أرشيف (2004) -
تقارير التّنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة تفيد بأنّ العالم العربي، مقارنة بشعوب العالم الأخرى، يتواجد في القاع من الناحية الثقافية، الإجتماعية، السياسية إلخ. لا حاجة إلى تكرار ما ورد في هذه التّقارير، إذ يمكن الحصول عليها في الإنترنت. غير أنّ ما يجب الحديث عنه هو كيفية وضع الإصبع على جذور ومسبّبات هذا الوضع، ومحاولة الإشارة إلى طرق ووسائل للخلاص من هذا المأزق المأساوي، أي وبكلمات أخرى، إذا عرف السّبب بطل العجب وسهل العلاج.
إذا ألقينا نظرة سريعة إلى العالم من حولنا، نرى أنّ الشّعوب المتطوّرة هي تلك الشّعوب الّتي تحظى فيها المرأة بمكانة عالية في المجتمع. وهذه المكانة لم تأت عبثًا، وإنّما تطوّرت ونمت في القرون الأخيرة على أرضيّة اقتصاديّة، حضاريّة ودينيّة ساعدت على تقدّم المرأة وتسنّمها دورها العضوي الفاعل في تلك المجتمعات. أمّا في المجتمعات العربيّة فيبدو أنّ المرأة لم تتخطَّ بعدُ النّظام الرّعوي القبلي الّذي هو العنصر المؤسّس لهذه المجتمعات العربيّة، حتّى بعد مرور قرون كثيرة على خروج الموجات البشريّة من جزيرة العربان.
لا مناص لنا سوى رؤية عرب اليوم كعربان الأمس حتّى وإن ركبوا الطّائرات وقادوا السيّارات وتشاتتوا في الإنترنت. حتّى أولئك الّذين ولدوا وترعرعوا في دول الغرب لم تتغيّر مفاهيمهم، فكثيرًا ما نسمع عن جرائم ما يُسمّى "الشرف" بين أفراد هذه الجاليات، في اسكندينافيا، بريطانيا فرنسا وغيرها. وهذه الجرائم العابرة للبحار والقارّات تحدث لأنّ المجتمعات العربيّة هي مجتمعات ترعرعت في ذهنيّة أبويّة ذكريّة في طورها البدائي الحيواني. فإذا كان هذا ما يحدث في أوروبا فما بالكم بما يحدث في أرجاء العالم العربي؟
لهذه الحالة أبعاد سيكولوجيّة بعيدة المدى على تطوّر المجتمع بعامّة. إنّها حالة مرضيّة لدى الذّكورة العربيّة الّتي يمكن إيجازها في أنّ الشّرف الذّكوري العربي لا ينبع من ذات الذّكر، إنّما هو شيء نابع من مكان خارج ذاته. أي أنّ شرف الرجل العربيّ ليس كامنًا في ذاته ودواخله هو، بل هو شرف يأتيه من مكان آخر، من شخص آخر، وعلى وجه الخصوص من المرأة، الحلقة الأضعف في هذه المجتمعات. وما إصرار الرّجل العربي على السّيطرة على قَدَر المرأة، وبخاصّة جسدها، سوى محاولة منه للتّشبّث بكرامة وشرف مفقودين لديه منزوعين من ذاته اجتماعيًّا وسياسيًّا. من بين أهمّ الأسباب إلى حقيقة كون السّلطات الإجتماعيّة والسّياسيّة في المجتمعات العربيّة على مرّ العصور بدءًا بالقبيلة الجاهليّة وانتهاءً بالدّول القائمة الآن سلطات قهر واستبداد لا تسمح بأيّ تعبير ذاتيّ عن كيان إنساني ذي خصوصيّات فرديّة، فحال الفرد في الدّولة العربيّة هي كحاله في ذهنيّة القبليّة الرّعويّة العربيّة المتجذّرة. لذلك، فإنّ كلّ ما يمتّ إلى كرامة الفرد، الإنسان العربي، يصبح شيئًا معدومًا لديه. لهذا السّبب بالذّات نجد الرّجل العربيّ يذهب بعيدًا خارج ذاته باحثًا عن ذاته المكبوتة لدى الحلقة الأضعف من حوله، أي في المرأة، الزّوجة، الشّقيقة، البنت إلخ.
