الجمعة، 1 ديسمبر 2017

قرار التقسيم: سبحان الذي يُغيّر ولا يتغيّر


حريّ بالذي يُطالب باحترام قرار التقسيم أن يحترم التاريخ وأن يجري حسابًا مع النّفس بغية الوصول إلى مسبّبات كلّ هذا الفشل الفلسطيني الذي يخيّم فوق رؤوس الجميع، قيادات وشعبًا طوال عقود.

سلمان مصالحة ||

قرار التقسيم: سبحان الذي يُغيّر ولا يتغيّر


العنوان هو مقولة شعبية تُطلق على صنف من البشر الذين تراهم بعد مرور زمن وتبدّل الأحوال من حولهم يتحوّلون إلى إطلاق شعارات هي في جوهرها نقيض لما دأبوا على إطلاقه في ما مضى من عمرهم. ومناسبة هذا الكلام الآن هي ما أشيع من أخبار عن أنّ وزارة الخارجية الفلسطينية ”تطالب المجتمع الدولي باحترام قرار التقسيم.“

هكذا، إذن. بعد مرور عقود طويلة على التحوّلات التاريخية الكبرى التي حصلت في هذه البقعة من الأرض تطالب الآن هذه الخارجية الفلسطينية احترام قرار التقسيم. فماذا عدا مما بدا الآن؟

لو أننا عدنا قليلاً إلى الوراء وإلى أجواء ردود الفعل العامة، عربيًّا وفلسطينيًّا، في ذاك الأوان الذي صدر فيه قرار التقسيم، فماذا نجد؟

لقد كان ثمّة إجماع عربيّ وفلسطينيّ وبين كافّة التيّارات السياسية من اليمين واليسار على رفض التقسيم، هذا القرار الذي تطالب الآن قيادات فلسطينية باحترامه. فها هو نائب رئيس الهيئة العربية العليا في ذلك الأوان، جمال الحسيني، يُصرّح في حديث صحفي: ”سنقاوم التقسيم بكلّ ما أوتينا من قوة، وإذا أراد الله وزلنا من الوجود أثناء مقاومتنا هذه قبل أن نصل إلى هدفنا المنشود، فسيتولّى عرب الأقطار الشقيقة هذه المقاومة بعدنا.“ (جريدة ”الوحدة“، 30 ديسمبر 1946)

وحين بدأ يظهر الفشل العربي على الملأ العالميو وخاصّة بعد تبدّل موقف الاتحاد السوفييتي من التقسيم، كما تبيّن من خطاب غروميكو في الجمعية العمومية، وهو الخطاب الذي شكّل مفاجأة للجميع، فإنّ موقف الجامعة العربية بقي على ما هو عليه من رفض قرار التقسيم. فها هو عبد الرحمن عزام باشا، الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت يُصرّح على الملأ في نيويورك: ”إن الاقتراح الروسي الذي أبداه المسيو جروميكو في الجمعية العمومية لهيئة الأمم بشأن إنشاء دولتين للعرب واليهود، أو دولة ثنائية في فلسطين اقتراح لا يقبله العرب. ثم قال إنّ الحل العملي الوحيد هو أن تنشأ دولة يسيطر عليها العرب ويكون اليهود فيها أقلية.“ (جريدة ”فلسطين“، 16 مايو 1947)

حتّى خطاب غروميكو في الجمعية العمومية كان موقف الشيوعيين الفلسطينيين رافضًا بحزم قرار التقسيم. هذا ما تؤكّد عليه عصبة التحرّر الوطني في خطابها: ”تعود عصبة التحرر الوطني وتؤكّد من جديد رفضها الباتّ لمشروع التقسيم“. ليس هذا فحسب، بل وتؤكّد هذه العصبة على أنّها ”تؤيد جميع الخطوات التي تتخذها الجامعة العربية والهيئة العربية العليا وجميع القوى الوطنية في العالم العربي في سبيل مقاومة التقسيم ومن أجل جلاء الجيوش البريطانية وفي سبيل تحرير فلسطين من الاستعمار والصهيونية.“ (جريدة ”فلسطين“، 17 أكتوبر 1947).

غير أنّ هؤلاء الشيوعيين قد غيّروا موقفهم لاحقًا تمشّيًا مع موقف الاتحاد السوفييتي وأصبحوا من أشدّ دعاة التقسيم. بل، وأبعد من ذلك فقد عادوا وتوحّدوا مع الشيوعيين اليهود في حزب واحد  دخل الكنيست، كما واحتفلوا باستقلال إسرائيل، ليس في إسرائيل فقط بل وفي خارج البلاد.

إنّ أكثر ما يشدّ انتباه المرء المتابع لما يجري في هذه الحلبة من الصراع اليهودي-العربي، الإسرائيلي-الفلسطيني وخلال كلّ هذه العقود الطويلة، هو هذه البلبلة أو هذا الارتباك العربي، والفلسطيني بخاصّة في مواجهة المستجدّات على الساحة. فبعد سبعة عقود من رفض قرار التقسيم والنكبة التي حلّت بالفلسطينيين، ها هي القيادات الفلسطينية في هذا الأوان تستجدي الآن المجتمع الدولي بـ”احترام قرار التقسيم ذاته“.

لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا. غير أنّ في الأمر ما هو أكبر من ذلك، فهو دليل صارخ على الوضع الفلسطيني المأزوم، منذ بداية الصراع، بقيادات فلسطينية ومن جميع التيارات السياسية التي لا تعي حقيقة هذا العالم العربي من حولها، كما لا تعرف التعامل مع العالم بأسره. وكلّ هذا ناهيك عن التعامل مع الطرف الإسرائيلي في هذا الصراع المزمن.

حريّ بالذي يُطالب باحترام قرار التقسيم أن يحترم التاريخ وأن يجري حسابًا مع النّفس بغية الوصول إلى مسبّبات كلّ هذا الفشل الفلسطيني الذي يخيّم فوق رؤوس الجميع، قيادات وشعبًا طوال عقود. إنّ الاستمرار في بيع الشعارات والتباكي على الماضي والوقوف على الأطلال لن يجدي هذا الشعب نفعًا.

وعلى هذه الخلفية، فإنّ الفلسطينيّين هم بحاجة ماسّة إلى اختيار قيادات من نوع جديد تعرف التعامل مع هذا العالم المستجدّ من حولهم. لهذه الغاية هم مدعوّون إلى نبذ كلّ القيادات القديمة، فتحاوية وحمساوية، وإحالتها إلى التقاعد. فعلى كلّ هذه القيادات، دون استثناء، تقع مسؤولية الفشل الفلسطيني. بدون استبدال هذه القيادات لن يصل الفلسطينيون إلى سواء السبيل.
*
الحياة، 2 ديسمبر 2017


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات