راحت القدس


من الأرشيف (1998)


والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة

أبو الهول في خطر



ليس من السّهل الوقوف علنًا ضدّ هذه الثقافة وضدّ هذه التيّارات الجارفة، ولكنّي أرى أنّ هذا الوقوف ضدّ التيّار العنيف هو ما ينفع النّاس ويمكث في الأرض في نهاية المطاف.


سلمان مصالحة || أبو الهول في خطر

أوّلاً: ممّا لا شكّ فيه

أنّ الدولة العربية الكبرى التي درج أهلها على تسميتها بـ”أمّ الدنيا“ تمرّ الآن في مرحلة حرجة. فمن جهة يشهد هذا البلد العربي الكبير مخاضًا فريدًا من نوعه، ويمرّ بتجربة فريدة لم يشهد مثيلاً لها في تاريخه منذ أزمان طويلة طويلة.

في البداية، ورغم المشاكل العويصة العالقة التي يواجهها هذا البلد منذ عقود طويلة، لا يسعنا إلاّ أنّ نُحيّي أهل هذا البلد على سير العملية لانتخابية. في الحقيقة تفجّرت الانتفاضة المصرية ضدّ طبيعة الحكم التي سادت في هذا البلد منذ انقلاب يوليو 1952، الذي سُمّي خطأ ثورة. فلقد بدأ ذلك الانقلاب عهدًا جديدًا، ولكنّه كان على غرار الملكية السالفة، متمثّلاً في تأبيد الرئيس الواحد الأحد على هرم السلطة دون أيّ إمكانية للاختيار بين عدّة مرشّحين. وهكذا شكّل ذلك الانقلاب ”أسوة سيئة“ لسائر الأقطار العربيّة، الـ ”ميد إن سايكس-پيكو“.

تجدر الإشارة إلى أنّه ورغم الشعارات الثورية والاشتراكية والعروبية التي دغدغت العواطف وجيّشتها جاعلة منها طوال عقود طويلة كواتم عقول على رؤوس الأجيال العربية، وهي ذات الشعارات التي تسيّدت المشهد السياسي المصري منذ يوليو 52 ذاك، فإنّ المصريّين هؤلاء لم يذوقوا في الواقع حياة ديمقراطية حقيقية في يوم من الأيّام.

والآن، وبعد طول انتظار
ليس فقط أنّهم هبّوا وأجبروا الرئيس على الرّحيل، بل وصلوا إلى وضع ينتخبون فيه مرشّحًا للرئاسة من بين عدد لا بأس به من المرشّحين. بل، وأكثر من ذلك، فها هم يُقدّمون الرئيس السابق إلى محاكمة.

مهما قيل ويُقال عن هذه المحاكمة، فهي على الأقلّ تُحسب لصالح النّظام القضائي المصري، وللمصريّين على العموم. صحيح أنّ محاكمة من هذا الحجم ومن هذا النّوع لا يمكن أن تكتمل بهذه السرعة، إذ أنّ محاكمات من هذا النّوع، لو أريد لها أن تتأسّس على الأصول القضائية التي من المفروض أن تكون في جوهر العدل، فإنّّها ستستغرق أعوامًا. إذ، هنالك حاجة إلى عرض كلّ شيء على هيئة القضاة، بإرفاق الشهادات والبيّنات جميعها. وهذا لا يمكن أن يُستكمل خلال شهور معدودة.

على أيّ حال،
لا أستطيع أن أفهم كلّ هؤلاء الدّاعين إلى تنفيذ حكم الإعدام. وحول هذه المسألة يجب التمييز بين الدعوات الشعبية بهذا الخصوص، وبين الدعوات التي تأتي من صنف بعض الكتّاب العرب. إذ أنّ الثورة الحقيقيّة في نظري هي التي تحاول أن تضع حدًّا لثقافة الإعدامات أصلاً. لأنّ من ينشد الوصول إلى حالة مدنيّة متقدّمة، وإلى دولة مدنيّة معاصرة، يجب أن يقطع الحبل الذي يصله بثقافة عنيفة من هذا النّوع، الذي يشكّل الإعدام في الساحات العامّة أكبر مثال عليها.

ليس من السّهل الوقوف علنًا ضدّ هذه الثقافة وضدّ هذه التيّارات الجارفة، ولكنّي أرى أنّ هذا الوقوف ضدّ التيّار العنيف هو ما ينفع النّاس ويمكث في الأرض في نهاية المطاف.

مصر أدرى بشعبها وبشعابها
وعلى الرّغم ما قد يُقال عن طبيعة النّظام المصري الآفل، غير أنّه وبالمقارنة مع سائر الأنظمة العربية فقد كان يشتمل على هامش من الحرية التي تفتقر لها سائر الأنظمة العربية، باستثناء النّظام اللبناني الذي انبنى أصلاً على مقياس مسطرة طائفيّة ويعمل بموجب توازنات طائفيّة متجذّرة فيه منذ تأسيسه.

ولأنّ مصر أدرى بشعبها وشعابها، فقد أفرزت الانتخابات الرئاسية مرشّحين للانتخابات المعادة. وهكذا وجدت أهل مصر أنفسهم الآن على مفترق طرق. لا أدري كيف سيتعامل المصريّون مع هذه الحال الآن. ولكن، لا بدّ من الإشارة في هذا المأزق إلى ما قد يأتي به المستقبل من مخاطر على هذا الشعب.

أبو الهول في خطر:
في ثمانينيات القرن المنصرم زرت مصر مرّتين للسياحة وللتعرّف على أجوائها. لقد جلت في القاهرة وزرت الاقصر وأسوان وغير مكان في أرض الكنانة، ولا زلت للآن أتذكّر طيبة قلب المصريّين رغم شظف العيش ورغم الحياة الصعبة والرّكض وراء لقمة العيش.

وبهذا الصدد، ما من شكّ في أنّ المصريّين يعرفون أنّ نسبة عالية من الاقتصاد الوطني المصري تعود إلى السياحة العالمية في هذا البلد الغنيّ بالآثار والحضارة الفرعونية القديمة، القبطية ثمّ الإسلامية وصولاً إلى يومنا هذا. فالسياحة هي مرفق هام في تأمين لقمة العيش.

ولمّا كانت هذه هي الحال المصريّة، فإنّ سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة ستشكّل خطرًا داهمًا على هذا المرفق المركزي في الاقتصاد المصري. إذ يعلم الجميع أنّ السياحة تزدهر في الدول المستقرّة، وفي الدول المستقرّة والمنفتحة على العالم الواسع، والتي تحافظ على حريّات الأفراد في المعتقد، وفي الملبس والمشرب وكلّ ما تحمله الحريّة الفرديّة ضمن القوانين المدنية من المعاني النبيلة.

إنّ استحواذ الإخوان المسلمين على مصر سيعيدون مصر قرونًا للوراء. ستتقلّص المعونات الخارجية وستُغلق أبواب السياحة العالمية في هذا البلد العريق، وسيزيدون مصر فقرًا على فقر.

بل وأبعد من ذلك،
إنّ السؤال الذي يعلو في ذهني في هذا الأوان هو: هل ستشهد مصر حالة طالبانية؟ وبكلمات أخرى، هل سنشهد في المستقبل المنظور، فيما لو استحوذ هؤلاء الإسلاميّون على مقاليد السلطة، بروز تيّارات سلفيّة طالبانيّة تبدأ بتفجير ”أبي الهول“، أو المعابد الفرعونيّة والآثار بما تشتمل عليه من تماثيل، على غرار ما فعلته حركة الطالبان مع تمثال بوذا في باميان؟ فتماثيل الآلهة المصرية القديمة لا تختلف بنظر هؤلاء السلفيّين عن تمثال بوذا، فكلّ هذه التماثيل - الأصنام - في الكراهية السلفيّة، وليس في الهوى، سوا.

هذا هو مفترق الطرق الذي تقف فيه حائرة مصر الآن. أليس كذلك؟
*
نشر في: إيلاف، 9 يونيو 2012
---

رحلة البحث عن البعبع

مهما يكن من أمر، وبعد أن تقدّمت بي السنّ لم أعد أقبل سماع كلام عربيّ دون أن أفهم معناه ومغزاه. هكذا أُصرّ على من يتكلّم إليّ باللّسان العربيّ أن يكون دقيقًا في استخدام المفردات والتعابير...

سلمان مصالحة ||

رحلة البحث عن البعبع


من أين أبدأ الكلام في هذه الرسالة؟
ألاحظ في الكثير من الأحايين شيوع ظاهرة فريدة في الكتابات العربية لها علاقة بتعامل أهل الكتابة مع هذه اللغة التي نحاول جاهدين في هذا الخضمّ العولمي الحفاظ عليها من الذوبان والاندثار. كأنّما فقدت ألفاظ هذه اللغة المعاني الكامنة فيها وأضحت صورًا مجرّدة من الدلالات يتمّ التلاعب بها كما لو كانت قطعًا من فسيفساء يتمّ جمعها وترتيبها دونما نسق ودونما غاية. لقد تحوّلت الكتابة إلى نوع من الترف العربي وإلى نوع من التسالي الغاية منها إضاعة الوقت، ليس إلاّ.

وفي الكثير من الأحيان، نلاحظ أيضًا أنّ الكثير من أهل الكتابة العربية يستخدمون تعابير وكلمات لا يفهمون معانيها. ما إن يقع بصرهم على مفردة، وما إن يعثروا على كلمة ملقية على قارعة الطريق، يُسرعون إلى تلقّفها لينقلوها على عواهنها وكيفما اتّفق، دون أن يكلّفوا أنفسهم محاولة تقصّي الدلالة العميقة للمصطلح أو المفردة. كذا هي الحال في اللغة الشعبية، وكذا هي الحال في اللغة الفصحى على ألفاظها الطريفة والمُتلدة.

في بلاد الشام
شاعت في الماضي، ولا زالت شائعة إلى يومنا هذا، أغنية شعبية بعنوان ”عَ الروزنا“، وفي الكثير من الأحيان كنتُ أسال من يُغنّي هذه الأغنية: ماذا تعني بالروزنا؟ فينظر إليّ مُستغربًا، غير أنّه لا يحيرُ جوابًا في نهاية المطاف. كان الأمر يستثيرني فأفكّر بيني وبين نفسي: كيف ذا يغنّي العربيّ ويطرب لغناء لا يعرف معاني كلماته؟ كيف ذا لا يُكلّف نفسه في البحث عن معاني ما يقول وما يغنّي؟ أليس من المفروض أن يفهم العربي ما ينشد أو ما يُغنّى؟ إنّها حال عربية غريبة عجيبة.

وكما ذكرت، فهذه الظاهرة لا تقتصر على اللغة الشعبية بل تتعدّاها إلى اللغة العربية المعيارية المعاصرة. تأخذ هذه الظاهرة في التفاقم لعدم وجود قواميس ضابطة للمفردات وللمعاني المستحدثة، وخاصة لتسارع المعارف والمستجدّات على جميع الأصعدة. وهكذا يُضحي تعامل الأفراد مع ما يُنشر باللغة العربية ضربًا من التخمين، وتصبح العودة إلى اللغات الأجنبية التي يُترجَم منها للعربية فرضًا لمعرفة ما يرمي إليه النصّ المنشور بالعربية. لقد كنت أشرت في الماضي إلى هذه الظاهرة، وأعطيت مثالاً على ذلك باستخدام التعبير العربي ”مقاربة“ الشائع في الكتابة العربية المعاصرة. إذ قد أضحى كلّ شيء عند العرب مقاربة، فإنّك تكاد تعثر عليه أنّى رحلت وحيثما حللت. لقد كنت قد سألت قبل سنوات قليلة بعض طلبة الجامعات العرب عن هذه الـ”مقاربة“، فلم يحيروا جوابًا. غير أنّهم حينما يكتبون رسالة فإنّهم يستخدمون هذه الكلمة التي لا يفهمون معناها أصلاً. أليست هذه حالًا غريبة عجيبة؟

وعلى كلّ حال، تندرج هذه الظاهرة، على ما يبدو، في خانة النّقل التي تترعرع عليها الأجيال العربية دون فحص ومحص ما ينقلون كابرًا عن كابر. وهكذا نصل بعونها تعالت إلى الكلام عن البعبع العربي.

فأيّ شيء أنت، أيّها البعبع؟
عندما كنّا أطفالاً صغارًا، كانت الأمّهات يجنحن إلى إخافتنا لثنينا عن عمل أو سلوك ما، بمقولات مثل: ”بيجيلك البعبع“، أو ”بيوكلك البعبع“، وما إلى ذلك من كلام. لم نكن نفهم ما يُقال سوى أنّ هنالك شيئًا ما اسمه ”بعبع“ وهو ربّما كان حيوانًا مخيفًا أو شيطانًا مرعبًا وما إلى ذلك من دلالات غايتها أن نخاف وأن نرتدع عن القيام بسلوك أو تصرّف ما.

مهما يكن من أمر، وبعد أن تقدّمت بي السنّ لم أعد أقبل سماع كلام عربيّ دون أن أفهم معناه ومغزاه. هكذا أُصرّ على من يتكلّم إليّ باللّسان العربيّ أن يكون دقيقًا في استخدام المفردات والتعابير لأنّها الحاوية للمعاني والمدركات التي يُراد فهمها، حفظها والتعامل معها. بل وأكثر من ذلك، لأنّ المعاني إذا ما أريد لها أن تصل إلى الآخر فيجب أن تكون واضحة ودقيقة ولا يدخلها الالتباس بأيّ حال.

وهكذا تحوّل ذلك الـ“بعبع“ الّذي اختفى وتلاشى مع تلاشي أيّام الطفولة إلى غير رجعة إلاّ في بُره الذكريات، فأضحى الآن بعبعًا جديدًا يقضّ عليّ مضجعي. وهكذا وجدت نفسي أتعقّب أثر هذا المصطلح قائفًا خطى من سبقني من السلف إلى الذعر منه.
والآن أستطيع أن أركن إلى بعض الطمأنينة، إذ أنّي وبعد سهر الليالي الطوال وذلك البعبع لم يبرح البال، فقد وجدت أنّ المسألة قد أقضّت مضاجع آخرين من قبل، وها أنذا أسير على خطاهم بعد قرن من الزّمان باحثًا عن سرّ ذلك الـ”بعبع“.

فها هو العام 1911، أي قبل قرن بالتمام والكمال، وها أنذا أقتبس لكم ممّا أقرأ:

”إذا هبطت ديار الشام، وبالخصوص إذا نزلت لبنان وتجوّلت في ربوعه وزرت بيوت أهاليه، ثمّ تنصّتَّ لما تقوله الأمهات لأولادهن عند إسكاتهنّ لهم أو تخويفهنّ إيّاهم تسمعهن يقلن: بعبع، بعبع، اسكت جاء البعبع (بضمّ الباء وإسكان العين). فإذا سمع الوليد هذا الصوت خاف وسكت. وإذا سألتَ الأم ما معنى البُعبع. وماذا تريدين بهذا اللّفظ؟ تلجلجت وما استطاعت أن تفيدك شيئًا يروي غليلك. على أنّي سألت كثيرين من الأدباء أن يُطلعوني على معنى هذا الحرف، فقال قوم منهم: هذه كلمة تخويف ليس إلاّ. وقال فريق: يُراد بذلك حيوان مجهول الأوصاف، إلاّ أنّه من الوحوش الضّارية. وقالت جماعة: بل البُعبع كلمة لا يُراد بها سوى إسماع الطفل لفظًا غريبًا على الآذان ليخاف ويسكت.

ثم إنّي ما زلت أبحث عن هذه اللّفظة لأعرف أصلها ومأتاها فلم أقف على ما فيها من غامض السرّ إلاّ في هذه الأيّام. وهذا أيضًا من باب التخرّص لا من باب التأكيد. أمّا الواسطة التي اتّخذتها للبلوغ إلى غايتي فكانت مقابلة ألفاظ أهل البلاد بعضها ببعض وبما ينظقون في مثل هذه الأحوال.

فإنّ أهل الموصل يقولون: ”جت الدامي“، أي جاءت الدامي، ومرادهم بالدامي أو الدامية السعلاة أو شبهها، وطعامها دم ابن آدم، تعضّه من موطن من جسده ثمّ تشرب دمه... أهل العراق يعرفون أيضًا الدامي ويعنون بها أنثى الغول.... والمسلمون في بغداد يقولون لولدانهم: ”جاك الواوي“،أي جاءك ابن آوى... ”جاك السبعطلان“، أي جاءك السبتلان (وهو عامل السلال من نصارى النساطرة، يأتي إلى بغداد من كردستان في أيّام الشتاء ليكسب دريهمات من عمل السلال ويرجع بها إلى وطنه في أواخر الربيع....

وأمّا قبل أربعين سنة فكنتُ أسمع الوالدات يقلن لأولادهن: بَعبع، بَعبع (بفتح الباء وإسكان العين) جاء البَعْبع. ومنهن كنّ يقلن: وعوع، وعوع، جاء الوعوع، أو وعواع، وعواع، جاء الوعواع، هو ابن الواوي.... فمن هذا ترى أنّ البعبع الشامي (أو اللبناني، ويقال بضمّ الباء وإسكان العين) ما هو إلاّ وعوع العراق أو وعواعه لا غير (ويقال بفتح الواو والباء وإسكان العين).... وأمّا ضمّ المفتوح عند أهل الشام ولبنان فهذا غالب في أهل القرى. وربّما ضمّوا المكسور أيضًا فيقولون مثلاً المشمش (بضمّ الميمين) وهما مكسوران على الحقيقة...“ (عن: مجلة ”لغة العرب“، ج 5، بغداد 1911، ص 170-173)

ليس هذا فحسب، بل وبعد
شهور طويلة على نشر هذا التقصّي في مجلة ”لغة العرب“ تصل رسالة إلى هيئة التحرير من إغناز غولدزيهر، أحد شيوخ المستشرقين في تلك الأيّام، محاولاً هو الآخر الإدلاء بدلوه الاستشراقي في هذه المسألة.

وهكذا نقرأ في العام 1912 من ذات المجلّة: ”كتب إلينا العلامة الأستاذ إغناز غولدزيهر في بودابشت كتابًا دلّ على طيب عنصره وكرم أخلاقه ومن جملة ما ذكره تعقيبٌ له على مقالة البعبع. قال حرسه الله بحرفه العربيّ ونصّه البدويّ: ”أستأذن حضرتكم في أن أستخرج من حافظتي لأُعقّب على ما في مجلّتكم في الصفحة 170 وما يليها بصدد كلامكم عن البعبع وعمّا يستعمله العوامّ من ألفاظ زجر الصبيان وتخويف الأولاد الصغار، فأقول: في الزمان الذي كنت فيه مصر (سنة 1874) سمعت من بعض العوام عبارات يُخوّفون بها أولادهم بقولهم ”اسكت لحسن“ (= الأحسن بمعنى لئلاّ) أحط لك في عينك (يعني الششمة)، ”اسكت لحسن أحط لك في بقك الفلفل، اسكت لحسن أجيب لك شي الحارة، اسكت لحسن السماوي (من السمّ) ييجي ياخذك“. ثمّ إنّ التخويف بالبعبع مذكور أيضًا في كتاب ”هزّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف (طبع حجر الاسكندرية 1289) ص 147، وهاكم عبارته: “وإذا أرادت أمّه تخوّفه وتسكته عن الصياح تقول له: اسكت لا ياكلك البعبع بكسر الموحّدتين ورفعهما وجزم العينين المهملتين. والبعبع مشتقّ من البعبعة وهي صوت الجمل“. (عن: مجلة ”لغة العرب“، ج 11، 1912، ص 439-440).

وهكذا، وبعد مرور الشهور والأيّام،
أستطيع أن أركن إلى طمأنينة. فها أنذا تعقّبت أثر البعبع الذي التقيت به صغيرًا وحيّرني كبيرًا. فما بين البعبع والوعوع وما شابههما قادتني طريق المساءلة إلى أناس آلوا على أنفسهم ألاّ يركنوا إلى حال النّقل، بل طفقوا يبحثون عن الأصل وما يشوبه من ملابسات. مهما يكن من أمر، أكان الـ”بعبع“ كالمشمش - مضموم الميم أم مفتوحها - فإنّه يضمّ كربًا ويفتح جراحًا لم تندمل بعد. فلا زالت البعابع والوعاوع تسرح وتمرح في ديارنا.

ولكن، ورغم ذلك، قد يفتح هذا الكلام الطريق أمام القارئ إلى أن يلقي حبل الاستطلاع على غاربه فينحو منحى التقصّي والبحث عن الحقيقة المستترة فيما يحمل من كلام. إذ أنّ الكلام في نهاية المطاف هو الإنسان في كلّ عصر وزمان.
*


نشرت في: ”إيلاف“ - 5 يونيو 2012

----

عبد القادر الجـنابي || أدونيس يرقع لبشار الأسد


عبد القادر الجـنابي
|| أدونيس يرقع لبشار الأسد

لا أريد أن ابدو وكأني طائفي، فأنا معروف بكرهي الشديد لأي تحزب مذهبي، وكثيرا ما صرحتُ: طز بكل الهُويات الطائفية وأولها هُوية طائفتي. لكن لا أستطيع أن أرى أدونيس انسانا حرا قادرا على التكلم خارج انتمائه الطائفي. فبدلا من أن يدين نظام بشار الأسد على ارتكابه مذبحة الحولة، ها هو يفتح فمه فتخرج منه كل العبارات، البهلوانية والسامة، لتبرير موالاته لنظام الأسد مذهبيا وايديولوجيا.. فمن الملاحظ انه كلما يشتد الضغط الدولي على نظام بشار الأسد، يطلع علينا ادونيس بتخريجة مبطنة!!

يقول ادونيس في العدد الذي صدر اليوم من مجلة "أسيا افريقيا": "من يراقب السياسة الحالية لفرنسا ازاء العالم العربي يلاحظ انها تخون مبادىء الثورة الفرنسية.... بدلا من العمل على دعم التيارات المدنية والديموقراطية والمتعددة القادرة على ارساء اسس ثورة شاملة من شأنها اخراج المجتمعات العربية من تخلف القرون الوسطى الى الحداثة، فان فرنسا وعلى العكس من ذلك تدعم كل الحركات الاصولية الرجعية وتتعاون باسم حقوق الانسان مع الانظمة الاصولية الرجعية... اذا كان الدافع لذلك هو الدفاع عن حقوق الانسان فان الفرص لاثبات ذلك ليست قليلة خصوصا في فلسطين والسودان والعربية السعودية ومجمل دول الخليج، التي لا يوجد حتى دستور لدى بعضها.... لا احد يستطيع الدفاع عن اي نظام عربي كان. لكن لا ينبغي ايضا اصلاح الشر الذي تمثله هذه الانظمة بشر اخر.... هذا تماما ما تفعله فرنسا واوروبا اليوم". كلام تتلثم به طبيعة أدونيس الطائفية... إنه ترداد ببغائي لما جاء في خطب بشار الأسد! كان يمكن ان اتفق معه لو كان مرفقا بنقد لا لف فيه ولا دوران، لنظام بشار الأسد... ومع هذا: لنفترض أن اوروبا دافعت، او تدافع كما يقول ادونيس، عن انظمة شريرة، فليس معنى هذا ان يسكت ادونيس عن جرائم نظام شرير كنظام بشر الاسد.

السؤال هو: منذ متى كان ادونيس يدافع عن الحريات المدنية والعَلمانية وحقوق الإنسان؟ فتاريخه سجل أسود من المواقف الانتهازية يندى لها الجبين، حد البكاء أمام السلفيين المصريين والادلاء بالشهادتين، مع انه لا يؤمن بهما:

- ألم يكتب تقريضا لثورة الخميني يعد فيها الغرب بالموت المؤكد؟

- ألم يكتب مقدمة لمختارات اعدتها زوجته خالدة سعيد لكتابات محمد بن عبدالوهاب، يدافع فيها عن موقف الشيخ الوهابي المضاد للمرأة

- ألم يأخذ جائزة عدو القصيدة الحديثة، أي القصيدة المدنية العلمانية، جائزة باشراحيل المخجلة!

- ألم يكتب في أول التسعينات بأن الخليج هو مركز الثقافة العربية اليوم....

- ألم تكن أول المنتفعين من كرم دولة الإمارات هذه التي تقول عنها إنها "لا يوجد حتى دستور لديها"...

وألم وألم والم وألم.....

كان الأجدر بادونيس أن يعمل، كما يعمل بعض العلويين الاحرار، على تحسين سمعة الطائفة العلوية، بإدانة، على نحو واضح وعلني جرائم نظام عائلة الأسد العلوية... كان الأجدر به أن يكشف عن شعور إنساني صغير، يمتلكة أصغر شاعر، إزاء اربيعين طفلا قتلتهم شبيحة النظام...

إن ما تفعله فرنسا وأوروبا هو ليس أكثر من باب التضامن الإنساني مع بشر بسطاء يقتلون بأبشع الطرق... فلا فرنسا ولا اوروبا في نيتها "اصلاح الشر الذي تمثله هذه الانظمة العربية بشر آخر".. وهل هناك شر أفظع من شر نظام عائلة الأسد العلوية التي ينتمي اليها روحيا وسياسيا وأخلاقيا هذا الشاعر العجوز ادونيس!

لم يعد لنظام الأسد الطائفي شبيحة تعمل على الأرض فقط، بل أيضا اصبح له شبيحة اخطر هي شبيحة الشعراء الذين لم يعد لهم لا ضمير، ولا أخلاق ولا يحزنون!
*
عن: أيلاف
---
إقرأ أيضًا: سلمان مصالحة | تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته

دولة مدنية رائدة ذات عدالة سائدة



لا يمكن دسّ الرأس في الرمال، والتغاضي عن هذه الحقائق التي تشكّل أرضيّة اجتماعية، ثقافية وسياسية تنبني عليها الأجيال العربية منذ القدم.


سلمان مصالحة

دولة مدنية رائدة ذات عدالة سائدة


ها هي مجزرة جديدة
تنضاف إلى سجلّ هذه المافيا البعثية التي أطلقت منذ أكثر من عام العنان لجيشها الفئوي للمضيّ في جرائم ترويع وتركيع أبناء الشعب السّوري الذي انتفض على الظلم والاستبداد. لقد كشفت هذه المافيا اللئيمة، ومنذ أكثر من عام، حقيقتها على الملأ. لقد كشفت هذه المافيا حقيقتها على لسان من يقف على رأسها حينما صرّح لوسائل الإعلام الغربية، مع بداية هبّة السوريين ضدّ نظامه، أنّ سورية غير تونس وسورية غير مصر.

بالطبع سورية غير تونس وغير مصر. إذ أنّ سورية أكثر شبهًا بالعراق من أي صقع عربي آخر. ومثلما حصل في العراق الذي عانى الأمرّين من حكم البعث القبلي التكريتي، فها هي سورية تعاني الأمرين من حكم البعث القبلي القرداحي. لقد شكّلت هذه الأيديولوجية البعثية ذات الشعارات العروبية الكاذبة أرضيّة للاستحواذ القبلي على مقاليد السلطة وعلى مقدرات البلاد وأدمنت القتل واستعباد العباد.

هذه الأيديولوجية الكاذبة
لم تخلق شعبًا لا في العراق ولا في سورية. ليس فقط أنّ القبليّة التي انبنت عليها قد فتّتت في الواقع المجتمعات العربيّة، بل وأكثر من ذلك ففي كلّ من البلدين اتّسمت هذه الأيديولوجيّة البعثيّة الكاذبة بعنصريّة عربيّة تجاه الأكراد الذين يعيشون في هذه الأوطان. ومن هذا المنطلق، وبسبب هذه التركيبة الطائفيّة والإثنيّة لهذه المجتمعات في هذين البلدين، على سبيل المثال فقط، فإنّ الحديث عن ”شعب عراقي“ أو ”شعب سوري“ هو ضرب من الأوهام التي لم تستند في يوم الأيّام إلى أيّ أساس في الواقع، وسرعان ما تنكشف على الملأ كلّ هذه العورات المجتمعية في هذه الأقطار.

لا بدّ من التأكيد على أنّ البلاد التي تتشكّل من إثنيّات وطوائف وملل ونحل، فقط دولة المواطنة الواحدة التي تخترق الحدود الطائفيّة والإثنية هي التي تصنع شعبًا. وبكلمات أخرى، فقط الدولة التي تفصل الدين والطائفة عن الدولة هي تلك التي تصنع شعب المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات. أمّا بغير هذا المبدأ فإنّ الدولة تبقى دومًا معرّضة للاستبداد الإثني والطائفي، فمرّة يأتي الاستبداد السلطوي من هذه الطائفة أو هذه القبيلة ومرّة يأتي من طائفة أخرى أو قبيلة أخرى.

الدولة في المفهوم العربي:
هنالك حاجة إلى فهم دلالة المصطلح ”دولة“ العربي لكي نفهم عمق هذه الإشكالية المدنية العربية. فالـ”دولة“ في الذهنيّة العربية هي ظهور قبيلة على أخرى في السيطرة على الأرض، على الحجر والشجر والبشر. كذا هي ”دولة بني العبّاس“ أو ”دولة بني أميّة“. أي أنّ ما يختفي وراء المصطلح ”بني الـ...“، أي الانتماء البيولوجي القبلي، هو الأساس في مفهوم الدولة في الذهنيّة العربيّة، ومنذ قديم الزمان. فمرّة تدول، أي تدور الدائرة، لهذه القبيلة ومرّة تدول فتنتقل لقبيلة أخرى.

لا يمكن دسّ الرأس في الرمال، والتغاضي عن هذه الحقائق التي تشكّل أرضيّة اجتماعية، ثقافية وسياسية تنبني عليها الأجيال العربية منذ القدم. إنّ هذه الذهنيّات هي ولّدت في الماضي العربي المنصرم وهي التي تولّد الاستبداد في الحاضر العربي المعاصر. والحقيقة التي يجب أن تُقال علانية هي إنّه ما لم يتمّ التعامل مع هذا الإرث الاستبدادي فلن يستطيع هذا المشرق العربي أن يرى أو أن يحلم ببصيص من أمل لمستقبل آخر يختلف عمّا مضى.

ولو نظرنا إلى ما حصل
في العراق، على سبيل المثال، فإنّنا لا شكّ راؤون كيف دالت الدولة من طائفيّة وقبليّة واحدة إلى طائفيّة جديدة لا تختلف كثيرًا عمّا سلف إلاّ شكليًّا. لهذا السبب لا زال العراق يتخبّط منذ أن أُطيح بسفّاح العراق التكريتي، وتغلغل التأثير الإيراني فيه مستندًا إلى الفوارق الطائفيّة التي تُعشّش في نسيجه الاجتماعي.

وكذا هي الحال مع المافيا القبلية التي استحوذت منذ عقود على سورية. لقد استغلّت هذه المافيا البعثية كلّ تلك الفوارق الطائفيّة والإثنية التي يتشكّل منها النسيج السوري، ليس لبناء دولة مدنية عصرية، بل على العكس من ذلك. لقد استغلّت هذا النسيج الطائفي لتعميقه وترسيخه، وذلك لكي تربط مصائر طوائف وملل ونحل وإثنيّات أخرى بمصير بقاء الاستبداد القبليّ القرداحي دون غيره.

من هذا المنطلق،
إنّ المهمّة الملقاة على عاتق المنتفضين السوريين ضدّ هذا الاستبداد هي قطع الطريق على ما تحاول هذه المافيا البعثية إشاعته وتكريسه في وسائل الإعلام، من تأليب طائفي وتأجيج النعرات الكامنة في هذه المجتمعات.

ربّما قد آن الأوان أن تلتئم المعارضة السوريّة لطرح بديل واضح لهذا النّظام المافيوزي. بوسع هذه المعارضة أن تعلن عن مجلس انتقالي يضمّ عشرين شخصيّة سوريّة معتبرة من جميع طوائف المجتمع السوري. نعم المجتمع السوري مؤلّف من طوائف ومن إثنيّات مختلفة، ويجب أخذ هذه الحقيقة بالحسبان لقطع الطريق على المافيا البعثية.

على المعارضة السوريّة أن تنتخب مجلسًا رئاسيًّا للمرحلة الانتقالية يضمّ شخصيّات علويّة وسنيّة وكرديّة ومسيحية ودرزية وإسماعيلية وغيرها من أطياف المجتمع السوري بأسره. نعم، إنّ مجلسًا بهذه التركيبة هو الوحيد يُخوّل بالحديث باسم الثورة السورية وهو الوحيد الذي يأتمر الجيش السوري بإمرته. فقط بالانضباط الصارم إلى أبعد الحدود يمكن أن تنجو سورية من التفتيت الطائفي الذي ينتظرها.

على المجلس الانتقالي الجديد
ضمانات واضحة لأفراد الجيش السوري الذين لا يزالون يأتمرون بأوامر النظام المافيوزي، أنّهم لن يكونوا عرضة لملاحقات قانونية مستقبلية، بل إنّ العفو الثوري سيشملهم جميعًا، وذلك باستثناء القيادات المافيوزية العليا التي تُعطي الأوامر بتنفيذ المجازر. إذ أنّ هذه القيادات الإجرامية سيتمّ تقديمها لمحاكمات عادلة بحضور ممثّلين حقوقيين من أنحاء العالم.

