لأ، اللّي فات ما مات

سلمان مصالحة || لأ، اللّي فات ما مات

أحيانًا لا يعرف المرء
من أين يبدأ. ليس لأنّ الأمور غير واضحة المعالم، بل لأنّ الأخبار والمشاهد التي تصل أسماع وأنظار الناس تحتوي على الكثير ممّا يجعل المرء في حيرة من أمر بعض هؤلاء الذين يتمّ اختيارهم للقيام بمهامّ حسّاسة وفي مناطق حسّاسة. يبدو أنّ الذهنيّات التي جُبلوا عليها لا تبارحهم أينما حلّوا وحيثما ارتحلوا.

لا شكّ أنّ القارئ لا زال يتذكّر تلك المهزلة التي جاءت من طرف الجامعة العربية. فلقد ماطلت هذه الجامعة العربية، على ما تمثّله من منظّمة تافهة تفاهة الدّول المنضوية فيها، برئيسها الذي لم يكشف كما يشي اسمه، لا عن النُّبل ولا عن الهمّ العربي. لقد التأمت هذه الجامعة وعقدت جلسات، فقامت وقعدت وشربت القهوة السادة وناقشت إلى أن خرجت بقرار إرسال مراقبين عربًا لإعداد تقرير عمّا يجري في سورية.

كلّ ما استطاعت هذه الجامعة تقديمه للشعب السّوري هو إرسال ما نُطلق عليه في لغتنا المحكية ”حاميها حراميها“. لقد تمثّل هذا الـ”حرامي“ برئيس بعثة المراقبين تلك، الجنرال السوداني محمد مصطفى الدابي. نعم، لا ندري ما هي الذهنيّة التي تقف وراء اختيار جنرال سوداني كان مسؤولاً عسكريًّا في دارفور، حيث ارتكب الجيش السوداني المجازر بحقّ مئات الآلاف من البشر.

والآن، نقرأ ونسمع
بشأن بعثة نفر المراقبين المرسلين من قبل الأمم المتّحدة. إنّ ما يشدّ الانتباه هو الكلام الصادر عن بعض العرب من هؤلاء النّفر. فلقد نشرت وسائل الإعلام والاتّصال العصرية أخبار وصور وكلام رئيس فريق المراقبين الدوليّين. وهذه المرّة يأتي الكلام من الجنرال المغربي أحمد حميش. لقد تناقلت وسائل الإعلام خبر حديثه مع أهالي حمص المنكوبة، فماذا يقول هذا العقيد الفهلوي لأهالي حمص؟ يجب أن يسمع القارئ لكي يفهم هذه الذهنية التي استحكمت في طبائع هذه الـ”حضارة“. هكذا يقول العقيد الجديد: ”اللي فات مات.. ومن استشهد رحمه الله". نعم، هكذا يلخّص هذا العقيد البليد الجديد رؤيته أمام المنكوبين من أهل حمص.

لو كان الأمر مضحكًا
لكنّا ضحكنا، وانتهى الأمر. غير أنّ الأمر لا يثير الاشمئزاز فحسب، بل إنّه يثير الامتعاض والغثيان لشدّة ما يكشفه من بلادة عاطفيّة وذهنيّة في آن معًا. فهل يعتقد العقيد البليد أنّه موجود في جلسة لحلّ إشكال بين أطفال متناوشين على أمور تافهة، أم أنّه يظنّ أنّه يجلس في خيمة لعقد صلح عشائري؟ فما هي رتبة العقادة هذه التي يحملها وما هي رتبته في سلّم رتب البلادة؟

نعم، فات الكثير ومات الكثير. لم يمت هؤلاء بقضاء وقدر، بل قتلتهم طغمة وعصابة عن سبق إصرار. لقد قتلتهم عصابة أدعياء العروبة عن سبق إصرار لأنّهم خرجوا ينشدون الحريّة. نعم، فات الكثير في هذا العام المنصرم ومات الكثير في بلاد الشام فقط لمجرّد طلب الانعتاق من هذا النّظام الذي انبنى على الجريمة متلبّسًا شعارات قومويّة لم تعد تنطلي على أحد.

اللّي فات مات؟
لأ. أيّها العقيد البليد. اللّي فات ما مات، ولن يموت. النّظام الذي انبنى على الإجرام، لا مناص من أن يرحل. رؤوس النّظام الّذين أدمنوا القتل لا بدّ من تقديمهم للمحاكمة. فقط بعد ذلك، يمكن القول للآخرين من فلول هذا النّطام: اللّي فات مات. ويمكن بعدئذ المضيّ قدمًا في مصالحة وطنية حقيقية، بين جميع الأطياف الطائفية التي يتركّب منها المجتمع السّوري.

على السوريّين المنتفضين أن يرفضوا استقبال مراقبين عربًا، إذ أنّ هؤلاء لا يفهمون على ما يبدو المهمّة الملقاة على عاتقهم. لأنّ طبعهم يغلب تطبّعهم في نهاية المطاف. وإلى أمثال الدّابي السوداني، أو العقيد المغربي لا يسعنا إلاّ القول: الأمور لن تعود إلى سابق عهدها وكأنّ شيئًا لم يكن.

لن تعود الأمور إلى سابق عهدها وكأنّ ”اللّي فات مات...“. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 2 مايو 2012

***

بقايا ليل

سلمان مصالحة || بقايا ليل

حِينَ يَحْبُو الضَّوْءُ
فِي بَيْتٍ تَنَامَى لِرُقَادٍ،
يَأْرَقُ القَلْبُ هِيَامَا

بِالَّتِي أَرْسَتْ عَلَى
شُطْآنِهِ سُفُنًا تَحْمِلُ
حُزْنًا وَمُدَامَا

لَمْ تَشَأْ، فِي غُرْبَةِ
التَّنْهِيدِ، أَنْ تَكْشِفَ السّرَّ
الّذِي رَامَ اقْتِسَامَا

وَأَنـَا، فِي حَيْرَةٍ مِنْ
أَمْرِهَا، أَكْتُمُ الهَمَّ
وَأَسْتَبْقِي لَهَا مَا

يَمْسَحُ الدَّمْعَ، الّذِي
يَطْفُو عَلَى ضَفَّةِ العَيْنَيْنِ،
عِشْقًا وَاهْتِمَامَا

بِهُمُومٍ، هِيَ مِنْ ضَيْعَتِنَا
حَيْثُمَا نَمْضِي، سَنَلْقَاهَا
أَمَامَا

حِينَ تَغْفُو فِي ثَنَايَا
نَظْرَتِي، أزْرَعُ الدَّمْعَ
بِسِرٍّ قَدْ تَرَامَى

فِي بَقَايَا اللّيْلِ، مَحْرُوسًا
لِمَنْ هَجَعَتْ فِي حُلْمِهَا،
تُخْفِي كَلامَا

فَيُفِيقُ القَلْبُ مِنْ
رَقْدَتِهِ، وَيَعُودُ الحُلْمُ
هَمًّا مُسْتَدَامَا

بَيْنَ قَلْبَيْنِ، اسْتَرَاحَا
بُرْهَةً، فِي عَرِينِ اللّيْلِ
حَيْثُ الحُزْنُ عَامَا

فَلَهُ مِنْ حُزْنِهَا دَمْعُ
نَدًى، وَلَهَا مِنْهُ الهَوَى
يُمْسِي سَلامَا
*
21 يناير 2011
***

هل‮ ‬يمكن تنقية التراث من الشّوائب؟

من الأرشيف:


إنّ‮ ‬ما‮ ‬يتوجّب علينا فعله هو شيء آخر‮ ‬يختلف تمامًا‮. ‬علينا أن ننزع القدسيّة عن هذا الماضي،‮ ‬كما علينا أن نكرّس جهدنا في‮ ‬إعمال العقل‮ ‬فيه دون فرض أيّ‮ ‬رقابة على العقل‮...

