة كلّها عورة يجب ستر كامل جسدها، أم يجب ستر أجزاء منه دون أخرى، كالوجه مثلاً. ففقهاء الحنفيّة يرون وجوب ستر الوجه من المرأة أيضًا، وذلك لأنّ كشف وجهها مظنّة الفتنة، على ما روي عن السّرخسي: "حرمة النَّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّةُ محاسنها في وجهها أكثرُ منه إلى سائر الأعضاء"، (نقلاً عن كتاب المبسوط). أمّا الجصاص فيقول: "المرأة الشابَّة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الرّيب فيها"، (نقلاً عن أحكام القرآن). ويرى آخرون من الحنفيّة أنّ وجه المرأة عورة على الإطلاق. وكذلك يرى فقهاء المالكيّة: "المرأةُ كُلُّها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوزُ كشفُ ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عَمَّا يعنّ ويعرضُ عندها"، (نقلاً عن أحكام القرآن، والجامع لأحكام القرآن). غير أنّ الشافعية يذهبون أبعد من ذلك، إذ أنّهم يرون وجوب ستر المرأة ليس أمام الرّجال فقط بل أمام النّساء من أهل الكفر، على ما روي عن الإمام النووي: "لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاَّ أن تكونَ الكافرةُ مملوكةً لها، هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي رضي الله عنه"، (نقلاً عن: الفتاوى). كما يذهب الحنابلة إلى أنّه حتّى الظّفر من المرأة عورة: "قال الإمام أحمد: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِنْ منها شيئاً ولا خفّها، فإنَّ الخفَّ يصفُ القدم، وأَحَبُّ إليّ أن تجعلَ لكُمّها زرّاً عند يدها حتَّى لا يبين منها شيء"، (نقلاً عن: الفروع).
إذن، وممّا سلف،
يتجلّى واضحًا من هذه الرؤى أنّ الاستبداد الذّكوري العربي الإسلامي تجاه المرأة في هذه المجتمعات هو استبدادٌ مطلق. وربّما انبنى هذا الاستبداد على أسس من الموروثات الّتي جاءت من أزمان سحيقة. فمن هذه الرؤى نسمع أصداء تأتينا من الطّبيعة البريّة الّتي سبقت ارتقاء الإنسان من المجتمع البرّي إلى المجتمع الأهلي.
إنّ هذا الاستبداد الذّكوري هو جزء من منظمومة مجتمعيّة متجذّرة عميقًا في الذهنيّة العربيّة البريّة، وهي ذهنيّة لم يتحرّر العرب منها، بل يبدو أنّهم مصرّون على التّشبّث بها، وذلك من خلال مناهج التّربية القائمة في مدارسهم وكتاتيبهم حتّى يومنا هذا.
هل هنالك خيط يربط بين
تعوير المرأة، وتعوير المجتمع بصورة عامّة؟ لقد ورد في الحديث: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" (نقلاً عن: المبسوط للسرخسي). ولذلك، وعندما نستخدم مصطلح "الشّعب"، فيما يخصّ هذه التّركيبة المجتمعيّة البشريّة الّتي تُسمّى عربًا، نجد لزامًا علينا أن نفهم هذا المصطلح كما يفهمه أهل هذه اللّغة، وليس كما يفهمه البعض عبر ترجمات لمفاهيم مستوردة من لغات أخرى في هذا العالَم الرّحب.
ولهذا الغرض، هيّا بنا نقرأ ما يفهمه العرب من مصطلحات كهذه: "والعربُ كُلّها على ستّ طبقات: شعوب وقبائل وعمائر وبطون وأفخاذ وفصائل....فالشّعوب جمع شعب وهو أكبر من القبيلة، وقيل الشعب هو الحيّ العظيم مثل: ربيعة، ومضر، والأوس، والخزرج. سُمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم كتشعّب أغصان الشّجر. وقيل الشّعب القبيلة نفسها...والقبيلة من النّاس بنو أب واحد وهي دون الشّعب كبكر من ربيعة، وتميم من مضر. وقيل القبيلة الجماعة الّتي تكون من واحد... واشتّقت القبيلة من قبائل الشّجر وهي أغصانها، وقيل أخذت من قبائل الرأس وهي أطباقه الأربع... والشّعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون. والبطون واحدها بطن وهو دون القبيلة وقيل دون الفخذ وفوق العمارة. فالبطن يجمع بين الأفخاذ، وفخذ الرّجل حيّه من أقرب عشيرته إليه. ثمّ الفخذ يجمع الفصائل، وفصيلة الرّجل عشيرته ورهطه الأدنون، وقيل الفصيلة أقرب آباء الرّجل إليه. فكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وبنو العبّاس فصيلة." (عن المقريزي، النّزاع والتّخاصم).
إذن، والحال هذه،
يتّضح ودون لفّ أو دوران أنّ مصطلح "الشّعب"، فيما يخصّ حضارة العرب لا يعني شيئًا سوى القبيلة. وما لم يواجه العرب هذه الحقيقة، والعمل على تغيير وتبديل هذا الدّيسك الّذي يعمل به حاسوبهم الذّهني، من أجل بناء أسس أخرى لمجتمعاتهم، فلن تقوم قائمة لهم في هذا العالم. فالشّعب، كما يُفهم من نصّ المقريزي، هو القبيلة في المنظور العربي، ليس إلاّ. والقبيلة من هذا المنظور هي الوحدة السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تجذّرت في الذهنيّة العربيّة من سابق الأزمان البرّيّة. ولذلك فلا يعجبنّ أحد ممّا نشاهد ما يجري في هذا العالم العربي المترامي الأطراف من انفراط هذه الكيانات السّياسيّة في حال تمّ قطع خيوط الدكتاتوريّات الّتي تجمع حبّات هذه السّبحة العربيّة عنوة، وبإمرة أحد البطون أو أحد الأفخاذ. أليس ما يجري في العراق خير مثال على ذلك؟
إنّ الدّكتاتوريّات الذكوريّة العربيّة،
أملكيّة كانت تلك الأنظمة أم جمهورية، والّتي تتحكم في الذهنية العربية، من مشرقه إلى مغربه، هي أشبه ما تكون بذلك الحجاب الّذي يستر جسد المرأة. فمثلما أنّ أولئك الّذين يرون في المرأة كلّها عورة، ولذا وجب عليها ارتداء الحجاب فرضًا لفتنةٍ أو لغيرها، فإنّ الدكتاتوريات العربيّة، والمطبّلين المزمّرين لها يرون في حقيقة الأمر أنّ العربان، في جوهرهم، هم أيضًا عورة يجب ستر بطونهم وأفخاذهم من أن تظهر على الملأ من خلال فتنة الدّيمقراطيّة. إذ أنّ لسان حالهم يقول: الديمقراطية نائمة لعن الله من أيقظها.
لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. إذ أنّه وما أن ترفع سياط الدكتاتوريات عن العربان، حتّى تتبدّى عوراتهم على الملأ، من خلال تَعارُك وتَطاحُن البطون والأفخاذ.
أليس كذلك؟
***

نشرت: إيلاف الجمعة 7 يوليو، 2006
***



أتاتورك هو الحلّ

من الأرشيف:


سلمان مصالحة ||


 أتاتورك هو الحلّ


هنالك من يدّعي،
ولنوايا طيّبة بالطّبع، أنّ هؤلاء الّذين يقفون من وراء الجرائم الّتي يشهدها العالم في هذا الأوان، قد اختطفوا الإسلام وشوّهوا صورته. إنّ استخدام مصطلح الاختطاف بهذا الصّدد فيه كثير من المغالطة والتّضليل، لأنّ هؤلاء الّذين يطلقون هذه الدّعاوى يفترضون أنّ الإسلام أشبه بشخص وقع في قبضة بعض رجال المافيا وقد تمّ اختطافه عنوةً، بينما هذا الشّخص المخطوف يحاول الاعتراض على هذا الخطف. فهل هذا الوصف لما يجري على السّاحة العربيّة والإسلاميّة هي الحقيقة؟ أم أنّ هذا الإسلام "المخطوف" قد وقف دائمًا على قارعة الطّريق يستجدي رجال المافيا أن يخطفوه، قائلاً لهم: هيّا اخطفوني وافعلوا بي ما تشاؤون، لأنّكم ستجدون عندي كلّ ما تُسوّل لكم أنفسكم.

أنظروا إلى عناوين البيانات
الّتي تُنشر باسم المنظمّات الإرهابيّة الإسلاميّة بعد كلّ جريمة ينفّذونها. فها هو البيان الّذي نُشر بعد جريمة شرم الشّيخ الأخيرة، فماذا نقرأ في صدر هذا البيان؟ "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه" (البقرة: 193). والفتنة تعني الشّركُ والأندادُ، أو الكفر إلخ. والدّين هو بالطّبع دين الإسلام، إذ أنّ النّبيّ قال: أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة..." (تفسير الطّبري للآية من سورة البقرة). أو كما يذكر القرطبي: "وقاتلوهم" أمر بالقتال لكلّ مشرك في كلّ موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة... وهو أمر بقتال مُطلَق لا بشرط أن يبدأ الكفّار. ودليل ذلك قوله تعالى: ويكون الدّين للّه"، ثمّ يذكر الحديث النّبوي: أمرت أن أقاتل النّاس، ويضيف القرطبي: "فدلّت الآية والحديث على أن سببب القتال هو الكفر، أي فتنة، "فجعل الغاية عدم الكفر" (تفسير القرطبي). أمّا ابن كثير فيشرح الآية على النّحو التّالي: " ثمّ أمر اللّه تعالى بقتال الكفّار "حتّى لا تكون فتنة" أي شركٌ..."ويكون الدّين للّه" أي يكون دين اللّه هو الظّاهر العالي على سائر الأديان... لما ثبت في الصّحيحين من الحديث النّبوي: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللّه... وقوله: ؛فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظّالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عمّا هم فيه من الشّرك" (تفسير ابن كثير للآية). أمّا من يحتجّ بالآية الّتي تنصّ أن "لا إكراه في الدّين" فإنّ هذا النّصّ ليس مُطلقًا وإنّما هو "مقصور على ما نزلت فيه من قصّة اليهود وأمّا إكراهُ الكافر على دين الحقّ فواجب، ولهذا قاتلناهم على أن يُسلموا أو يؤدّوا الجزية، ويرضوا بحكم الدّين عليهم"، (سنن التّرمذي). أي أنّ قتال الكفّار واجب دينًا، لا لسبب سوى لفرض الإسلام عنوة وبحدّ السّيف. والكفّار هم كلّ أولئك الّذين لا يدينون بدين الإسلام، بمن فيهم النّصارى واليهود والمجوس وسائر بني البشر. أي أنّ هؤلاء الّذين يدبّجون بيانات الإرهاب بالآية: "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه"، يرضعون أيديولوجيّاتهم من مكان ما، ومن موروث ما. هل هنالك تفسير آخر؟

إذن، فبعد هذا الكلام
وهذه البيانات الّتي ينشرها هؤلاء الّذين يقفون من وراء العمليّات الإرهابيّة، هل نستطيع أن نقول إنّ هؤلاء الإرهابيّين قد خطفوا الإسلام حقًّا، أم أنّ الحقيقة هي نقيض هذا الكلام تمامًا. وبكلمات أخرى يجب علينا أن نُحدّد ونشخّص المسألة أوّلاً وقبل أن نطلق على الملأ الادّعاءات الّتي لا تستند إلى أساس. علينا أن نشخّص الخاطف والمخطوف في هذه القضيّة قبل البدء في إيجاد الوسائل لعلاج الموضوع في جميع جوانبه.

يتّضح ممّا أوردنا سالفًا
أنّ الخاطفَ في الواقع هو هذا التّراث الإسلامي، بينما هؤلاء الإرهابيّون فهم المخطوفون في حقيقة الأمر. لقد تحوّل الإسلام منذ نشأته إلى حركة عقائديّة قامت باستعمار الذهنيّة العربيّة القبليّة مُغدقةً عليها رؤيا ذكوريّة تَسَلُّطيّة هي من مخلّفات الإنسان البرّي الأقرب إلى حياة الغابة منه إلى حياة الإنسان الّذي يعيش في مجتمعات عاقلة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسّر أنّ كلّ هؤلاء الإرهابيّين يظهرون على خلفيّة هذا التّراث، ويخرجون من بيوت عباداته وقد تتلمذوا على أئمته وفقهائه؟

إذن، ما العمل في وضع كهذا؟
من أجل الوصول إلى علاج جذري لهذه الأمراض المزمنة في مجتمعاتنا العربيّة علينا أن نشخّص المرض أوّلاً. لذلك، ولأنّنا لا زلنا، نحن العرب، في هذا الطّور البدائي من التّطوُّر البشري، فليس أمامنا من سبيل في هذه المرحلة سوى البحث عن وسيلة للتّحرُّر من هذا الاستعمار، الدّيني والاجتماعي والّذي كبّل الذّهنيّة العربيّة منذ القدم . ولأنّ المسألة ليست بسيطة بالمرّة، وإذا كانت لدينا رغبة حقًّا في أن نعيش في مجتمع مدنيّ معاصر يتساوى فيه الأفراد على جميع مللهم ونحلهم، رجالاً ونساءً، في دولة القانون الّتي تضع الفرد في أعلى سلّم أولويّاتها، فما علينا إلاّ السّير في ركب الشّعوب المتحضّرة.

ولهذا السّبب، ليس أمام مجتمعاتنا من سبيل سوى سبيل فصل الدّين عن الدّولة، وربط هذا الفصل بإصلاحات سياسيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة غايتها الانتقال السّريع إلى دولة عصريّة تسير على هدى مبادئ دستور علماني على غرار الدّساتير الأوروبيّة. هنالك حاجة مُلحّة إلى علمنة التّربية والتّعليم في الدّولة العربيّة والإسلاميّة، وإعلان المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في جميع مجالات الحياة. لا بأس كذلك في تشجيع المواطنين على ترك اللّباس التّقليدي وخاصّة الكوفيّات وما شابهها والّتي أضحت تُشكّل في الحقيقة "كاتم عقل" أكثر منها زيًّا وطنيًّا. فلم يعد أمام العرب في هذا العصر من سبيل سوى السّير على خطى مصطفى كمال، إذ يبدو واضحًا الآن أنّه فيما يتعلّق بالعربان فإنّ:
أتاتورك هو الحلّ
*
نشرت: إيلاف، يوليو 2005
***

ظواهر الشّرف وبواطن القرف



سلمان مصالحة


ظواهر الشّرف وبواطن القرف


لمّا كان الإنسان العربيّ
لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة. والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة وطائفيّة.

في الكثير الكثير من الأحيان 
 نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من الأقنعة الشفّافة والكاذبة. والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث، ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع أفرادها منذ سنّ مبكّرة. وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف نابعين من ذاته.

وحينما يكون الرّجل العربيّ 
بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول الحفاظ عليهما في الـ"آخر" الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل، والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه، ليس من جنسه.

والدّجل السّافر في هذا الموضوع، 
هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ"أنا" القبليّة. أي أنّ الرّجل العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة. وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ"ليس منه" هو هذه الحلقة القبليّة الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.ليس صدفةأن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.

هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي، في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟

المجتمعات العربيّة بحاجة 
 إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة، بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.

قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله. فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة، هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة بنوع من التفهّم.

وهذا الرّجل العربيّ المكبوت 
نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه. فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.

والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.

إنّ تحرير الرّجل العربيّ 
من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر، وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.

***


نشرت في: "كلّ العرب"، يوليو 1994
*
مقالات أخرى حول الموضوع:
"لماذا يقتل الرجل العربي المرأة"، إيلاف
"الرجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ"، إيلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟


سلمان مصالحة

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟



ما من شكّ في أنّ مكانة المرأة
في المجتمع هي حجر الأساس الّذي تُبنى عليه العمارة الحضاريّة البشريّة. لذا فإنّ مكانة المرأة العربيّة هي قضيّة في غاية الأهميّة، لما كان لهذه النّظرة المُحَقِّرة للنّساء من إسقاطات على مجمل التّطوّر البشري للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة طوال القرون الماضية ولما سيكون لهذة النّظرة، لو بقيت على ما هي عليه، من تأثير في العقود، إن لم نقل القرون، الجائية.

بالإضافة إلى أسباب قد تكون سياسيّة واقتصاديّة وأخرى كثيرة لهذا الوضع المزري، فإنّ أحد أهمّ المسبّبات للتّخلُّف العربي هو هذه النّظرة لمكانة المرأة الدّونيّة في المجتمع، أي في الحياة المتحضّرة لبني البشر. إذ كلّما ارتفعت مكانة المرأة المجتمعيّة كلّما اندفعت المجتمعات قدمًا في ركب التّطوّر على جميع الأصعدة. وبالعكس كلّما انخفضت مكانة المرأة في المجتمعات البشريّة كلّما تقوقعت هذه المجتمعات في شرنقة التّخلُّف الّتي تعزلها عن عالم الحياة المتنوّرة حتّى تتعفّن هذه المجتمعات وتتفسّخ فتذروها الرّياح وتلقي بها على قارعة الطّريق تدوسها الأقدام المسرعة في حركة ارتقائيّة حثيثة.

غير أنّنا، وإذا ما نشدنا الوصول
 إلى تغيير لهذا الوضع المزري، لا يمكننا بأيّ حال أن نتجاهل الأسس الّتي انبنت عليها هذه النّظرة العربيّة المُحَقِّرَة للمرأة ومنذ فجر الحضارة العربيّة وحتّى عصرنا الحاضر. ولهذا السّبب، نحن في أمسّ الحاجة إلى صياغة فكريّة جديدة تُؤسِّسُ لبناء مجتمعيّ جديد قد لا نستمتع به نحن في المستقبل القريب، غير أنّه قد يشكّل بيتًا آمنًا للأجيال العربيّة المستقبليّة.

الصّياغة الفكريّة الجديدة الّتي نودّ الوصول إليها، يجب أن تنبني على ثورة في المفاهيم المؤسِّسَة لهذه المجتمعات العربيّة. وهذه الثّورة يمكن أن نُجملها في مقولة واحدة ومقتضبة: يجب نفض الأسس المجتمعيّة العربيّة رأسًا على عقب، وبدل البناء على أسس ذكوريّة للمجتمع، يجب أن تنبني المجتمعات العربيّة على أسس أنثويّة. صحيح أنّ هذا التّحوّل ليس بالأمر السّهل، إلاّ أنّه هو الحلّ الأوحد لبناء مجتمع عربيّ سليم ومعافى. ولهذا الغرض هنالك حاجة إلى علاج هذه العُقَد الذّكوريّة العربيّة بأدوات معرفيّة وسيكولوجيّة بعيدة الغور، كما أنّها بحاجة إلى أناة وعقول منفتحة من قبل الذّكور خاصّة.

فلو عدنا إلى الوراء، إلى حقبة 
جاهليّة العرب وإلى ما رسخ في الذّهن منها، فإنّ الوأد الجاهلي، كما يعرضه لنا القرطبي في تفسيره نجد أنّ العرب كانت تدفن البنات بعد ولادتهنّ أحياء لسببين: الأوّل، "مخافة الحاجة والإملاق وإمّا خوفًا من السّبي والاسترقاق". ولعلّ مقولة "خوف الحاجة والإملاق" قد وضعت هنا فقط لمجرّد تسجيع الكلام لشغف العرب بهذه العادة اللّغويّة، إذ أنّ المرأة الجاهليّة كانت عضوًا نشطًا في منظومة الإنتاج الجاهليّة مثلها في ذلك مثل الرّجل، إن لم تكن مهمّتها تفوق مهمّته أصلاً. أمّا الشّطر الثّاني من السّبب وهو "خوف السّبي والاسترقاق"، فقد يكون هو الأقرب إلى الحقيقة بسبب تلك الذّهنيّة الذّكوريّة الّتي تخشى من فقدان السّيطرة على ماكينة التّفريخ هذه كما يراها الذّكر العربيّ، ولارتباط مُحرّك هذه الماكينة بالشّرف الذّكوري فحسب.

غير أنّي أميل شخصيًّا إلى الأخذ بالسّبب الآخر الّذي يورده القرطبي تفسيرًا لهذه الظّاهرة، حيث يذكر القرطبي: "كانوا يقولون إنّ الملائكة بنات اللّه، فألحقوا البنات به«. فإذا كان السّبب في ذلك هو إيمانهم بأنّ الملائكة بنات اللّه، ولذلك يلحقون البنات باللّه، فهذا يعني بالضّبط ما هو نقيض للنّظرة الدّونيّة للمرأة، إذ يُفهم من هذه الجملة أنّ النّظرة الجاهليّة إلى البنات هي نظرة تقديس لهنّ كما لو كانت البنات ملائكة، ولذلك فهم يلحقون البنات باللّه. وبكلمات أخرى فهم يقدّمون البنات قرابين للّه، أي من خلال طقس دينيّ للتّقرُّب لآلهة الجاهليّة. وهذا التّفسير أقربُ إلى الصّواب في نظري، إذ أنّه يندرج ضمن هذه الطّقسيّة الدّينيّة، أي تقريب الأبناء للآلهة، لدى كثير من الحضارات القديمة على اختلاف مشاربها ومواقعها، وفي أصقاع شتّى من أنحاء العالَم في العصور القديمة.

إنّ عدم الالتفات إلى هذا التّفسير الّذي أقدّمه هنا من قِبَل أهل العلم من العرب قديمًا وحديثًا مردُّهُ إلى تلك النّظرة الّتي تأسّست عليها الأيديولوجيّة الإسلاميّة والمتمثّلة بتجهيل الحقبة الّتي سبقت الدّعوة، أي بإضفاء صبغة الجاهليّة عليها. وكلّ ذلك بغية رفع قيمة هذه الدّعوة الجديدة مقابل ما سبقها من حضارة عربيّة قديمة.

غير أنّ الإسلام
الّذي قولب صورة الجاهليّة على مقاسه هو، في محاولة منه لوضع حدّ فاصل بين "همجيّة" موهومة للحقبة الجاهليّة من جهة وبين "نور" إسلامي من جهة أخرى، لم يأت سوى بشكل آخر من أشكال الاستعباد للمرأة. بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنقول بأنّ الإسلام قد حطّ من قيمة المرأة قياسًا بما كانت عليه من قبل. فبينما كانت الأنثى أقرب إلى كونها من جنس الملائكة الّتي تُلحق باللّه، كما ذكرنا سابقًا، تحوّلت مع الإسلام إلى مخلوق يُنظر إليه، من جهة، بصفته عورة، كما يقول الحنابلة. إذ أنّّه حتّى الظّفر منها عورة "فإذا خرجت من بيتها فلا تُبنْ منه شيئًا، ولا خفّها فإنّ الخفّ يصفُ القدمَ، وأحبّ إليّ أن تجعل لكُمّّها زرًّا عند يدها حتّى لا يبين منه شيئًا"، كما يقول الإمام أحمد، وكذا ابن قيّم وابن تيميّة، إذ أنّ المرأة كلّها عورة كما يقول الإمام القرطبي.أو وجوب الحجاب، لا لكون الوجه عورة، بل لأنّ الكشف هو مظنّة الفتنة، كما تقول الحنفيّة: "حرمة النّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء"، كما يروي السّرخسي في المبسوط، وكذا تقول المالكيّة أيضًا. بل وأكثر من ذلك، إذ أنّ النّووي الشّافعي يقول: لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاّ أن تكون الكافرة مملوكة لها". وقد ذكر أنّ آية الحجاب قد نزلت بسبب غيرة الرّسول على عائشة، فقد روي عن مجاهد: "أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يطعمُ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشة، فمره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت آية الحجاب"، كما يذكر الطّبري في تفسيره. وهذا الكلام يعني شيئًا واحدًا وهو أنّه لو أنّ يدَ ذلك الرّجل لم تمسّ يد عائشة لما كانت نزلت آية الحجاب أبدًا.

فمهما حاول البعض من الإسلامويّين تلطيف الأمور بإخفاء النّصوص عن أعين النّاس، فليس أمام قارئ هذه النّصوص من سبيل سوى مواجهة الحقيقة، إذ أنّ المشكلة ليست في التّفسيرات، وإنّما هي في النّصوص المؤسِّسَة لهذه الأيديولوجيّة الذّكوريّة. إنّ هذا التّعوير أو التّفتين أو شيطنة المرأة بصورة عامّة هو الّذي يُفضي إلى مبدأ الانتقاص من قدرها ومكانتها شرعًا. وهو المبدأ الّذي لا زال مُتحكّمًا في الذّهنيّة العربيّة إلى عصرنا الحاضر. إذن، ومن هذه النّاحية، يشكّل الإسلام في تصوّري تدهورًا ملحوظًا في مكانة المرأة الاجتماعيّة، حتّى قياسًا بما كانت عليه مكانتها في ما سبق من زمن، أي في فترة "الجاهليّة"، كما يحلو للإسلامويّين وَسْمَ تلك الحقبة من الزّمن العربيّ.

مهما يكن من أمر،
 حتّى لو أمعنّا النّظر في طرفي صورة الأنثى، الطّرف الجاهلي منها بالإضافة إلى الطّرف الإسلامي، كما يُقدّمه لنا دارسو الحضارة العرب، إسلامويّين كانوا أو ذوي تصوّرات أخرى، لوصلنا إلى استنتاج لا مفرّ منه. إنّه استنتاج يرى بأنّ النّظرة الذّكوريّة المتجذّرة في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة تجاه المرأة، هي ما يدفع بالذّكر العربيّ إلى القيام بعمليّة "قتل" أو "إعدام" للأنثى على العموم وعلى عدّة أصعدة. فكما يتّضح فإنّ الوجهين اللّذين قد يبدوان نقيضين للوهلة الأولى، وهما الوأد القبلي الجاهلي على خلفيّة الخوف "من السّبي والاسترقاق" من جهة، والنّظرة إلى المرأة بصفتها عورة أو درءًا للفتنة، كما يجمع على ذلك فقهاء الإسلام، ما هما إلاّ وجهين لعملة واحدة ينبعان من تلك العقدة الذّكوريّة العربيّة الّتي تربط الشّرف بالمرأة، وعلى وجه الخصوص بالجانب الجنسي فيها.

فخوف السّبي والاسترقاق الجاهلي ليس سوى خوف من استحواذ ذكوريّة غريبة على محرّك التّفريخ الّذي يسيطر عليه الرّجل العربي المنتمي إلى وحدة قبليّة تعمل بموجب منظومة من القيم الذّكوريّة. والأمر هو ذاته فيما يتعلّق بالنّظرة التّعويريّة للمرأة في الإسلام. صحيح أنّ الوأد الجسدي قد حُظر إسلاميًّا، غير أنّ هذا الوأد، كغيره من قيم الجاهليّة، قد استمرّ في الإسلام بصيغة أخرى، من خلال تحجيب المرأة في الفضاء العام، والاستحواذ بها داخل حدود البيت لكون المرأة كلّها عورة، أو كما روي عن ابن مسعود عن النّبي: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان«. ولذلك أيضًا فقد روى مسلم في كتاب النكاح من صحيحه أنّ النّبي "رأى امرأةً فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثمّ خرج إلى أصحابه فقال: إنّ المرأة تُقبل في صورة شيطان وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصرَ أحدُكم امرأةً فليأْتِ أهلَهُ، فإنّ ذلك يردُّ ما في نفسه". وبكلمات أخرى يردّ ما نفسه من شهوة مواقعتها. لهذا السّبب أيضًا يقول النّبي كما روى البخاري في صحيحه: "اطّلعتُ في النّار فرأيتُ أكثر أهلهت النّساء".

من هنا، فإنّ الوأد الجسدي - جاهليًّا - في التّراب، والوأد الجسدي - إسلاميًّا - في الحجاب يستمدّان شرعيّتهما من كون الشّرف الذّكوري العربي مرتبطًا بالمرأة ليس إلاّ. وهذا الشّرف لو أمعنّا فيه النّظر لرأينا أنّه نابع من خارج ذات الذّكر العربي. أي أنّ الذّكر العربي يعتزّ بالشّرف الّذي ليس من كُنهه هو كذات بشريّة مستقلّة. ولهذا السّبب أيضًا، نرى أنّ الرّجل العربي قد يرتكب جريمة متمثّلة بقتل ابنته أو شقيقته أو أنثى قريبة منه تحت ما يسمّى بجرائم الشّرف. وهو إنّما يفعل ذلك ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنّما كثيرًا ما نقرأ عن ارتكاب هذه الجرائم في البلاد الأوروبيّة وغيرها. أي أنّ هذه النّظرة تنتقل مع العربي في حلّه في بلاد العربان، وفي ترحاله إلى بلاد البيضان والسّودان.

إنّ الرّجل العربي 
يقوم بارتكاب هذا النّوع من الجرائم، وأدًا جاهليًّا أو تحجيبًا وتعويرًا إسلاميًّا أو قتلاً على خلفيّات الشّرف في هذا العصر، لأنّه ترعرع على هذه الذّهنيّة الاستحواذيّة الذّكوريّة القبليّة في مراحل تطوّره الأولى. وأغلب الظنّ أنّ هذه الذّهنيّة ليست سوى ذهنيّة غريزيّة هي من مخلّفات الحيوانيّة البشريّة في مراحل التّطوُّر البشريّة الأولى منذ عهد سحيق في الغابة. في الحقيقة الرّجل العربي يريد الأنثى القريبة لنفسه غير أنّ التّابوات الصّارمة تحول دون ذلك، فيحوّل الأنثى القريبة إلى صلة الرّحم. ولهذا السّبب أيضًا يعمد العرب على العموم إلى التّزاوج داخل القبيلة من أبناء العمومة والخؤولة. وهم يفعلون ذلك من أجل الاستحواذ بماكينة التّفريخ ضمن حدود القبيلة ذاتها بغية تكثير الجينات الذّكوريّة الذّاتيّة في الطّبيعة البرّيّة الوحشيّة، أو لتكثير العدد القبلي لحاملي العصيّ، كما يُقال لدى العوام. إذ أنّ كلّ ما هو خارج نطاق القبيلة ذاتها يُعتبر غريبًا يُهدّد الهيمنة على مناطق ومجالات النّفوذ في الطّبيعة البريّة.

ليس من عجب إذن، أن نرى هذا الدّرك الّذي وصلت إليه أحوال العرب مقارنة بالشّعوب المتطوّرة في هذا العالم. فالحضارة الذّكوريّة العربيّة لا زالت في مراحل أوليّة من التّطوُّر البشري، وهي بحاجة إلى نقلة نوعيّة. ومن هنا أيضًا فإنّنا نُطلق دعوتنا الصّريحة هذه إلى قلب الأمور رأسًا على عقب، والعمل على بناء المجتمع العربي على أسس أنثويّة بدل الأسس الذّكوريّة الّتي لا تستطيع بأيّ حال أن ترتقي بالمجتمعات العربيّة، وفي حضارتنا العربيّة قديمًا وحديثًا ما يكفي من براهين على ما نرمي إليه.

فهل من سميع أو مجيب؟

يوليو 2005


الرّجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ

أرشيف (2004) -

 

سلمان مصالحة ||


الرّجل العربيّ هو المشكلة، 

المرأة هي الحلّ



تقارير التّنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة تفيد بأنّ العالم العربي، مقارنة بشعوب العالم الأخرى، يتواجد في القاع من الناحية الثقافية، الإجتماعية، السياسية إلخ. لا حاجة إلى تكرار ما ورد في هذه التّقارير، إذ يمكن الحصول عليها في الإنترنت. غير أنّ ما يجب الحديث عنه هو كيفية وضع الإصبع على جذور ومسبّبات هذا الوضع، ومحاولة الإشارة إلى طرق ووسائل للخلاص من هذا المأزق المأساوي، أي وبكلمات أخرى، إذا عرف السّبب بطل العجب وسهل العلاج.

إذا ألقينا نظرة سريعة إلى العالم من حولنا، نرى أنّ الشّعوب المتطوّرة هي تلك الشّعوب الّتي تحظى فيها المرأة بمكانة عالية في المجتمع. وهذه المكانة لم تأت عبثًا، وإنّما تطوّرت ونمت في القرون الأخيرة على أرضيّة اقتصاديّة، حضاريّة ودينيّة ساعدت على تقدّم المرأة وتسنّمها دورها العضوي الفاعل في تلك المجتمعات. أمّا في المجتمعات العربيّة فيبدو أنّ المرأة لم تتخطَّ بعدُ النّظام الرّعوي القبلي الّذي هو العنصر المؤسّس لهذه المجتمعات العربيّة، حتّى بعد مرور قرون كثيرة على خروج الموجات البشريّة من جزيرة العربان.

لا مناص لنا سوى رؤية عرب اليوم كعربان الأمس حتّى وإن ركبوا الطّائرات وقادوا السيّارات وتشاتتوا في الإنترنت. حتّى أولئك الّذين ولدوا وترعرعوا في دول الغرب لم تتغيّر مفاهيمهم، فكثيرًا ما نسمع عن جرائم ما يُسمّى "الشرف" بين أفراد هذه الجاليات، في اسكندينافيا، بريطانيا فرنسا وغيرها. وهذه الجرائم العابرة للبحار والقارّات تحدث لأنّ المجتمعات العربيّة هي مجتمعات ترعرعت في ذهنيّة أبويّة ذكريّة في طورها البدائي الحيواني. فإذا كان هذا ما يحدث في أوروبا فما بالكم بما يحدث في أرجاء العالم العربي؟

لهذه الحالة أبعاد سيكولوجيّة بعيدة المدى على تطوّر المجتمع بعامّة. إنّها حالة مرضيّة لدى الذّكورة العربيّة الّتي يمكن إيجازها في أنّ الشّرف الذّكوري العربي لا ينبع من ذات الذّكر، إنّما هو شيء نابع من مكان خارج ذاته. أي أنّ شرف الرجل العربيّ ليس كامنًا في ذاته ودواخله هو، بل هو شرف يأتيه من مكان آخر، من شخص آخر، وعلى وجه الخصوص من المرأة، الحلقة الأضعف في هذه المجتمعات. وما إصرار الرّجل العربي على السّيطرة على قَدَر المرأة، وبخاصّة جسدها، سوى محاولة منه للتّشبّث بكرامة وشرف مفقودين لديه منزوعين من ذاته اجتماعيًّا وسياسيًّا. من بين أهمّ الأسباب إلى حقيقة كون السّلطات الإجتماعيّة والسّياسيّة في المجتمعات العربيّة على مرّ العصور بدءًا بالقبيلة الجاهليّة وانتهاءً بالدّول القائمة الآن سلطات قهر واستبداد لا تسمح بأيّ تعبير ذاتيّ عن كيان إنساني ذي خصوصيّات فرديّة، فحال الفرد في الدّولة العربيّة هي كحاله في ذهنيّة القبليّة الرّعويّة العربيّة المتجذّرة. لذلك، فإنّ كلّ ما يمتّ إلى كرامة الفرد، الإنسان العربي، يصبح شيئًا معدومًا لديه. لهذا السّبب بالذّات نجد الرّجل العربيّ يذهب بعيدًا خارج ذاته باحثًا عن ذاته المكبوتة لدى الحلقة الأضعف من حوله، أي في المرأة، الزّوجة، الشّقيقة، البنت إلخ.

ومثلما لم يأت الإسلام بجديد من النّاحية الدّينيّة، كمل ورد في غير موضع من الصّحيحين وغيرهما: "عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه ص: لَتَتّبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم. فقلنا يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟". كذلك لم يأتِ الإسلام بجديد من النّاحية الإجتماعيّة ولم يغيّر الإسلام شيئًا لدى العربان. فالحديث: "خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام" هو تكريسٌ لهذا النّمط القبلي، حتّى وإن زيد فيه "إذا فقهوا". إلى ذلك انضاف أيضًا مبدأ تفضيل الذّكر على الأنثى: "للرّجل مثل حقّ الأنثيين"، تكريسًا للمبدأ الذّكوري المجتمعيّ. بكلمات أخرى، كلّ ما في الأمر أنّ الإسلام حوّلَ المجتمعات القبليّة المتناحرة إلى قبيلة جديدة من نوع آخر، قبيلة- أُمّة ذكوريّة المنحى، ووجّهها للسّلب والنّهب خارج جزيرة العربان. غير أنّ هذه القبيلة- الأمّة سرعان ما تفكّكت فبرزت النّعرات القبليّة المتجذّرة فيها، والّتي تمحورت حول أحقّيّة الخلافة، أي السّيادة السّياسيّة. وهكذا، عادت حليمة لعادتها القديمة، لأنّ طبع العربان يغلب تَطبُّعَهم.

ما العمل إذن في هذه الحال؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السّهل. إنّها تستدعي قدرًا كبيرًا من الشّجاعة الأخلاقيّة لدى أفراد يحملون راية التّغيير. يجب عدم الإستمرار في دسّ الرّؤوس في الرّمال، كما يجب التّصريح بالأمور علانية ووضعها للنّقاش والجدل. فإن نحن لم نسأل أنفسنا الأسئلة الصّعبة، كيف سنصل إلى حلول للقضايا المستعصية؟ من هنا يمكننا أن نقول إنّ العقليّة الذكوريّة القبليّة المتجذّرة والملفوفة لاحقًا بأيديولوجيّة دينيّة إسلاميّة هي هي لبّ المشكلة. فعندما تجذّرت النّظرة بأنّ "الرّجال قوّامون على النّساء"، أي كما يفسّر ابن كثير ذلك بأنّ الرّجل قيّم على المرأة" وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجّت"، ماذا تبقّى لنصف المجتمع العربيّ المقموع أن يفعله لصالح هذا المجتمع. لذلك نقول إنّ الحلّ بابه مفتوح على مصراعيه وهو باب المرأة، والمرأة بالذّات في هذه المجتمعات.