لقد فقد هذا النّظام القبليّ أيّ مصداقيّة لبقائه. إنّ كلّ هذه المجازر لا يمكن أن تمرّ وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّ ”اللّي فات مات“. لقد أضحى زوال هذا النّظام الإجرامي هدفًا لكلّ من ينشد الحرية في هذا المشرق العربي. نعم، إنّ الأرواح العربية السورية التي زهقها هذا النّظام وشبّيحته وطوال عام مضى، يجب أن تشكّل درسًا لكلّ عربيّ في هذا المشرق. والدّرس هو وأد الذهنية الطائفية والقبلية وما يتشكّل فيها من نعرات وثارات تفسد حياة الإنسان العربي منذ قرون طويلة.

ومثلما يجب فصل الدين
عن الدولة، يجب أيضًا استبدال الشعار الكاذب عن ”الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة“ وترسيخ شعار آخر جديد في الذهنية العربية، وهو ”دولة مدنية رائدة ذات عدالة سائدة“. إذ بدون ترسيخ هذه المفاهيم سيظلّ معنى الـ ”دولة“ ذو جذور النعرات القبلية والطائفية هو سيّد الموقف. فبئس ذلك المعنى وبئس تلك الدولة.

أليس كذلك؟!
*
نشر في: ”إيلاف“، 29 مايو 2012
---

حماس في خدمة إسرائيل


في المستقبل المنظور، ولسنوات طويلة قادمة، سيغرق العالم العربي، كلّ قطر على حدة، في قضاياه الداخلية الملحّة. الأجيال العربيّة الشابّة الخارجة من رحم عولمة المعلومات لن تقبل بعد الآن إغراقها بشعارات رنّانة عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة...

الشبه بين بعض العرب وبعض اليهود

سلمان مصالحة

الشبه بين بعض العرب وبعض اليهود

أبدأ كلامي بنكتة ذات نكهة يهوديّة:
رجل يهودي كان يجلس في مقهى ستارباكس ويقرأ صحيفة عربيّة. تصادف وجود صديق له في ذات المكان، وشاهد هذه الظاهرة الغريبة. شعر الصديق بالحزن فاقترب من الرجل وقال: يا موشيه، هل فقدت صوابك؟ لماذا تقرأ صحيفة عربية؟ أجابه موشيه: كنت معتادًا على قراءة الصحف اليهودية، لكن ماذا وجدت فيها؟ اليهود يُضطهدون، إسرائيل تُهاجَم ويُعتدى عليها، اليهود يختفون بسبب الاندماج والزواج المختلط، اليهود يعيشون بحالة فقر....

لقد شعرت بالكثير من الأسى والاكتئاب بسبب هذه الأخبار في الصحافة اليهودية. ولذلك فقد انتقلت لقراءة الصحف العربية. فماذا أجد الآن في هذه الصحف؟ اليهود يملكون جميع البنوك والمصارف، اليهود يسيطرون على وسائل الإعلام، اليهود أغنياء وأقوياء، اليهود يحكمون العالم، وما شابه ذلك. الأخبار هنا أفضل بكثير، مفرحة جدًّا وتبعث على التفاؤل.

ولماذا أسوق هذا الكلام الآن؟
لست معتادًا على التعقيب على ما يُنشر من تعليقات على المقالات التي أنشرها، وذلك لعدّة أسباب. أوّلاً، لكي أترك المجال للمعلّقين أن يسرحوا ويمرحوا بحرية كاملة ودون تدخُّل، وذلك لكي لا يتحوّل الأمر إلى مناوشات لا علاقة لها بموضوع المقالة. وهنالك سبب آخر على قدر كبير من الأهميّة هي أن الكثير من التعليقات لا يُعرف مصدرها، أي أنّ المُعلّق يختبئ وراء أسماء مستعارة، وقد يكون هذا شخصًا واحدًا متخفّيًا بكنى كثيرة. ولكن، وحتّى لو لم يكن الأمر كذلك، فإنّ التخفّي والتقنّع بهذه الكنى يكشف في نهاية المطاف عن مستوى الجبن لدى هؤلاء البعض من المعلّقين. فمثلما أنّ الكاتب يكتب وينشر كلامه بالاسم الصريح، فحريّ بمن لا يوافقه الرأي أن يعبّر عن رأيه هو الآخر بحرية، ولكن، لزام عليه أن يوقّع باسمه الصريح أيضًا، وأن يتحمّل مسؤولية موقفه. فقط بهذه الحالة يمكن احترام الرأي المخالف. وفقط بهذه الحالة يمكن لسائر القرّاء أن يشكّلوا رأيًا مستقلًّا في نقاط الخلاف المطروحة.

غير أنّ بعض المعلّقين،
وأقول البعض منهم لكي لا أُتّهم بالتعميم، هم من صنف الذين يتستّرون وراء الكنى فقط لمجرد سنوح الفرصة ليهبّوا في جنح ظلام هذا الفضاء الافتراضي لبثّ سمومهم العنصريّة دون أيّ علاقة بموضوع المقالة طبعًا. ليس لديهم ما يقولون، وليس لديهم ما يُفيدون به سائر القرّاء. لا يُصحّحون معلومة ولا يُضيفون شيئًا جديدًا على ما ذكره الكاتب. كلّ همّ هؤلاء ينصبّ فقط على كيل الشتائم على أصل وفصل الكاتب كاشفين عن ذهنيّة عنصريّة مرضيّة ومُزمنة في آن معًا. ولمّا كنت لا أدري ما هي الطريق المُثلى لمعالجة هذا المرض، فلم يتبقّ لديّ سوى الدّعاء، لمن أو لما يؤمنون به، بأن يشفيهم ممّا حلّ بهم من هذه الأسقام.

ولكي أكون واضحًا بشأن هؤلاء النّفر من نُزلاء الوبر في القرن الواحد والعشرين، أقول بما لا يحتمل التأويل على أكثر من وجه. أنا لم أتستّر في يوم من الأيّام في كتابة رأي أؤمن به وأحاول إقناع الآخرين به، بل على العكس أحاول طرح الحجج التي تثير تلك الملكة التي وُهبناها لكي نستعملها، وذلك بغية أن نصل إلى سواء السبيل. نعم، لقد وُلدت في عائلة تنتمي إلى الطائفة الدرزية، مثلما يولد الآخرون على هذه الأرض في ملل وطوائف وأجناس وأمم مختلفة. كذا هي حال الدنيا منذ أن دَبّ البشر على هذه البسيطة.

ولا بدّ هنا من تذكير هؤلاء العنصريّين،
الذين على ما يبدو رضعوا هذه العنصريّة المقيتة مع حليب أمّهاتهم، بأنّي وقبل أن يولدوا هم وقبل أن يتعلّموا التشدُّق بالوطنية، قد قبعت في السجون العسكرية الإسرائيلية لرفضي خدمة جيش الاحتلال الإسرائيلي. لا أحبّ التغنّي بهذه الحقيقة، فهي ليست ذات بال في نظري. لا أريد أن أذكّر هؤلاء من هم الذين باعوا القدس وفلسطين بأبخس الأثمان، لا أريد أن أذكّر هؤلاء من اشتغل في بناء المستوطنات وتزويدها بالاسمنت والباطون، فالجميع يعرف هذه الحقائق ولم تعد تخفى على أحد. من هذا المنطلق، فأودّ تذكير هؤلاء فقط بحقيقة واحدة، وهي أنّي أنا بالذّات هو من يوزّع شهادات بالوطنية للآخرين ولا أنتظر شهادة من أحد، وخاصّة من صنف هؤلاء الجهلة الذين ترعرعوا على تراث الإسفاف والسفاسف.

وعلى كلّ حال، فهؤلاء الجهلة من المعلّقين العرب لا يختلفون عن صنف الجهلة من المعلّقين اليهود الذين يعلّقون على مقالاتي التي أنشرها بالعبرية. فهؤلاء أيضًا، يتّهمونني بالقومجية العربية ويطالبونني بأن أكتب عن جرائم الأسد، وجرائم سائر العرب والمجازر التي يرتكبونها بحقّ بعضهم البعض. هؤلاء لا يعرفون بأنّي أكتب عن كلّ ذلك بالعربية ولأهل العربية وأنّ بعض العرب يكيل لي الاتهامات المعكوسة. ما العمل في حال كهذه؟ الأمر بسيط، وهو مواصلة المسير والمضي قدمًا في طرح الحقائق دون النّظر إلى قوافل الجهل والعنصرية التي تتربّص بالفرد من كلّ جانب أيًّا كان مصدرها.

ومع أنّي لا أولي الانتماء الديني أيّ أهميّة، ولكن إذا كانت حقيقة انتمائي للطائفة الدرزية بمجرّد الولادة تغيظ هؤلاء الجهلة من أبناء جلدتنا، أيًّا كانت خلفيّاتهم، فإنّي أدعو لهم بالشّفاء من هذا المرض العضال. ولمّا لم يتبقّ من علاج لهذه الأمراض فعلى ما يبدو يجب الأخذ بالمقولة الشعبية ”آخر الدواء الكيّ“.