ومثلما لم يأت الإسلام بجديد من النّاحية الدّينيّة، كمل ورد في غير موضع من الصّحيحين وغيرهما: "عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه ص: لَتَتّبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم. فقلنا يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟". كذلك لم يأتِ الإسلام بجديد من النّاحية الإجتماعيّة ولم يغيّر الإسلام شيئًا لدى العربان. فالحديث: "خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام" هو تكريسٌ لهذا النّمط القبلي، حتّى وإن زيد فيه "إذا فقهوا". إلى ذلك انضاف أيضًا مبدأ تفضيل الذّكر على الأنثى: "للرّجل مثل حقّ الأنثيين"، تكريسًا للمبدأ الذّكوري المجتمعيّ. بكلمات أخرى، كلّ ما في الأمر أنّ الإسلام حوّلَ المجتمعات القبليّة المتناحرة إلى قبيلة جديدة من نوع آخر، قبيلة- أُمّة ذكوريّة المنحى، ووجّهها للسّلب والنّهب خارج جزيرة العربان. غير أنّ هذه القبيلة- الأمّة سرعان ما تفكّكت فبرزت النّعرات القبليّة المتجذّرة فيها، والّتي تمحورت حول أحقّيّة الخلافة، أي السّيادة السّياسيّة. وهكذا، عادت حليمة لعادتها القديمة، لأنّ طبع العربان يغلب تَطبُّعَهم.
ما العمل إذن في هذه الحال؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السّهل. إنّها تستدعي قدرًا كبيرًا من الشّجاعة الأخلاقيّة لدى أفراد يحملون راية التّغيير. يجب عدم الإستمرار في دسّ الرّؤوس في الرّمال، كما يجب التّصريح بالأمور علانية ووضعها للنّقاش والجدل. فإن نحن لم نسأل أنفسنا الأسئلة الصّعبة، كيف سنصل إلى حلول للقضايا المستعصية؟ من هنا يمكننا أن نقول إنّ العقليّة الذكوريّة القبليّة المتجذّرة والملفوفة لاحقًا بأيديولوجيّة دينيّة إسلاميّة هي هي لبّ المشكلة. فعندما تجذّرت النّظرة بأنّ "الرّجال قوّامون على النّساء"، أي كما يفسّر ابن كثير ذلك بأنّ الرّجل قيّم على المرأة" وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجّت"، ماذا تبقّى لنصف المجتمع العربيّ المقموع أن يفعله لصالح هذا المجتمع. لذلك نقول إنّ الحلّ بابه مفتوح على مصراعيه وهو باب المرأة، والمرأة بالذّات في هذه المجتمعات.
من أجل الوصول إلى هذه الغاية، يجب إقناع الرّجل العربيّ بأنّ شرفه وكرامته يجب أن ينبعا من ذاته هو ومن جوهره هو كإنسان فرد قائم بذاته، وليس من أيّ جوهر لذوات أُخَر. فلكلّ فرد، رجلاً كان أم امرأة، شرف نابع من ذاته هو. لهذا، يجب تحرير الرّجل العربيّ من عقدته المزمنة من خلال تحرير شرفه وكرامته من تلابيب ما يسمّى شرف المرأة.
ثمّ على الحركات النّسويّة العربيّة أن تأخذ زمام المبادرة وتطالب بوضع قوانين لتحديد النّسل، بمعنى إسقاط النّظرة إلى المرأة بوصفها ماكينة للتّفريخ فقط. إذ أنّ هذا التّفريخ العشوائي لا ينتجُ شيئًا، بل يشكّل عالة تنخر في المجتمع أوّلاً وقبل كلّ شيء، ثمّ بعد أن يعلو الزّغب والرّيش أجنحة هذه الفراخ تطير باحثة عن سبل وطرق للهجرة بحثًا عن الرّزق وراء البحار. لنتفكّر قليلاً بما فعلت الثّورة الصّينيّة. ألا نرى كيف أنّ الصّين في السّنوات الأخيرة، وبعد عقود قليلة قياسًا بأعمار الشّعوب، قد بدأت تأخذ مكانتها اقتصاديًّا واجتماعيًّا في ركاب الدّول المتطوّرة؟
ولو حاولنا أن نفهم كيف وصلت المرأة في العالم المسيحي إلى هذه المكانة المتقدّمة، فما من شكّ في أنّ ثمّة جذور حضاريّة دينيّة لهذا الوضع. فالحضارة المسيحيّة الّتي ترفع شخصيّة السّيّدة مريم العذراء إلى درجة سامية قد تفوق أحيانًا شخصيّة يسوع المسيح، لا يمكن إلاّ يكون لمكانتها هذه تأثير مباشر على تطوّر بنات جنسها في هذه المجتمعات.
أنظروا مثلاً، كيف غيّب التّراث القبلي العربيّ الإسلامي المرأةَ من تاريخه، فعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نفسّر اختفاء خديجة بنت خويلد من الأحاديث النّبويّة، وهي الّتي عاشت مع الرّسول ربع قرن من الزّمان لم ينكح أخريات معها في هذه الفترة المؤسّسة والحرجة من التّاريخ الإسلامي. كيف ذا لم يُرْوَ حديث واحد عنها تقول فيه عن الرّسول إنّه قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا إلخ؟ ألم تتحدّث خديجة مع أحد من البشر، أو ألم يسمع منها أحدٌ طوال ربع قرن من الزّمان كلمة واحدة عن الرّسول، وهي المُبَشَّرَة "ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"؟ إنّ إلقاء نظرة سريعة على وضع المرأة المسيحيّة في المجتمعات العربيّة، مقارنة بوضع المرأة المسلمة تُعزّز ما نرمي إليه في هذه المقالة.
إذن، جذور التأخُّر العربيّ الإسلامي كامنة في هذه النّظرة إلى المرأة، ومن هنا فإذا أردنا أن نبحث عن حلول فإنّ المرأة العربيّة هي الحلّ. والخطوة الأولى يجب أن تتمثّل في محو جذريّ للأميّة المتفشّية لديها. ذلك لأنّها، وفي المستقبل المنظور، ستبقى هي الشّخصيّة الّتي تقوم بالدّور المركزيّ في تربية الأولاد، مادام الرّجل يخرج باحثًا عن أسباب المعيشة للعائلة في بعض الأحيان لأيّام وأسابيع. فحيث تكون الأمّ متعلّمة وواثقة، وعضوًا فاعلاً ومنتجًا في المجتمع، تستطيع أن تربّي جيلاً متعلّمًا وواثقًا ومنتجًا هو الآخر أيضًا. وفقط حينما تكون المرأة كذلك تستطيع أن تعطي من ذاتها لأطفالها. وإن لم تكن كذلك، فما الّذي تستطيع أن تمنحه لأبنائها، غير الحنان؟ لا شيء. يجب أن نعترف بأنّ حنان الأمومة وحده لا يكفي لدفع المجتمعات قدمًا. من هذا المنطلق، يجب إعادة الثّقة بالنّفس للرّجل العربيّ، من خلال تحريره من سجنه المزمن في الشّرف القائم خارج ذاته في بقعة محدّدة بين أرجل المرأة، زوجةً كانت أم ابنة أم شقيقة، إلخ.
من أجل الخروج من مأزق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، هنالك حاجة إلى إعادة هيكلة لهذه المجتمعات، بشرط أن تنبني هذه الهيكلة على: أوّلاً، إعادة الثّقة للرّجل العربيّ بنفسه، وجعل شرفه نابعًا من ذاته هو، لا من ذوات أخر. ثانيًا، سنّ قوانين المساواة التّامّة والمُطلقة بين الرّجل والمرأة في جميع مناحي الحياة الاجتماعيّة، السّياسيّة والاقتصاديّة. ثالثًا، وضع الفرد، وعلى وجه الخصوص المرأة، في مركز الحياة العربيّة، ذلك لأنّها في نهاية المطاف هي الحلّ الوحيد وليس أيّ شيء آخر.