العباس بن الأحنف || مختارات شعرية



العباس بن الأحنف || 


مختارات شعرية


يا أيّها الرجل

يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

مَنْ ذا يُعِيرُكَ عَيْنَـهُ، تَبكي بها،
أَرَأَيْتَ عَيْنًا للبُكاء تُعارُ؟
*

أبكي الذين

أَبْكي الّذينَ أَذاقُوني مَوَدَّتَهم
حَتّى إذا أيْقَظُوني للْهَوَى رَقَدُوا

وَاسْتَنهَضُوني، فلَمّا قُمْتُ مُنْتَصبًا
بثِقْلِ ما حَمّلُوني مِنْهُمُ قَعَدُوا
*

العباس بن الأحنف - شاعر عباسي (750 - 809 م).
-------------

رسالة في فضل الكفّار على المؤمنين

ما لن تقرأه في الصحافة العربية

يطلب أحد من النّاس الاستفسار بشأن عادة إحضار الزهور للمرضى نزلاء المستشفيات، فيكتب طالبًا المشورة: ”انتشرت في بعض المستشفيات محلات بيع الزهور وأصبحنا نرى بعض الزوار يصطحبون باقات الورود لتقديمها للمزورين فما حكم ذلك؟“

سوى ما كنت وكان


سلمان مصالحة


سوى ما كنت وكان

مَنْ يَأْخُذُ مِنّي، بَعْدَ أناةٍ، نَبْرةَ صَوتي؟
مَنْ يَمسحُ عَنْ ضَفَّةِ أحْلامي عَرَقًا، ألَمًا
مصبوبًا من جَرّةِ أوْهامٍ. كُتبتْ سَنواتٍ
بِدُموعٍ نَبَعتْ مِنْ بَخْتِي؟ مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي
لُغَتِي، صِفَتِي المسجونةَ فِي قَبْوٍ حَفَرَتْهُ
الرّوحُ بِصَمْتِي. مَنْ يَأخُذُ مِنِّي عِظَةً،
صُورًا رُبطَتْ بِخَيالٍ عَرَبِيٍّ فِي خَيْمَةِ
مَقْتِي. مَنْ يأخذُ مِنِّي عظتِي؟ مَنْ
يَحْملُ عَنِّي شِعْرًا مَجْبُولاً بِلَهَاةٍ
قُدَّتْ مِنْ شَفَتِي.
*
مَنْ يَسْرُقُ مِنّي، في فَصْلِ المَشْتاةِ،
صلاتِي؟ ما عُدْتُ إلَيْها فِي عَوَزٍ.
فَأنَا العارفُ ما أُخْفِي بأديم البَرْدِ،
أُوَزّعُ للنّاسِ صَلاتِي. لَنْ أقْبلَ بَعْدَ
اليومِ كلامًا، لن أقبلَ بعد اليومِ
حديثًا عَنْ سِرِّ سُباتِي. طالَ سُباتِي،
طالَ مَعَ الأحياءِ مواتِي.
*
مَنْ يَرفعُ عَنِي فِي هَدْأةِ ليلِي بَعْضَ
دُعائِي؟ مَنْ يَجْلسُ فِي الظلِّ ورائي؟
مَنْ يَهْمسُ فِي كأسٍ نضبتْ مِنْ روحِ
الكَرْمِ تِباعًا؟ مَنْ يَهربُ مِنْ حِضْنِ
حِذائي مُخْتلسًا صَوْتَ الجِنِّ المَلْهُوفِ
بِرَمْلٍ كَدّسَهُ القَفْرُ لآتي؟ ما لي أتلفّتُ
مسكونًا في هذا اللّيلِ بِفلذةِ ذاتِي؟
ما لي أبحثُ عَنْ صَوتٍ مَهْتُوفٍ،
مغموسٍ بِنثارِ فُتاتِي؟

*
ها أنذا بعدَ عياءٍ، أتَرَجّلُ حينًا عَنْ
صَهْوَةِ قَوْلٍ، مَسْرورًا بِعَباءِ عيائي.
حِينًا آنَسُ بِعُواءٍ يَأتِي مِنْ قَحْفِ
دواتي. فِي لَحْظَةِ صَمْتٍ، ألحظُهُ،
ألحظُ صمتي يجمحُ فِي الأُفْقِ خُيُولاً.
تَعْدُو مُسْرَجَةً فِي نُورِ فَلاتِي. أترُكُهُ
كَعُواء الذّئب، ليَمْضِي فِي اللّيلِ
وحيدًا. أتركُهُ يمضي شريدًا خَلْفَ
حُدودِ سَمائي. أتقمّصُ حينًا، فِي
بَلَجِ الصُّبْحِ، قَصيدًا مِنْ بَعْضِ
إلهٍ مَهْجُورٍ فِي عُرْضِ النّفسِ. يُداعبُ
في الطُّرُقاتِ قَضائِي.
*
منْ يعرفُ كم مُتُّ حديثًا في هذا
البلدِ الممتدّ على الشاشات أمامي؟
منَ يسمعُ وقعَ الصوتِ المُرتدِّ إلى
الأوهامِ بِذاتِى؟ منْ يتذكّر في بُرَهِ
النّسيانِ كلامي؟ منْ ينقشُ في حجرٍ
خَفْقَةَ قلبٍ منسيّ فِي ثَوْبِ صَبيٍّ
وَاراهُ اللّيلُ بحُلْمِي؟
*
من يسمعُ أنّاتٍ دُفنتْ في الرّملِ
قُرونًا. من شدّة موتي، أوصدتُ
القلبَ على مصراعيهِ بصدرٍ مكشوفٍ
للشّمسِ، بأرْضٍ لا تدخُلُها الرّيحُ،
بأرْضٍ خلدتْ في العَدَمِ. مِنْ شِدَّةِ
صَمْتِي خَبّأتُ لِسانِي فِي حُلُمٍ موصودٍ.
تحفظُهُ الجنُّ وراءَ البحرِ لِقَوْمي. يأْتونَ
ربيعًا، إنْ شاءَ الحُلْمُ وشئتُ. يأتُونَ
خريفًا مُعتمرينَ حُروفًا خيطتْ
منْ ألمي.
*
إنْ شاءَ كلانا، أحضرُ يومًا إنْ
شِئْتُ الكشفَ عنِ الحُلْمِ وَشاءَ.
أحضرُ يومًا، إن شاء الحُلْمُ وشئتُ.
نَحْلمُ بَعْضًا إنْ شاءَ الحُلْمَ كلانا.
لَنْ أقبلَ بعد اليومِ سِوى ما كُنتُ
وكانَ.
***

نشرت في: "إيلاف"
------

إدمان الجنس يؤدّي إلى الاكتئاب


سلمان مصالحة

 إدمان الجنس يؤدّي إلى الاكتئاب


للمرّة الأولى يصدر تقرير
عن الأمم المتحدة يتعلّق بالسعادة البشرية في دول العالم المختلفة. لقد أجرى البحث لصالح المنظمة الدولية فريق من الباحثين في معهد الأرض التابع لجامعة كولومبيا. يتطرّق البحث إلى كيفية رؤية بني البشر في مناطق مختلفة من العالم لمعيشتهم في بلدانهم ومدى شعورهم بالسعادة.

رسالة في الدلالة العميقة للربيع العربي



في تلك الأيّام، وربّما لا زالت الحال على هذا المنوال حتّى يومنا هذا، لم تكن دروس الإنشاء تلك سوى إملاء لصيغ تعبيرية جاهزة تتناسل وتتكاثر في ذات القبيلة اللغوية...

سال نو مبارگ

من الأرشيف:

وبشأن العنصريّة العربيّة، فإنّ السفّاح التّكريتي ذاته كرّر مرّة أخرى، مثلما نهج في الماضي البعيد والقريب على استخدام الألفاظ العنصريّة العربيّة باستخدامه مصطلحات "الفرس" و"المجوس" و"الصّفويين" الّتي ترعرع عليها كلّ دعاة القومويّة العروبيّة منذ القدم.

سلمان مصالحة || 

سال نو مبارك


نشرت الصّحافة العربيّة بعد المصادقة على قرار حكم إعدام سفّاح العراق خبرًا عن رسالته الموجّهة إلى "الشعب العراقي العظيم"، داعيًا ايّاه إلى "التّوحّد ضدّ الغزاة والفرس"، وخاتمًا رسالته بأبيات من الشّعر. إذن، يتوجّه السّفّاح، مع اقتراب نهايته، بالذّات إلى أولئك النّاس الّذين أذاقهم الأمرّين خلال العقود الأخيرة.

إذا ما علمنا أنّ تعداد سكان العراق هو حوالي 25 مليون نسمة،%60 منهم من الشيعة، وحوالي%17 من السنّة العرب، و %20 من الأكراد، وما تبقّى من سائر الطّوائف. فعن أيّ شعب عراقي يتحدّث هذا السفّاح المخلوع والمقلوع من بلاد الرّافدين؟ فمن هذا العديد الكبير من مواطني العراق نعرف بالتأكيد أنّ الأغلبيّة السّاحقة من أبناء هذا العراق، من شيعة وأكراد ومن كثير من أبناء السنّة وسائر قطاعات ساكنة العراق يحمدون الله صبوحًا وغبوقًا على خلعه وقلعه من بلاد الرّافدين.

