على خلفية هذه المستنقعات العربية التي يغنّي فيها كلّ بلد عربيّ على ويلاه، يبدو الفلسطينيون بأنّهم الحلقة الأضعف وهم على شفا الغرق..
سلمان مصالحة
حين تكون فلسطين مجرّد شعار
عندما تروح السكرة تجيء الفكرة، كما يُقال في المأثورات الشعبية. عندما شاع في الأخبار أنّ الرئيس الأميركي عازم على الإعلان عن اعتراف أميركا بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثارت ثائرة البلاغة العربية والإسلامية. ”القدس خط أحمر“ انتشل البعض من حماة مخازن البلاغة شعارًا جاهزًا وأطلقوه في الأثير.
الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كان سبّاقًا إلى حلبة المبارزة البلاغية. أليست تركيا تترأس الآن منظمة التعاون الإسلامي؟ لقد دعا إلى مؤتمر عربي وإسلامي في إسطنبول على خلفية القرار الأميركي، محذّرًا من أنّ تركيا ستُحرّك العالم الإسلامي بأسره، وستقطع العلاقات مع إسرائيل إذا ما اعترف الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وهكذا، راحت السكرة وجاءت الفكرة. فقد تقاطر إلى إسطنبول أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ، والتأموا على موائد السلطان العثماني الجديد، وقد يكونون تناولوا أفخم المأكولات من المطبخ التركي الغنيّ، ثمّ دلفوا إلى غرف مغلقة لتحرير البيان الختامي. بلا شكّ فقد احتاجوا إلى مترجمين من بلدانهم لإصلاح ذات البين البلاغي في صياغة البيان الختامي ليكون حاضرًا بألسن شتّى، وذلك لكي يحمل أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ هذه البلاغة التليدة والبليدة ويشيعوها على رعاياهم في أصقاع الأرض التي يمثّلونها.
هل نعيد إلى الأذهان أنّ قضيّة القدس، مثلما هي قضيّة فلسطين بأسرها، لم تكن في يوم من الأيام قضيّة العرب أو المسلمين الأولى. وللاستدراك نقول، إنّها كانت قضيّة أولى، لكن في الشعار فقط. فطوال عقود شكّلت قضيّة فلسطين المنفذ الذي تنسرب منه الزعامات العربية هاربة من التعامل مع قضاياها الداخلية الملحّة. وطوال عقود طويلة رفع الزعماء المستبدّون في الكيانات العربية شعار ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة“ لكي يكبتوا به أصوات الشعوب العربية الباحثة عن الحرية وعن حياة كريمة في أوطانها.
في العقود الأخيرة دخلت على خطّ المزايدات في المسألة الفلسطينية قوّتان إقليميّتان، هما إيران وتركيا. ففي الوقت الذي بلغ فيه الانهيار العربي أوجه وعلى جميع الصعد، برزت أصوات المتاجرة بفلسطين، قادمة أوّلًا من حدود العرب الشرقية والمتمثّلة بملالي إيران، ثمّ لاحقًا الأصوات القادمة من حدود العرب الشمالية والمتمثّلة بالسلطان العثماني إردوغان. وفي هاتين الحالتين فإنّ ما يدفع هؤلاء إلى المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية هو البحث عن المصالح الإيرانية والعثمانية في بلاد العرب المأزومة بقياداتها وزعاماتها والمهزومة بسياساتها وكياناتها.
يمكن تشبيه الحال العربية في هذا الأوان بمستنقعات موحلة يتخبّط فيها العرب للخروج من المآزق فيغوصون أكثر في أوحالهم التي هي من صنع أيدي زعاماتهم ونخبهم التي طالما تملّقت المستبدّين بلا استثناء. بعد عقود طويلة من الاستقلالات الوطنية لا يمكن مواصلة النحو باللائمة على الاستعمار الأجنبي الذي جلا من زمان. آن الأوان للحديث عن الاستعمار ”الوطني“ المتمثّل بكلّ هذه الزعامات القبلية والطائفية التي أبّدت نفسها في السلطة هادمة البلاد على رؤوس العباد.
على خلفية هذه المستنقعات العربية التي يغنّي فيها كلّ بلد عربيّ على ويلاه، يبدو الفلسطينيون بأنّهم الحلقة الأضعف وهم على شفا الغرق. وفي هذه الحال لا يستطيع الفلسطينيون انتظار فرج يأتيهم من أبناء جلدتهم الغارقين بأوحالهم هم.
هكذا، وفي هذه الأوحال المتلاطمة وجد الفلسطينيّون المشرفون على الغرق أنفسهم يتشبّثون بقشّة من هنا وبقشّة من هناك. مرّة يتشبّثون بقشّة ترميها إيران في مستنقع غزّة ومرّة بقشّة يرميها إردوغان في مستنقع الضفّة. حريّ بالقول، أجاءت هذه القشّة من هنا أو هناك فهي عظمة تُلقى لاستدار العواطف ليس إلاّ، بينما هي تشقّ الطريق لدفع المصالح الإيرانية والتركية على حساب العالم العربي، رجل العالم المريض في هذا الأوان.
وفوق كلّ ذلك نرى الجميع يرفع على رؤوس الأشهاد شعار القدس التي لا يعرفون من تضاريسها وجغرافيتها غير ”الأقصى“. وهكذا، فعندما يتمّ اختزال القضية الفلسطينية بالقدس، وعندما يتمّ اختزال القدس بالأقصى، فلن يبقى شيء غير الشعارات، بينما يواصل العرب التخبّط حتّى الغرق في المستنقعات التي لا يبدو أنّ هنالك من يملك وسيلة للخروج منها.
*
الحياة، 27 ديسمبر 2017
0 تعليقات:
إرسال تعليق