ولمّا كان انتمائي إلى هذه
الأمّة العربيّة، فإنّي أكتب بالعربيّة لأهلها، الذين هم أهلي أيضًا، بغية الإشارة إلى مكامن الخلل التي تعترض طريقنا. فما الفائدة من أن أكتب بالعربية وأسبّ إسرائيل واليهود فالصحافة العربية شرقيّها وغربيّها مليئة حدّ التخمة من أصناف هذه الشتائم التي أضحت كواتم عقول على رؤوس العرب.

لذا فإنّ الغاية من كلّ ما أخطّ هي محاولة شقّ مسرب يُفضي إلى جادة قويمة وسليمة، بدل التخبّط في أوحالنا الظليمة والعقيمة. إذن، والحال هذه، كيف يمكن لمن يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة أن يركن إلى طمأنينة في مثل هذا الوضع؟ أليس من واجب كلّ فرد فينا أن ينظر إلى نفسه في المرآة ليُقوّم هذا الاعوجاج في ذاته أوّلاً، قبل أن يكيل الاتّهامات للآخرين؟ ومثلما هي الحال مع الفرد، كذا هي الحال مع المجموع، أي مع الشعب والأمّة. فلقد آن الأوان أن ينظر هذا المجموع إلى نفسه في المرآة الذهنيّة لكي يقف على عوامل التخلّف الذي وجد نفسه فيه منذ قرون طويلة.

وخلاصة الكلام لمن يريد أن ينصت قليلاً:
لا الاستعمار ولا الصهيونية هما اللذان يقفان حجر عثرة أمام تطوير مناهج التعليم العربية وتطوير الجامعات العربية. نعم، ليس الآخرون هم من يقفون سدًّا منيعًا أمام تطوير العلوم في هذا العالم العربي المترامي الأطراف. هل هنالك من يمنع عربيًّا أيًّا كان من إجراء الأبحاث العلميّة لاكتشاف دواء لمرض؟ هل هنالك من يمنع أحدًا من العرب من أن يُطوّر جهازًا يفيد به شعبه أوّلاً والبشر تاليًا؟ هل هنالك من يمنع أحدًا من العرب من إجراء البحوث واكتشاف أسرار هذا العالم والكون المترامي الأطراف؟

فماذا يُقدم العرب للعالم في هذا الأوان؟ كلّ ما في جعبة العرب يظهر في السنوات الأخيرة على الملأ. فلقد شاع في السنوات الأخيرة تهافت العرب وافتخارهم بتسجيل أرقام قياسية في كتاب چينيس. فماذا نجد هناك؟

إليكم هذه النبذة عن الفتوحات العربية
في العصر الحديث. فمرّة يسجّل العرب أكبر صحن حمّص على الإطلاق، ومرّة يسجّلون أكبر طبق كنافة. مرّة يسجّلون أكبر مجموعة سبحات، ومرّة يسجّلون أكبر طائرة ورقية. مرّة يسجّلون أكبر عدد من ملاقط الغسيل معلّقة على اليد ومرّة يسجّلون أكبر قبّعة. وأخيرًا سمعنا أنّ الأردن، ما شاء الله، سجّل أكبر قنّينة مملوءة بالرّمل.
فيا سلام على هذه الفتوحات العلمية العربية!

ولأنّي أنتمي إلى هذه الأمّة المغلوب على أمرها، فإنّه يحزّ في نفسي أن أرى هذه الحال التي آلت إليها. ولأنّي أحاول النّظر في المرآة فإنّي أحاول وضع الإصبع على مسببات الخلل في مسيرة هذه الأمّة السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية. لكن، هنالك صنف من البشر لا يريدون أن يسمعوا ولا يريدون أن يفقهوا. إنّهم يركنون إلى جهلهم مفتخرين بشعارات كاذبة تدغدغ عواطفهم وعواطف العامّة. إنّهم لا يعرفون حتّى كتابة فقرة صغيرة بلغتهم، باللغة التي يفتخرون بها ويتشدّقون صباح مساء بأنّها لغة أمّهم، فيا لها من لغة ويا لها من أمّ.

وأخيرًا، وإزاء فتوحات چينيس العربية المذكورة آنفًا، فإنّي أعتقد أنّه آن الأوان لأن يسجّل العرب أنفسهم بوصفهم يعيشون في أفسد وأظلم أنظمة ومجتمعات على وجه الأرض، بل وأكثر من ذلك يستطيعون أن يسجّلوا أنفسهم أيضًا على أنّهم أسخف وأتفه شعب على وجه الأرض، ولا يستطيعون العيش إلا في ظل هذا الفساد والظلام. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 19 مايو 2012

----

متى تذهب السكرة وتأتي الفكرة؟



منذ جلاء الاستعمار القديم وخروج العالم العربي - وإن كان الخروج نسبيًّا - من قبضة الدول المستعمرة، لم يهدأ لهذا العالم العربي بال...

سلمان مصالحة

متى تذهب السكرة وتأتي الفكرة؟


الانتفاضات التي ضربت
أقطارًا عربيّة بعينها، دون سواها، منذ عام ونيّف لم تأت من فراغ. إذ أنّنا وبنظرة سطحيّة على هذه الأقطار يمكننا أن نضع إصبعنا على ظاهرة مثيرة للاهتمام بعيدًا عن الكتابة الرومانسية المُشبعة بالشعارات التي وصفت ما جرى في هذه الأقطار بأنّه ثورة. منذ البداية كان الشكّ يتملّكني حول هذه التسميات التي تُطلق جزافًا دون النّظر في الجوهر، أي بما يحمله المصطلح ثورة من معنى. لم أدّعِ في الماضي، مثلما لا أدّعي الآن، أنّ الأمور واضحة المعالم بما يكفي للولوج في عمق هذا الحدث الكبير، غير أنّي ومنذ البداية لم أشهد على الأرض بما يشي على أنّه ثورة بحقّ وحقيق.

منذ جلاء الاستعمار القديم وخروج العالم العربي - وإن كان الخروج نسبيًّا - من قبضة الدول المستعمرة، لم يهدأ لهذا العالم العربي بال. لقد ظهرت على الخارطة تقسيمات وأقاليم ودول عربية، على غرار ما حدث في أصقاع مختلفة من العالم. لقد كُتب الكثير وقيل الكثير عن هذه التقسيمات ولا حاجة إلى التكرار. غير أنّ ما يلفت الانتباه هو أنّ بداية الأنظمة في هذه الدول المُستحدثة كانت نوعًا من السير على خطى هذه المجتمعات الموروثة كابرًا عن كابر. وبكلمات أخرى، لقد تشكّلت هذه الأقطار حول نظام قبليّ ينهل من موروث هذه المجتمعات. هكذا انتظمت هذه الأقطار في في نظام الممالك والإمارات والسلطنات.

صحيح أنّ الاستعمار
قد انكفأ بصورة أو بأخرى، غير أنّ لعبة الأمم لم تنته في هذه البقعة من الأرض. وهكذا أضحت مسرحًا للتجاذبات بين معسكرين وقطبين اثنين قد برزا للعلن مع نهاية الحرب العظمى الثانية. المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي، الشيوعي، بقيادة الاتحاد السوفييتي. في خضمّ هذه الحرب الباردة بين القطبين أفلح بعض العسكر في الإطاحة ببعض الأنظمة في الأقطار العربية. ولمّا كانت المسألة القوميّة ما زالت في طور تشكّلها في هذه الأصقاع، فقد امتلأ الفضاء العربي في تلك ”الجمهوريات“ التي برزت على السطح بكلّ تشكيلات الشعارات العاطفيّة والرومانسية، عن الوحدة والاشتراكية والقومية وما إلى ذلك من كلام كبير لم يكن يستند في الواقع إلى أيّ رصيد لديها.

وهكذا، سرعان ما تحوّل هؤلاء العسكر إلى منظومة سلطويّة كلّ همّها منصبّ على البقاء في الحكم، أو تحوّل هؤلاء العسكر إلى منظومة قبليّة وطائفيّة تتستّر خلف شعارات قوميّة ومعاداة الامبريالية، وما إلى ذلك من أصناف البلاغة العربية. لقد مرّت عقود طويلة على حكم هؤلاء العسكر فلم يحقّقوا شيئًا لكلّ هذه الشعوب العربية التي اغتُصبت وغُلبت على أمرها. لقد كان الاستبداد واستعباد العباد سمة ملازمة لتلك الأنظمة. وها نحن، وبعد عقود من حكم هؤلاء العسكر واستبدادهم نرى أنّ كلّ تلك الشعارات قد ذهبت أدراج الرياح. فعادت كلّ هذه الـ”شعوب“ إلى نقطة الصفر.