كان الأولى به، وهو الّذي يقرض الشّعر كما ذكرت الأنباء، أن يستمرّ في كتابة أشعاره الرّكيكة، ولتتلقّفها صحفُ العربان الكثيرة كما تتلقّف سائر الرّكاكات الشّعبويّة. كما كان الأولى بالحاكمين الجدد في العراق أن يتركوه يقضي ما تبقّى من عمر وراء القضبان أو منفيًّا إلى مكان بعيد ليشاهد بأمّ عينيه كيف يُبنى العراق الجديد. غير أنّ الأمور في هذا العراق، مثلما هي في سائر أصقاع العربان، ليست بهذه البساطة. إذ يتّضح مرّة بعد أخرى أنّ الطّبع المَدَريّ في هذه الأصقاع يغلب التّطبّع الحَضَري. يتّضحُ مرّة بعد أخرى أنّ طبع الثّأر والانتقام متجذّر في هذه الأمّة منذ قديم الزّمان.

فالقتل والسّحل هما السمتان المميّزتان لهذه البقعة من الأرض. هكذا كان وهكذا يكون إلى يوم يبعثون. فمؤيّدو السفّاح سفّاحون بالفعل وبالقوّة، ومعارضو السفّاح سفّاحون بالفعل وبالقوّة. هذه هي الحقيقة المرّة. إنّه مرض مزمنٌ عضالٌ آن الأوان لتدبُّر أمر معالجته بتؤدة وبرويّة. لنقرأ معًا ما رواه الطّبري في تاريخه عن مقتل الخليفة عثمان: "وأمّا عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمقٌ، فطعنه تسع طعنات. قال عمرو: فأمّا ثلاث منهنّ فإنّي طعنتهنّ إيّاه للّه، وأمّا ستّ فإنّي طعنتهنّ إيّاه لما كان في صدري عليه". ولنقرأ معًا أيضًا ما رواه لنا إبن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح عن مقتل عثمان: "وبقي عثمان ثلاثة أيّام دون أن يُدفن حتّى كاد أن يتغيّر". وكان ملقيًّا في دمنة حتّى نهشت الكلاب قدمه. كذلك ها هي أخبار المجزرة الّتي نفّذها بنو العبّاس بتسعين رجلاً من بني أميّة، كما رواها ابن الأثير في تاريخه: "فأمر بهم ...فضُربوا بالعمد حتى قُتلوا وبسطَ عليهم الأنطاعَ فأكلَ الطعامَ عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتّى ماتوا جميعًا". إذن، وكما نرى فإنّ هذه هي ثقافة الثّأر والانتقام الّتي يعجّ بها التّاريخ العربي. لم يتغيّر منها شيء في هذه الأصقاع منذ أن ظهرت هذه الأمّة على صفحة التّاريخ.

***
وبشأن العنصريّة العربيّة، فإنّ السفّاح التّكريتي ذاته كرّر مرّة أخرى، مثلما نهج في الماضي البعيد والقريب على استخدام الألفاظ العنصريّة العربيّة باستخدامه مصطلحات "الفرس" و"المجوس" و"الصّفويين" الّتي ترعرع عليها كلّ دعاة القومويّة العروبيّة منذ القدم. لا زال هؤلاء يتذكّرون كيف أطلق هذا السفّاح أسماء مثل "القادسيّة"، و"ذي قار" وغيرها على حروبه الدّمويّة محاولاً بذلك دغدغة عواطف العربان العنصريّة المتأصّلة فيهم. لقد ذهب الآن إلى غير رجعة، غير أنّ ثقافة السفّاحين لا زالت تعيث فسادًا وتجلب دمارًا على أبناء هذه الأمّة الّتي لا تريد النّظر إلى نفسها في المرآة. لا أحد من هذه الأمّة يتظاهر ضدّ إبادة الزّرع والضّرع في دارفور مثلاً، ولا أحد يتظاهر ضدّ الأنظمة القامعة للبشر في بلاده. لا أحد يتظاهر في بلاد العرب ضد العنصريّة العروبيّة الإسلاميّة المتفشّية ضدّ سائر البشر من إثنيّات وطوائف أخرى، كالأكراد والأقباط والبربر وغيرهم. ولا أحد يرفع صوته من أجل قضيّة أخلاقيّة أيًّا كانت في هذه الأصقاع. هذه هي حقائقنا المريرة نحن العرب، ولا مناص من وضع النّقاط على هذه الحروف إذا ما نشدنا الولوج في طريق التّغيير. لقد حوّل العرب أنفسهم بأنفسهم أضحوكة على شاشات العالم. والحقيقة الأكثر مرارة هي أنّّه يتّضحُ مرّة بعد أخرى أنّ المشكلة لا تكمن في زعامات هذه الأمّة فحسب، إنّما المشكلة كامنة في جوهر ثقافة هذه الأمّة الجاهليّة.

