لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟


سلمان مصالحة

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟



ما من شكّ في أنّ مكانة المرأة
في المجتمع هي حجر الأساس الّذي تُبنى عليه العمارة الحضاريّة البشريّة. لذا فإنّ مكانة المرأة العربيّة هي قضيّة في غاية الأهميّة، لما كان لهذه النّظرة المُحَقِّرة للنّساء من إسقاطات على مجمل التّطوّر البشري للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة طوال القرون الماضية ولما سيكون لهذة النّظرة، لو بقيت على ما هي عليه، من تأثير في العقود، إن لم نقل القرون، الجائية.

بالإضافة إلى أسباب قد تكون سياسيّة واقتصاديّة وأخرى كثيرة لهذا الوضع المزري، فإنّ أحد أهمّ المسبّبات للتّخلُّف العربي هو هذه النّظرة لمكانة المرأة الدّونيّة في المجتمع، أي في الحياة المتحضّرة لبني البشر. إذ كلّما ارتفعت مكانة المرأة المجتمعيّة كلّما اندفعت المجتمعات قدمًا في ركب التّطوّر على جميع الأصعدة. وبالعكس كلّما انخفضت مكانة المرأة في المجتمعات البشريّة كلّما تقوقعت هذه المجتمعات في شرنقة التّخلُّف الّتي تعزلها عن عالم الحياة المتنوّرة حتّى تتعفّن هذه المجتمعات وتتفسّخ فتذروها الرّياح وتلقي بها على قارعة الطّريق تدوسها الأقدام المسرعة في حركة ارتقائيّة حثيثة.

غير أنّنا، وإذا ما نشدنا الوصول
 إلى تغيير لهذا الوضع المزري، لا يمكننا بأيّ حال أن نتجاهل الأسس الّتي انبنت عليها هذه النّظرة العربيّة المُحَقِّرَة للمرأة ومنذ فجر الحضارة العربيّة وحتّى عصرنا الحاضر. ولهذا السّبب، نحن في أمسّ الحاجة إلى صياغة فكريّة جديدة تُؤسِّسُ لبناء مجتمعيّ جديد قد لا نستمتع به نحن في المستقبل القريب، غير أنّه قد يشكّل بيتًا آمنًا للأجيال العربيّة المستقبليّة.

الصّياغة الفكريّة الجديدة الّتي نودّ الوصول إليها، يجب أن تنبني على ثورة في المفاهيم المؤسِّسَة لهذه المجتمعات العربيّة. وهذه الثّورة يمكن أن نُجملها في مقولة واحدة ومقتضبة: يجب نفض الأسس المجتمعيّة العربيّة رأسًا على عقب، وبدل البناء على أسس ذكوريّة للمجتمع، يجب أن تنبني المجتمعات العربيّة على أسس أنثويّة. صحيح أنّ هذا التّحوّل ليس بالأمر السّهل، إلاّ أنّه هو الحلّ الأوحد لبناء مجتمع عربيّ سليم ومعافى. ولهذا الغرض هنالك حاجة إلى علاج هذه العُقَد الذّكوريّة العربيّة بأدوات معرفيّة وسيكولوجيّة بعيدة الغور، كما أنّها بحاجة إلى أناة وعقول منفتحة من قبل الذّكور خاصّة.

فلو عدنا إلى الوراء، إلى حقبة 
جاهليّة العرب وإلى ما رسخ في الذّهن منها، فإنّ الوأد الجاهلي، كما يعرضه لنا القرطبي في تفسيره نجد أنّ العرب كانت تدفن البنات بعد ولادتهنّ أحياء لسببين: الأوّل، "مخافة الحاجة والإملاق وإمّا خوفًا من السّبي والاسترقاق". ولعلّ مقولة "خوف الحاجة والإملاق" قد وضعت هنا فقط لمجرّد تسجيع الكلام لشغف العرب بهذه العادة اللّغويّة، إذ أنّ المرأة الجاهليّة كانت عضوًا نشطًا في منظومة الإنتاج الجاهليّة مثلها في ذلك مثل الرّجل، إن لم تكن مهمّتها تفوق مهمّته أصلاً. أمّا الشّطر الثّاني من السّبب وهو "خوف السّبي والاسترقاق"، فقد يكون هو الأقرب إلى الحقيقة بسبب تلك الذّهنيّة الذّكوريّة الّتي تخشى من فقدان السّيطرة على ماكينة التّفريخ هذه كما يراها الذّكر العربيّ، ولارتباط مُحرّك هذه الماكينة بالشّرف الذّكوري فحسب.

غير أنّي أميل شخصيًّا إلى الأخذ بالسّبب الآخر الّذي يورده القرطبي تفسيرًا لهذه الظّاهرة، حيث يذكر القرطبي: "كانوا يقولون إنّ الملائكة بنات اللّه، فألحقوا البنات به«. فإذا كان السّبب في ذلك هو إيمانهم بأنّ الملائكة بنات اللّه، ولذلك يلحقون البنات باللّه، فهذا يعني بالضّبط ما هو نقيض للنّظرة الدّونيّة للمرأة، إذ يُفهم من هذه الجملة أنّ النّظرة الجاهليّة إلى البنات هي نظرة تقديس لهنّ كما لو كانت البنات ملائكة، ولذلك فهم يلحقون البنات باللّه. وبكلمات أخرى فهم يقدّمون البنات قرابين للّه، أي من خلال طقس دينيّ للتّقرُّب لآلهة الجاهليّة. وهذا التّفسير أقربُ إلى الصّواب في نظري، إذ أنّه يندرج ضمن هذه الطّقسيّة الدّينيّة، أي تقريب الأبناء للآلهة، لدى كثير من الحضارات القديمة على اختلاف مشاربها ومواقعها، وفي أصقاع شتّى من أنحاء العالَم في العصور القديمة.

إنّ عدم الالتفات إلى هذا التّفسير الّذي أقدّمه هنا من قِبَل أهل العلم من العرب قديمًا وحديثًا مردُّهُ إلى تلك النّظرة الّتي تأسّست عليها الأيديولوجيّة الإسلاميّة والمتمثّلة بتجهيل الحقبة الّتي سبقت الدّعوة، أي بإضفاء صبغة الجاهليّة عليها. وكلّ ذلك بغية رفع قيمة هذه الدّعوة الجديدة مقابل ما سبقها من حضارة عربيّة قديمة.

غير أنّ الإسلام
الّذي قولب صورة الجاهليّة على مقاسه هو، في محاولة منه لوضع حدّ فاصل بين "همجيّة" موهومة للحقبة الجاهليّة من جهة وبين "نور" إسلامي من جهة أخرى، لم يأت سوى بشكل آخر من أشكال الاستعباد للمرأة. بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنقول بأنّ الإسلام قد حطّ من قيمة المرأة قياسًا بما كانت عليه من قبل. فبينما كانت الأنثى أقرب إلى كونها من جنس الملائكة الّتي تُلحق باللّه، كما ذكرنا سابقًا، تحوّلت مع الإسلام إلى مخلوق يُنظر إليه، من جهة، بصفته عورة، كما يقول الحنابلة. إذ أنّّه حتّى الظّفر منها عورة "فإذا خرجت من بيتها فلا تُبنْ منه شيئًا، ولا خفّها فإنّ الخفّ يصفُ القدمَ، وأحبّ إليّ أن تجعل لكُمّّها زرًّا عند يدها حتّى لا يبين منه شيئًا"، كما يقول الإمام أحمد، وكذا ابن قيّم وابن تيميّة، إذ أنّ المرأة كلّها عورة كما يقول الإمام القرطبي.أو وجوب الحجاب، لا لكون الوجه عورة، بل لأنّ الكشف هو مظنّة الفتنة، كما تقول الحنفيّة: "حرمة النّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء"، كما يروي السّرخسي في المبسوط، وكذا تقول المالكيّة أيضًا. بل وأكثر من ذلك، إذ أنّ النّووي الشّافعي يقول: لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاّ أن تكون الكافرة مملوكة لها". وقد ذكر أنّ آية الحجاب قد نزلت بسبب غيرة الرّسول على عائشة، فقد روي عن مجاهد: "أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يطعمُ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشة، فمره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت آية الحجاب"، كما يذكر الطّبري في تفسيره. وهذا الكلام يعني شيئًا واحدًا وهو أنّه لو أنّ يدَ ذلك الرّجل لم تمسّ يد عائشة لما كانت نزلت آية الحجاب أبدًا.

فمهما حاول البعض من الإسلامويّين تلطيف الأمور بإخفاء النّصوص عن أعين النّاس، فليس أمام قارئ هذه النّصوص من سبيل سوى مواجهة الحقيقة، إذ أنّ المشكلة ليست في التّفسيرات، وإنّما هي في النّصوص المؤسِّسَة لهذه الأيديولوجيّة الذّكوريّة. إنّ هذا التّعوير أو التّفتين أو شيطنة المرأة بصورة عامّة هو الّذي يُفضي إلى مبدأ الانتقاص من قدرها ومكانتها شرعًا. وهو المبدأ الّذي لا زال مُتحكّمًا في الذّهنيّة العربيّة إلى عصرنا الحاضر. إذن، ومن هذه النّاحية، يشكّل الإسلام في تصوّري تدهورًا ملحوظًا في مكانة المرأة الاجتماعيّة، حتّى قياسًا بما كانت عليه مكانتها في ما سبق من زمن، أي في فترة "الجاهليّة"، كما يحلو للإسلامويّين وَسْمَ تلك الحقبة من الزّمن العربيّ.

مهما يكن من أمر،
 حتّى لو أمعنّا النّظر في طرفي صورة الأنثى، الطّرف الجاهلي منها بالإضافة إلى الطّرف الإسلامي، كما يُقدّمه لنا دارسو الحضارة العرب، إسلامويّين كانوا أو ذوي تصوّرات أخرى، لوصلنا إلى استنتاج لا مفرّ منه. إنّه استنتاج يرى بأنّ النّظرة الذّكوريّة المتجذّرة في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة تجاه المرأة، هي ما يدفع بالذّكر العربيّ إلى القيام بعمليّة "قتل" أو "إعدام" للأنثى على العموم وعلى عدّة أصعدة. فكما يتّضح فإنّ الوجهين اللّذين قد يبدوان نقيضين للوهلة الأولى، وهما الوأد القبلي الجاهلي على خلفيّة الخوف "من السّبي والاسترقاق" من جهة، والنّظرة إلى المرأة بصفتها عورة أو درءًا للفتنة، كما يجمع على ذلك فقهاء الإسلام، ما هما إلاّ وجهين لعملة واحدة ينبعان من تلك العقدة الذّكوريّة العربيّة الّتي تربط الشّرف بالمرأة، وعلى وجه الخصوص بالجانب الجنسي فيها.

فخوف السّبي والاسترقاق الجاهلي ليس سوى خوف من استحواذ ذكوريّة غريبة على محرّك التّفريخ الّذي يسيطر عليه الرّجل العربي المنتمي إلى وحدة قبليّة تعمل بموجب منظومة من القيم الذّكوريّة. والأمر هو ذاته فيما يتعلّق بالنّظرة التّعويريّة للمرأة في الإسلام. صحيح أنّ الوأد الجسدي قد حُظر إسلاميًّا، غير أنّ هذا الوأد، كغيره من قيم الجاهليّة، قد استمرّ في الإسلام بصيغة أخرى، من خلال تحجيب المرأة في الفضاء العام، والاستحواذ بها داخل حدود البيت لكون المرأة كلّها عورة، أو كما روي عن ابن مسعود عن النّبي: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان«. ولذلك أيضًا فقد روى مسلم في كتاب النكاح من صحيحه أنّ النّبي "رأى امرأةً فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثمّ خرج إلى أصحابه فقال: إنّ المرأة تُقبل في صورة شيطان وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصرَ أحدُكم امرأةً فليأْتِ أهلَهُ، فإنّ ذلك يردُّ ما في نفسه". وبكلمات أخرى يردّ ما نفسه من شهوة مواقعتها. لهذا السّبب أيضًا يقول النّبي كما روى البخاري في صحيحه: "اطّلعتُ في النّار فرأيتُ أكثر أهلهت النّساء".

من هنا، فإنّ الوأد الجسدي - جاهليًّا - في التّراب، والوأد الجسدي - إسلاميًّا - في الحجاب يستمدّان شرعيّتهما من كون الشّرف الذّكوري العربي مرتبطًا بالمرأة ليس إلاّ. وهذا الشّرف لو أمعنّا فيه النّظر لرأينا أنّه نابع من خارج ذات الذّكر العربي. أي أنّ الذّكر العربي يعتزّ بالشّرف الّذي ليس من كُنهه هو كذات بشريّة مستقلّة. ولهذا السّبب أيضًا، نرى أنّ الرّجل العربي قد يرتكب جريمة متمثّلة بقتل ابنته أو شقيقته أو أنثى قريبة منه تحت ما يسمّى بجرائم الشّرف. وهو إنّما يفعل ذلك ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنّما كثيرًا ما نقرأ عن ارتكاب هذه الجرائم في البلاد الأوروبيّة وغيرها. أي أنّ هذه النّظرة تنتقل مع العربي في حلّه في بلاد العربان، وفي ترحاله إلى بلاد البيضان والسّودان.

إنّ الرّجل العربي 
يقوم بارتكاب هذا النّوع من الجرائم، وأدًا جاهليًّا أو تحجيبًا وتعويرًا إسلاميًّا أو قتلاً على خلفيّات الشّرف في هذا العصر، لأنّه ترعرع على هذه الذّهنيّة الاستحواذيّة الذّكوريّة القبليّة في مراحل تطوّره الأولى. وأغلب الظنّ أنّ هذه الذّهنيّة ليست سوى ذهنيّة غريزيّة هي من مخلّفات الحيوانيّة البشريّة في مراحل التّطوُّر البشريّة الأولى منذ عهد سحيق في الغابة. في الحقيقة الرّجل العربي يريد الأنثى القريبة لنفسه غير أنّ التّابوات الصّارمة تحول دون ذلك، فيحوّل الأنثى القريبة إلى صلة الرّحم. ولهذا السّبب أيضًا يعمد العرب على العموم إلى التّزاوج داخل القبيلة من أبناء العمومة والخؤولة. وهم يفعلون ذلك من أجل الاستحواذ بماكينة التّفريخ ضمن حدود القبيلة ذاتها بغية تكثير الجينات الذّكوريّة الذّاتيّة في الطّبيعة البرّيّة الوحشيّة، أو لتكثير العدد القبلي لحاملي العصيّ، كما يُقال لدى العوام. إذ أنّ كلّ ما هو خارج نطاق القبيلة ذاتها يُعتبر غريبًا يُهدّد الهيمنة على مناطق ومجالات النّفوذ في الطّبيعة البريّة.

ليس من عجب إذن، أن نرى هذا الدّرك الّذي وصلت إليه أحوال العرب مقارنة بالشّعوب المتطوّرة في هذا العالم. فالحضارة الذّكوريّة العربيّة لا زالت في مراحل أوليّة من التّطوُّر البشري، وهي بحاجة إلى نقلة نوعيّة. ومن هنا أيضًا فإنّنا نُطلق دعوتنا الصّريحة هذه إلى قلب الأمور رأسًا على عقب، والعمل على بناء المجتمع العربي على أسس أنثويّة بدل الأسس الذّكوريّة الّتي لا تستطيع بأيّ حال أن ترتقي بالمجتمعات العربيّة، وفي حضارتنا العربيّة قديمًا وحديثًا ما يكفي من براهين على ما نرمي إليه.

فهل من سميع أو مجيب؟

يوليو 2005


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!