***
المقالة في إيلاف، سبتمبر 2004
***
المقالة بالإنكليزية
***
المقالة بالفرنسية
***
المقالة بالعبرية
سلمان مصالحة ||
الرّجل العربيّ هو المشكلة،
المرأة هي الحلّ
تقارير التّنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة تفيد بأنّ العالم العربي، مقارنة بشعوب العالم الأخرى، يتواجد في القاع من الناحية الثقافية، الإجتماعية، السياسية إلخ. لا حاجة إلى تكرار ما ورد في هذه التّقارير، إذ يمكن الحصول عليها في الإنترنت. غير أنّ ما يجب الحديث عنه هو كيفية وضع الإصبع على جذور ومسبّبات هذا الوضع، ومحاولة الإشارة إلى طرق ووسائل للخلاص من هذا المأزق المأساوي، أي وبكلمات أخرى، إذا عرف السّبب بطل العجب وسهل العلاج.
إذا ألقينا نظرة سريعة إلى العالم من حولنا، نرى أنّ الشّعوب المتطوّرة هي تلك الشّعوب الّتي تحظى فيها المرأة بمكانة عالية في المجتمع. وهذه المكانة لم تأت عبثًا، وإنّما تطوّرت ونمت في القرون الأخيرة على أرضيّة اقتصاديّة، حضاريّة ودينيّة ساعدت على تقدّم المرأة وتسنّمها دورها العضوي الفاعل في تلك المجتمعات. أمّا في المجتمعات العربيّة فيبدو أنّ المرأة لم تتخطَّ بعدُ النّظام الرّعوي القبلي الّذي هو العنصر المؤسّس لهذه المجتمعات العربيّة، حتّى بعد مرور قرون كثيرة على خروج الموجات البشريّة من جزيرة العربان.
لا مناص لنا سوى رؤية عرب اليوم كعربان الأمس حتّى وإن ركبوا الطّائرات وقادوا السيّارات وتشاتتوا في الإنترنت. حتّى أولئك الّذين ولدوا وترعرعوا في دول الغرب لم تتغيّر مفاهيمهم، فكثيرًا ما نسمع عن جرائم ما يُسمّى "الشرف" بين أفراد هذه الجاليات، في اسكندينافيا، بريطانيا فرنسا وغيرها. وهذه الجرائم العابرة للبحار والقارّات تحدث لأنّ المجتمعات العربيّة هي مجتمعات ترعرعت في ذهنيّة أبويّة ذكريّة في طورها البدائي الحيواني. فإذا كان هذا ما يحدث في أوروبا فما بالكم بما يحدث في أرجاء العالم العربي؟
لهذه الحالة أبعاد سيكولوجيّة بعيدة المدى على تطوّر المجتمع بعامّة. إنّها حالة مرضيّة لدى الذّكورة العربيّة الّتي يمكن إيجازها في أنّ الشّرف الذّكوري العربي لا ينبع من ذات الذّكر، إنّما هو شيء نابع من مكان خارج ذاته. أي أنّ شرف الرجل العربيّ ليس كامنًا في ذاته ودواخله هو، بل هو شرف يأتيه من مكان آخر، من شخص آخر، وعلى وجه الخصوص من المرأة، الحلقة الأضعف في هذه المجتمعات. وما إصرار الرّجل العربي على السّيطرة على قَدَر المرأة، وبخاصّة جسدها، سوى محاولة منه للتّشبّث بكرامة وشرف مفقودين لديه منزوعين من ذاته اجتماعيًّا وسياسيًّا. من بين أهمّ الأسباب إلى حقيقة كون السّلطات الإجتماعيّة والسّياسيّة في المجتمعات العربيّة على مرّ العصور بدءًا بالقبيلة الجاهليّة وانتهاءً بالدّول القائمة الآن سلطات قهر واستبداد لا تسمح بأيّ تعبير ذاتيّ عن كيان إنساني ذي خصوصيّات فرديّة، فحال الفرد في الدّولة العربيّة هي كحاله في ذهنيّة القبليّة الرّعويّة العربيّة المتجذّرة. لذلك، فإنّ كلّ ما يمتّ إلى كرامة الفرد، الإنسان العربي، يصبح شيئًا معدومًا لديه. لهذا السّبب بالذّات نجد الرّجل العربيّ يذهب بعيدًا خارج ذاته باحثًا عن ذاته المكبوتة لدى الحلقة الأضعف من حوله، أي في المرأة، الزّوجة، الشّقيقة، البنت إلخ.