لذا، ليس من قبيل الصدفة
أن تضرب موجة الانتفاضات العربية، المسمّاة ”ربيعًا“ بالذّات تلك الأقطار العربية التي اغتصب فيها العسكر السلطة وأخذوا يورّثون فيها الحكم، كما لو كانوا ملوكًا. وكان هؤلاء بالطبع يجدون من يصفّق لهم ويُلقي على مسامعهم الأشعار والمدائح في جلسات ما يُسمّى ”مجلس شعب“ وما إلى ذلك من مجالس صوريّة في حقيقتها. في الحقيقة كان بإمكان الرئيس أن يعرض على هذه المجالس المزوّرة قرارًا يقول بأنّ الشمس تُشرق من المغرب وتغرب في المشرق، وبالطبع كانت تلك المجالس ستبصم بالعشرة على قرار الرئيس الواحد الأحد الفرد الصمد، بلا أدنى شكّ.

والحقيقة المرّة هي أنّ كلّ التيّارات التي كانت، ولا تزال، تُسمّى يسارًا، لم تكن كذلك في حقيقتها. بل يمكن القول يقينًا، إنّها كانت حركات انتهازية تتزلّف إلى هؤلاء السلاطين - ربّما الأصحّ السراطين - الجدد الذين استحكموا بالبلاد واستبدّوا بالعباد. لم تُقدّم تلك الحركات بديلاً تنويريًّا وديمقراطيًّا لهذه الشعوب، بل استخدمها العسكر الطائفي والقبلي لمآربه، فقبلت هي بالفتات الممضوغ المتروك لها على موائد هؤلاء اللّئام.

لست من أنصار الأنظمة الملكيّة،
وعلى وجه الخصوص العربيّة منها، بأيّ حال من الأحوال. غير أنّ الحقيقة التي يجب أن تُقال هي أنّ الأنظمة الملكية العربية وعلى كلّ سيّئاتها التي لا تُحصى، فقد كانت على الأقلّ أرحم بشعوبها من كلّ تلك التي تُسمّى جمهورية وثورية وما إلى ذلك من مسمّيات كاذبة. ليس هذا فحسب، بل إنّ الاستعمار ذاته كان أرحم من هذه الأنظمة على البشر والحجر والشجر. لذا، فبعد أن طفح الكيل انتفض النّاس في تلك الأقطار على هذه الأنظمة الفاسدة والمفسدة في الأرض.

لقد آن الأوان لأن تذهب السكرة. لقد آن الأوان لأن تأتي الفكرة.

والعقل وليّ التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 14 مايو 2012

***

عن هـويّة العرب في إسرائيل


حول مسألة الهوية - مقالات من الأرشيف (1994):

ولكن، ومن جهة أخرى، وإلي جانب هذا الوضع الموضوعي الّذي وجدت نفسها الأقليّة العربيّة فيه، فهنالك أمور أخرى جرت خلال هذه العقود كان لها أبعد الأثر في إحداث البلبلة في كلّ ما يتعلّق بهويّة هذه الأقليّة المغلوب على أمرها...

ســلمان مصــالحة || عن هـويّة العرب في إسرائيل

في الآونة الأخيرة بدأت تظهر على السّاحة العربيّة داخل إسرائيل بعض التّساؤلات حول مكانة العرب الفلسطينيّين في إسرائيل، ومن خلال تلك التّساؤلات تبرز على السّطح قضايا تنصبّ جلّها في خانة التّخبّط الّذي صار من نصيب تلك الأقليّة في كلّ ما يتعلّق بهويّتها. وطوال العقود الماضية لم تحاول النّخبة المثقّفة منهم التّطرّق إلى هذه القضايا لكونها مليئة بحقول من الألغام. وبدل البحث في هذه المسائل بكلّ جرأة من أجل تدارك المطبّات فقد انتشرت بين صفوفهم توجّهات رومانسيّة تضخّ ماء حياتها من آبار الماضي الّتي أخذت تنضب مع مرور الزّمن. تلك التّوجّهات الرّومانسيّة نبعت من ذلك الأمل بأنّ الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل النّكبة، بفضل الأمّة العربيّة الممتدّة من الخليج إلى المحيط.

غير أنّ الماضي لا يعود أبدًا. بل وأكثر من ذلك، فمع مرور الزّمن يأخد الماضي بالابتعاد ومعه تبتعد الأحلام الرّومانسيّة. وخلال كلّ هذه الفترة بقيت هذه الأقليّة كفرع مقطوع من الشّجرة الأمّ فغرزت نفسها في ترابها، هذا التّراب الّذي تحوّل إلى مَسكَبٍ لبسَ صورة أخرى بقيام إسرائيل فيه. لقد انصبّ جلّ همّ هذا الفرع المقطوع من الشّجرة على الإبقاء على جذوة الحياة في الوطن رغم كلّ هذه المحن. ويمكن القول إنّ هذه المهمّة قد تمّ تنفيذها برغم كلّ العراقيل الّتي واجهتها. لقد كان للقلّة القليلة من المثقّفين في تلك الفترة، وعلى وجه الخصوص أولئك الّذين تحلّقوا في مدار الشّيوعيّين حصّة الأسد في الحفاظ على الوجود العربيّ الوطني في الوطن المقطوع.

وهكذا ابتعد الماضي رويدًا رويدًا وظهر تيّاران داخل الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل. وكلاهما، على الفرق الكبير بينهما، لم يرد أن يعوّل على البلاغة العربيّة المسموعة من الاذاعات العربيّة. التّيّار الأوّل هو تيّار وطنيّ حاول لمّ شظايا هذا المجتمع وصهرها في بوتقة جديدة. ذلك هو التّيّار الّذي تحلّق في مدار الشّيوعيّين قد فهم اللّعبة وموازين القوى فقد استمرّ الالتزام بموقفه من قرار التّقسيم برغم كلّ الصّعوبات، أي أنّه قبل بقيام إسرائيل، وفي نفس الوقت استمرّ بالمطالبة بإقامة دولة فلسطينيّة إلى جانب إسرائيل، هذا الموقف الّذي يفهم الجميع الآن أنّه كان الموقف السّليم الّذي يجب اتّخاذه، ولو تمّ الأخذ به لما كانت الأوضاع الفلسطينيّة على ما هي عليه الآن. والتيّار الآخر هو تيّار كثير العدد أيضًا ولكنّه تيّار مذدنب صبّ جلّ اهتمامه على قضايا صراع البقاء والحياة، دونما اهتمام بالجوانب القوميّة والوطنيّة. هو التّيّار الّذي اهتمّ بالقضايا اليوميّة وبالمصالح الشّخصيّة ملقيًا عرض الحائط بكلّ ما يتعلّق بقضايا قوميّة ووطنيّة. هذا التّيّار الّذي كان يدلي بأصواته في الانتخابات لصالح الأحزاب الصّهيونيّة على جميع تصنيفاتها، وحتّى تلك المتديّنة والعنصريّة منها. وعلى هامش هذين التّيّارين كان هنالك أفراد وحركات صغيرة جدّا استمرّت في حمل الرّايات القوميّة العربيّة على جميع شعاراتها المعروفة. وعلى الرّغم من الفارق الكبير بين التّيّارين، إلاّ أنّهما قد التقيا في النّهاية ضمن الجدول الّذي حفرته لهما الصّهيونيّة متمثّلة بدولة إسرائيل الّتي قامت في الوطن.

ولكن، ومن جهة أخرى، وإلي جانب هذا الوضع الموضوعي الّذي وجدت نفسها الأقليّة العربيّة فيه، فهنالك أمور أخرى جرت خلال هذه العقود كان لها أبعد الأثر في إحداث البلبلة في كلّ ما يتعلّق بهويّة هذه الأقليّة المغلوب على أمرها. من بين تلك الأمور الانقطاع الفيزيائي عن الجسد العربيّ وقد تمثّل ذلك في الحدود المغلقة طوال عقود من الزّمن، إضافة إلى ذلك يمكننا أن نذكر تلك النّظرة الغابنة الّتي نظر فيها العالم العربيّ المحيط إلى هذه الأقليّة، حيث اتّهمت في الكثير من الأحيان كما لو أنّها كانت متعاونة مع الصّهيونيّة. ولكنّ هذه الأقليّة قد كظمت غيظها جراء هذا الغبن وبقيت في وطنها وأبقت على هذه الهويّة على جميع إشكالاتها الرّومانسيّة.