من أجل الوصول إلى هذه الغاية، يجب إقناع الرّجل العربيّ بأنّ شرفه وكرامته يجب أن ينبعا من ذاته هو ومن جوهره هو كإنسان فرد قائم بذاته، وليس من أيّ جوهر لذوات أُخَر. فلكلّ فرد، رجلاً كان أم امرأة، شرف نابع من ذاته هو. لهذا، يجب تحرير الرّجل العربيّ من عقدته المزمنة من خلال تحرير شرفه وكرامته من تلابيب ما يسمّى شرف المرأة.

ثمّ على الحركات النّسويّة العربيّة أن تأخذ زمام المبادرة وتطالب بوضع قوانين لتحديد النّسل، بمعنى إسقاط النّظرة إلى المرأة بوصفها ماكينة للتّفريخ فقط. إذ أنّ هذا التّفريخ العشوائي لا ينتجُ شيئًا، بل يشكّل عالة تنخر في المجتمع أوّلاً وقبل كلّ شيء، ثمّ بعد أن يعلو الزّغب والرّيش أجنحة هذه الفراخ تطير باحثة عن سبل وطرق للهجرة بحثًا عن الرّزق وراء البحار. لنتفكّر قليلاً بما فعلت الثّورة الصّينيّة. ألا نرى كيف أنّ الصّين في السّنوات الأخيرة، وبعد عقود قليلة قياسًا بأعمار الشّعوب، قد بدأت تأخذ مكانتها اقتصاديًّا واجتماعيًّا في ركاب الدّول المتطوّرة؟

ولو حاولنا أن نفهم كيف وصلت المرأة في العالم المسيحي إلى هذه المكانة المتقدّمة، فما من شكّ في أنّ ثمّة جذور حضاريّة دينيّة لهذا الوضع. فالحضارة المسيحيّة الّتي ترفع شخصيّة السّيّدة مريم العذراء إلى درجة سامية قد تفوق أحيانًا شخصيّة يسوع المسيح، لا يمكن إلاّ يكون لمكانتها هذه تأثير مباشر على تطوّر بنات جنسها في هذه المجتمعات.

أنظروا مثلاً، كيف غيّب التّراث القبلي العربيّ الإسلامي المرأةَ من تاريخه، فعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نفسّر اختفاء خديجة بنت خويلد من الأحاديث النّبويّة، وهي الّتي عاشت مع الرّسول ربع قرن من الزّمان لم ينكح أخريات معها في هذه الفترة المؤسّسة والحرجة من التّاريخ الإسلامي. كيف ذا لم يُرْوَ حديث واحد عنها تقول فيه عن الرّسول إنّه قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا إلخ؟ ألم تتحدّث خديجة مع أحد من البشر، أو ألم يسمع منها أحدٌ طوال ربع قرن من الزّمان كلمة واحدة عن الرّسول، وهي المُبَشَّرَة "ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"؟ إنّ إلقاء نظرة سريعة على وضع المرأة المسيحيّة في المجتمعات العربيّة، مقارنة بوضع المرأة المسلمة تُعزّز ما نرمي إليه في هذه المقالة.

إذن، جذور التأخُّر العربيّ الإسلامي كامنة في هذه النّظرة إلى المرأة، ومن هنا فإذا أردنا أن نبحث عن حلول فإنّ المرأة العربيّة هي الحلّ. والخطوة الأولى يجب أن تتمثّل في محو جذريّ للأميّة المتفشّية لديها. ذلك لأنّها، وفي المستقبل المنظور، ستبقى هي الشّخصيّة الّتي تقوم بالدّور المركزيّ في تربية الأولاد، مادام الرّجل يخرج باحثًا عن أسباب المعيشة للعائلة في بعض الأحيان لأيّام وأسابيع. فحيث تكون الأمّ متعلّمة وواثقة، وعضوًا فاعلاً ومنتجًا في المجتمع، تستطيع أن تربّي جيلاً متعلّمًا وواثقًا ومنتجًا هو الآخر أيضًا. وفقط حينما تكون المرأة كذلك تستطيع أن تعطي من ذاتها لأطفالها. وإن لم تكن كذلك، فما الّذي تستطيع أن تمنحه لأبنائها، غير الحنان؟ لا شيء. يجب أن نعترف بأنّ حنان الأمومة وحده لا يكفي لدفع المجتمعات قدمًا. من هذا المنطلق، يجب إعادة الثّقة بالنّفس للرّجل العربيّ، من خلال تحريره من سجنه المزمن في الشّرف القائم خارج ذاته في بقعة محدّدة بين أرجل المرأة، زوجةً كانت أم ابنة أم شقيقة، إلخ.

من أجل الخروج من مأزق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، هنالك حاجة إلى إعادة هيكلة لهذه المجتمعات، بشرط أن تنبني هذه الهيكلة على: أوّلاً، إعادة الثّقة للرّجل العربيّ بنفسه، وجعل شرفه نابعًا من ذاته هو، لا من ذوات أخر. ثانيًا، سنّ قوانين المساواة التّامّة والمُطلقة بين الرّجل والمرأة في جميع مناحي الحياة الاجتماعيّة، السّياسيّة والاقتصاديّة. ثالثًا، وضع الفرد، وعلى وجه الخصوص المرأة، في مركز الحياة العربيّة، ذلك لأنّها في نهاية المطاف هي الحلّ الوحيد وليس أيّ شيء آخر.

***
المقالة في إيلاف، سبتمبر 2004
***
المقالة بالإنكليزية
***
المقالة بالفرنسية
***
المقالة بالعبرية
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!