ومثلما لم يأت الإسلام بجديد من النّاحية الدّينيّة، كمل ورد في غير موضع من الصّحيحين وغيرهما: "عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه ص: لَتَتّبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم. فقلنا يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟". كذلك لم يأتِ الإسلام بجديد من النّاحية الإجتماعيّة ولم يغيّر الإسلام شيئًا لدى العربان. فالحديث: "خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام" هو تكريسٌ لهذا النّمط القبلي، حتّى وإن زيد فيه "إذا فقهوا". إلى ذلك انضاف أيضًا مبدأ تفضيل الذّكر على الأنثى: "للرّجل مثل حقّ الأنثيين"، تكريسًا للمبدأ الذّكوري المجتمعيّ. بكلمات أخرى، كلّ ما في الأمر أنّ الإسلام حوّلَ المجتمعات القبليّة المتناحرة إلى قبيلة جديدة من نوع آخر، قبيلة- أُمّة ذكوريّة المنحى، ووجّهها للسّلب والنّهب خارج جزيرة العربان. غير أنّ هذه القبيلة- الأمّة سرعان ما تفكّكت فبرزت النّعرات القبليّة المتجذّرة فيها، والّتي تمحورت حول أحقّيّة الخلافة، أي السّيادة السّياسيّة. وهكذا، عادت حليمة لعادتها القديمة، لأنّ طبع العربان يغلب تَطبُّعَهم.
ما العمل إذن في هذه الحال؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السّهل. إنّها تستدعي قدرًا كبيرًا من الشّجاعة الأخلاقيّة لدى أفراد يحملون راية التّغيير. يجب عدم الإستمرار في دسّ الرّؤوس في الرّمال، كما يجب التّصريح بالأمور علانية ووضعها للنّقاش والجدل. فإن نحن لم نسأل أنفسنا الأسئلة الصّعبة، كيف سنصل إلى حلول للقضايا المستعصية؟ من هنا يمكننا أن نقول إنّ العقليّة الذكوريّة القبليّة المتجذّرة والملفوفة لاحقًا بأيديولوجيّة دينيّة إسلاميّة هي هي لبّ المشكلة. فعندما تجذّرت النّظرة بأنّ "الرّجال قوّامون على النّساء"، أي كما يفسّر ابن كثير ذلك بأنّ الرّجل قيّم على المرأة" وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجّت"، ماذا تبقّى لنصف المجتمع العربيّ المقموع أن يفعله لصالح هذا المجتمع. لذلك نقول إنّ الحلّ بابه مفتوح على مصراعيه وهو باب المرأة، والمرأة بالذّات في هذه المجتمعات.
من أجل الوصول إلى هذه الغاية، يجب إقناع الرّجل العربيّ بأنّ شرفه وكرامته يجب أن ينبعا من ذاته هو ومن جوهره هو كإنسان فرد قائم بذاته، وليس من أيّ جوهر لذوات أُخَر. فلكلّ فرد، رجلاً كان أم امرأة، شرف نابع من ذاته هو. لهذا، يجب تحرير الرّجل العربيّ من عقدته المزمنة من خلال تحرير شرفه وكرامته من تلابيب ما يسمّى شرف المرأة.
ثمّ على الحركات النّسويّة العربيّة أن تأخذ زمام المبادرة وتطالب بوضع قوانين لتحديد النّسل، بمعنى إسقاط النّظرة إلى المرأة بوصفها ماكينة للتّفريخ فقط. إذ أنّ هذا التّفريخ العشوائي لا ينتجُ شيئًا، بل يشكّل عالة تنخر في المجتمع أوّلاً وقبل كلّ شيء، ثمّ بعد أن يعلو الزّغب والرّيش أجنحة هذه الفراخ تطير باحثة عن سبل وطرق للهجرة بحثًا عن الرّزق وراء البحار. لنتفكّر قليلاً بما فعلت الثّورة الصّينيّة. ألا نرى كيف أنّ الصّين في السّنوات الأخيرة، وبعد عقود قليلة قياسًا بأعمار الشّعوب، قد بدأت تأخذ مكانتها اقتصاديًّا واجتماعيًّا في ركاب الدّول المتطوّرة؟
ولو حاولنا أن نفهم كيف وصلت المرأة في العالم المسيحي إلى هذه المكانة المتقدّمة، فما من شكّ في أنّ ثمّة جذور حضاريّة دينيّة لهذا الوضع. فالحضارة المسيحيّة الّتي ترفع شخصيّة السّيّدة مريم العذراء إلى درجة سامية قد تفوق أحيانًا شخصيّة يسوع المسيح، لا يمكن إلاّ يكون لمكانتها هذه تأثير مباشر على تطوّر بنات جنسها في هذه المجتمعات.