يدور الحديث في الآونة الأخيرة عن القضيّة الّتي يطلق عليها البعض مصطلح أسرلة الأقليّة العربيّة في إسرائيل، وهنالك من بين المثقّفين من ينفي ذلك، على الرّغم من أنّه لا يقدّم أيّ إثبات وجيه لمقولاته. غير أنّي أريد أن أؤكّد هنا أنّ هذه الأسرلة هي حقيقة وواقع لا يمكن أن يتجاهلهما ذوو البصر والبصيرة. وإلى جانب ذلك الوضع الموضوعي الّذي نشأ بعد النّكبة فثمّ أمور طرأت خلال هذه العقود قد عمّقت هذا التّوجّه في صفوف الأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل. حينما بدأت تظهر في منظّمة التّحرير التّوجّهات الواقعيّة الّتي تقبل بقيام إسرائيل في الوطن المشطور فقد بدأت بموازاة ذلك تتقهقر تلك التّوجّهات الرّومانسيّة في صفوف العرب في إسرائيل. أي أنّه كان للتّوجّه الواقعي في صفوف منظّمة التّحرير حصّة ودور كبير في صهر هذه الأقليّة في الكيان الإسرائيلي. فإذا كانت منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، ”الممثّل الشّرعي والوحيد“، للشّعب الفلسطينيّ قد تنازلت عن حلمها، فقد وجدت هذه الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل نفسها مقطوعة مرّة أخرى من جسد شعبها هي.

غير أنّ لهذه البلبلة أسباب أخرى، وتلك هي أسباب تتعلّق بماهيّة وجوهر إسرائيل، حيث أنّ إسرائيل، كما تعرّف نفسها، هي دولة يهوديّة قامت من أجل اليهود، وقد قبلت بوجود أقليّة عربيّة فيها، غير أنّ هذه الأقليّة هي دائمًا تأتي في المرتبة الثّانية أو الثّالثة في تدريج هموم هذه الدّولة. وهكذا فإنّ الوضع الّذي نشأ يجعل الأقليّة العربيّة في إسرائيل من أتعس الأقليّات في هذا العالم. وسبب هذه التّعاسة هو انعدام الأحلام لديها. فجلّ اهتمامها يتحوّل إلى قضايا حياتيّة يوميّة، والقضايا الحياتيّة اليوميّة ستؤدّي في النّهاية إلى تشرذم هذه الأقليّة إلى حمائل وطوائف، وهذه هي الحقيقة الجوهريّة لهذا المجتمع العربيّ، تذوب ضمن الكيان الإسرائيلي. وهذا ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع.

ومصطلح الأسرلة الّذي يحاول البعض إطلاقه، ليس هو مجرّد شعار فحسب، إنّما هو حقيقة ظاهرة للعيان ولا يمكن تجاهلها من خلال إطلاق شعارات لا تستند إلى أرض الواقع، ولكي أبيّن لكم ما أرمي إليه فها أنا سائق لكم بعض الأمثلة للتأكيد على ما أقول.

أوّلاً، من ناحية الموقف السّياسيّ فإنّ جميع العرب في إسرائيل أصبحوا يرون أنفسهم جزءًا لا يتجزّأ من الكيان السياسيّ الإسرائيلي، فيَنتخبون ويُنتخبون، وينصبّ جلّ اهتمامهم على قضايا المساواة المدنيّة في الدّولة اليهوديّة.

وثانيًا، وهذه هي قضيّة جوهريّة، يلاحظ المراقب ذلك التّدهور الحاصل للّغة العربيّة في صفوف أفراد تلك الأقليّة. لقد نشأ جيل كامل يتحدّث بلغة هي خليط من العبريّة والعربيّة. ويجب علينا ألاّ ننسى أنّ من أهمّ نجاحات الصّهيونيّة هو بعث اللّغة العبريّة من جديد لتصبح لغة تخاطب ولغة كتابة وإبداع، وإذا كان العرب في إسرائيل قد استوعبوا هذه اللّغة، لجميع الأسباب الموضوعيّة الّتي قد تكون صحيحة، وتبنّوها كلغة تخاطب وكتابة فإنّهم بذلك يرفعون راية أهمّ الإنجازات الصّهيونيّة. إنّ من يتجوّل داخل المدن والقرى العربيّة في إسرائيل فلا شكّ أنّه سيلاحظ أنّ اللاّفتات على الحوانيت والمتاجر قد كتبت في الكثير من الأحيان باللّغة العبريّة. كما يمكنني هنا أن أسوق مثالاً آخر، وهو أنّ صحيفة ”يديعوت أحرونوت“ العبريّة هي أوسع الصّحف إنتشارًا بين صفوف العرب في إسرائيل. أليست هذه الحقائق تشير إلى أسرلة الأقليّة العربيّة في إسرائيل؟ فاللّغة هي ليست وسيلة تخاطب فحسب إنّما هي وجود حضاري كامل يؤثّر على مفاهيم وتفكير من يتكلّمها.

وثالثًا، وهذا هو مثال في غاية الأهمّيّة، وفيه ما يشير إلى هذه الهويّة الجديدة الّتي نشأت لدى العرب في إسرائيل. على الرّغم من الشّعارات الّتي يرفعها، بين الفينة والأخرى، السياسيّون والمثقّفون من بين العرب في إسرائيل، من مثل كون الشّعب الفلسطينيّ واحدًا لا يتجزّأ، فيجب ألاّ ننسى أنّ الإنتفاضة الفلسطينيّة في المناطق المحتلّة لم تتخطّى حدود الخطّ الأخضر، ولم تصل إلى ما يُطلق البعض عليه اسم ”فلسطينيّي الدّاخل“، وكلّ ما عمله هؤلاء هو مجرّد تضامن معنوي لا غير، وبين الحين والآخر فقد أرسل هؤلاء بعض المواد الغذائيّة لـ ”إخوانهم“ المحتلّين، ليس إلاّ. وإذا كان البعض يظنّ أنّ الخطّ الأخضر هو الفاصل السياسيّ الوحيد، فأودّ هنا أن الفاصل ليس خطًّا أخضر سياسيًّا فحسب إنّما هو فاصل نفسانيّ يحمل في طيّاته أمورًا هي أبعد وأعمق من ذلك بكثير. وللتّمثيل على ما أقول، يكفي أن ننظر إلى وضع القدس المحتلّة، فهنالك الكثيرون من العرب، مواطني إسرائيل، الّذين قدموا إلى القدس للدّراسة في الجامعة العبريّة أو مؤسسّات أخرى في المدينة، واستمرّوا في البقاء هنا بعد إنهاء الدّراسة وسكنوا في المناطق العربيّة من القدس المحتلّة. فهؤلاء، وهم ليسوا قليلي العدد، لم يشاركوا بأيّ صورة كانت بالانتفاضة الفلسطينيّة الّتي شملت القدس الفلسطينيّة المحتلّة. وعلى الرّغم من كون هؤلاء ينتمون إلى الطّبقة المثقّفة الّتي ترفع شعارات الانتماء للشّعب الفلسطينيّ إلاّ أنّهم لم يكونوا جزءًا من الانتفاضة، كما أنّهم لم يضربوا في أيّام الإضرابات المتعدّدة بل ذهب كلّ منهم إلى عمله في المؤسّسات الإسرائيليّة. هذه الحقيقة هي أكبر إثبات على أنّهم رأوا أنفسهم جزءًا من الهويّة الإسرائيليّة، كما أنّهم كانوا يتنقّلون بحريّة ويعبرون الحواجز رافعين الهويّات الإسرائيليّة، وفي الحقيقة لم يختلفوا بذلك عن سائر المستوطنين الإسرائيليّين في المناطق المحتلّة رغم الفارق الواضح بين الطّرفين. هذه هي الأسرلة على أرض الواقع، وقد تستخدم إسرائيل هؤلاء في المستقبل حينما يدور الحديث عن مستقبل القدس. قد يثير هذا الكلام حفيظة الكثير من النّاس، لكن آن الأوان إلى طرح جميع القضايا على جميع الإشكالات المترتّبة عنها. وفقط من خلال طرح جميع التّساؤلات يمكننا الوصول إلى رؤى مستقبليّة سليمة.

***
نشرت المقالة في: ”الحياة الجديدة“، رام الله، 12 ديسمبر 1994
____

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!