***
لم ولن ندافع عن سياسة الإدارة الأميركيّة الغبيّة في العراق أو في أماكن أخرى من هذه المنطقة، غير أنّ اتّهام أميركا، أو دول الغرب على العموم، بأنّها سبب هذه الأمراض العربيّة هي أسهل الطّرق للهرب من مواجهة الحقيقة. والحقيقة مرّة، فالّذين خرجوا بالطّبول والزّمور مهلّلين للإعدام هم من العرب العراقيين، والّذين حاكموه هم من العرب العراقيّين، والّذين نفّذوا الحكم هم من العرب العراقيّين. إنّ اتّهام الآخرين هو أسهل الطّرق لعدم رؤية الحقائق على أرض الواقع. كلّ شعارات اتّهام الآخرين بأمراض العرب لم تعد تنطلي على أحد. فتفيد الأنباء أنّ القوّات الأميركيّة كانت ترغب في تأجيل الإعدام، غير أنّ الّذين أصرّوا على تنفيذ الحكم يوم النّحر هم الحكّام العرب العراقيّون الجدد. صحيح أنّ هؤلاء الحكّام هم حكّام جدد غير أنّ العقليّة الّتي تتحكّم فيهم هي ذات العقليّة الثّأريّة القديمة.

بدل الإعدام، كان بالإمكان إرساله إلى سجن مؤبّد في منفى بعيد. ولكونه يقرض الشّعر الرّكيك، مثلما قرأنا من إبداعاته المنشورة في الصّحافة العربيّة، فقد كان بالإمكان نفيه وتعيينه محرّرًا أو مراسلاً ثقافيًّا لجريدة عربيّة في الصّومال على سبيل المثال، أو في ما شابهها من صحافة العربان الرّكيكة.

***
أمّا كلّ أولئك المتباكين على اختفاء السفّاح، من إسلامويّين وقومويّين وأشباهههم، متذرّعين بمبادئ حقوق الإنسان وحرمة المحاكم، فهم آخر من يجب الإصغاء إليهم. فكلّ هؤلاء لم يرفعوا في يوم من الأيّام أصواتهم ضدّ الجرائم الّتي ارتكبها هذا السفّاح التّكريتي بحقّ أهل العراق على جميع مللهم ونحلهم، مثلما لم يرفعوا في يوم الأيّام أصواتهم في بلدانهم هم ضدّ الجرائم الّتي تنفّذهاحكوماتهم بحقّ مواطنيهم. إنّ هؤلاء المتباكين الآن هم آخر من يحقّ له الكلام بهذه القضايا الأخلاقيّة، لأنّهم كانوا دائمًا في موقع النّقيض من الأخلاق.

أمّا وقد حلّ علينا عام جديد الآن، فكلّنا أمل في أن تستفيق الأجيال العربيّة النّاشئة من سباتها الأخلاقي، وتبدأ بالنّظر إلى نفسها في المرآة، ليس بغية الخروج بتقليعات وتسريحات جديدة. إنّما بالنّظر في المرآة الأخلاقيّة بغية إصلاح هذا التّشويش الأخلاقي المتفشّي في كلّ مكان.

وأخيرًا، كلّ عام وأنتم بخير!
وللعنصريّين من العرب نقول بالفارسيّة أيضًا: "سال نو مبارگ".
*
نشرت في: إيلاف، 5 يناير 2007
______
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!