أنظروا مثلاً، كيف غيّب التّراث القبلي العربيّ الإسلامي المرأةَ من تاريخه، فعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نفسّر اختفاء خديجة بنت خويلد من الأحاديث النّبويّة، وهي الّتي عاشت مع الرّسول ربع قرن من الزّمان لم ينكح أخريات معها في هذه الفترة المؤسّسة والحرجة من التّاريخ الإسلامي. كيف ذا لم يُرْوَ حديث واحد عنها تقول فيه عن الرّسول إنّه قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا إلخ؟ ألم تتحدّث خديجة مع أحد من البشر، أو ألم يسمع منها أحدٌ طوال ربع قرن من الزّمان كلمة واحدة عن الرّسول، وهي المُبَشَّرَة "ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"؟ إنّ إلقاء نظرة سريعة على وضع المرأة المسيحيّة في المجتمعات العربيّة، مقارنة بوضع المرأة المسلمة تُعزّز ما نرمي إليه في هذه المقالة.
إذن، جذور التأخُّر العربيّ الإسلامي كامنة في هذه النّظرة إلى المرأة، ومن هنا فإذا أردنا أن نبحث عن حلول فإنّ المرأة العربيّة هي الحلّ. والخطوة الأولى يجب أن تتمثّل في محو جذريّ للأميّة المتفشّية لديها. ذلك لأنّها، وفي المستقبل المنظور، ستبقى هي الشّخصيّة الّتي تقوم بالدّور المركزيّ في تربية الأولاد، مادام الرّجل يخرج باحثًا عن أسباب المعيشة للعائلة في بعض الأحيان لأيّام وأسابيع. فحيث تكون الأمّ متعلّمة وواثقة، وعضوًا فاعلاً ومنتجًا في المجتمع، تستطيع أن تربّي جيلاً متعلّمًا وواثقًا ومنتجًا هو الآخر أيضًا. وفقط حينما تكون المرأة كذلك تستطيع أن تعطي من ذاتها لأطفالها. وإن لم تكن كذلك، فما الّذي تستطيع أن تمنحه لأبنائها، غير الحنان؟ لا شيء. يجب أن نعترف بأنّ حنان الأمومة وحده لا يكفي لدفع المجتمعات قدمًا. من هذا المنطلق، يجب إعادة الثّقة بالنّفس للرّجل العربيّ، من خلال تحريره من سجنه المزمن في الشّرف القائم خارج ذاته في بقعة محدّدة بين أرجل المرأة، زوجةً كانت أم ابنة أم شقيقة، إلخ.
من أجل الخروج من مأزق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، هنالك حاجة إلى إعادة هيكلة لهذه المجتمعات، بشرط أن تنبني هذه الهيكلة على: أوّلاً، إعادة الثّقة للرّجل العربيّ بنفسه، وجعل شرفه نابعًا من ذاته هو، لا من ذوات أخر. ثانيًا، سنّ قوانين المساواة التّامّة والمُطلقة بين الرّجل والمرأة في جميع مناحي الحياة الاجتماعيّة، السّياسيّة والاقتصاديّة. ثالثًا، وضع الفرد، وعلى وجه الخصوص المرأة، في مركز الحياة العربيّة، ذلك لأنّها في نهاية المطاف هي الحلّ الوحيد وليس أيّ شيء آخر.
***
المقالة في إيلاف، سبتمبر 2004
***
المقالة بالإنكليزية
***
المقالة بالفرنسية
***
المقالة بالعبرية
0 تعليقات:
إرسال تعليق